مرور 75 سنة على اكتشاف أوغاريت: مدينة الأبجدية الأولى والتنويط الموسيقي الأقدم..

TT

تحتفل الأوساط الثقافية والأثرية السورية هذا العام بمرور 75 سنة على اكتشاف موقع مدينة أوغاريت (رأس الشمرة) الشهيرة قرب مدينة اللاذقية على شاطئ المتوسط. ولقد عرفت أوغاريت بأنها أول من قدمت أبجدية للعالم وكذلك أول من قدمت نوتة موسيقية.

ويتجلى هذا الاحتفاء الذي انطلق مع بداية شهر أبريل (نيسان) الفائت اذ كان اكتشاف أوغاريت في هذا الشهر من عام 1929 على يد العالم الفرنسي الشهير كلود شيفر، من خلال مهرجانات ثقافية ومحاضرات ومعرض أثري في فرنسا وتكريس الفعاليات الثقافية في مهرجان المحبة القادم خلال شهر اغسطس (آب) في اللاذقية للاحتفاء بأوغاريت وغير ذلك من الفعاليات.

* موقع أوغاريت وقصة اكتشافها

* تتوضع أطلال مدينة أوغاريت على تلة مرتفعة بعض الشيء يمكن للزائر ان يشاهد شاطئ المتوسط من بين أطلالها. وهي تبعد عن مدينة اللاذقية 15 كلم شمالاً، يمكن الوصول إليها بطريقين، واحد متفرع عن طريق الشاطئ الأزرق والآخر متفرع من طريق اللاذقية ـ كسب.

وأوغاريت كانت في الألف الثاني قبل الميلاد عاصمة مملكة تتطابق مساحتها مع مساحة محافظة اللاذقية الحالية، وعرفت هذه المملكة في أوج عزها توسعاً مدنياً كبيراً، وشكل الشعب الكنعاني العنصر الأهم بين سكانها. وهي تمتد على مساحة عشرين هكتاراً، وتحدها ساقيتا الشبيب والدلبة اللتان تجتمعان لتصبا في موقع قريب يسمى منية البيضا. ولاكتشاف أوغاريت قصة مثيرة يرويها المؤرخ الراحل جبرائيل سعادة قائلاً:«في عام 1928 كان رجل من أهالي منطقة برج القصب اسمه محمود الزير يحرث حقله بالقرب من خليج يقع على بعد 10 كلم شمال مدينة اللاذقية، وبينما كان يقوم بعمله لاحظ أن المحراث يصطدم بجسم صلب ومن ثم وجد ورفاقه مدفناً قديماً مبنياً بالحجر المصقول وفي داخله كمية من الأواني الفخارية».

ونتج عن هذا الاكتشاف ان جاءت بعثة فرنسية اثرية برئاسة العالم الاثري شيفر ليبدأ تاريخاً طويلاً من الكشف الاثري، ما زال مستمرا الى يومنا هذا، وليعيد الى الوجود مدينة أوغاريت التي بدأ الإنسان بسكناها منذ الألف السابع قبل الميلاد.

كان أول كشف وتنقيب اثري في الموقع عام 1929 حين بدأت الحفريات فعليا، وفي وقت لاحق زار المكان العالم الفرنسي رينيه ديسو فلفت الانظار الى تل قريب يحمل اليوم اسم رأس الشمرة نسبة الى النبتة المسماة الشمرة (الشمار أو الشومر) التي تكسو سطحه. وبفضل الأدوات الصوانية التي عثر عليها تمكن المنقبون من تحديد تاريخ كل طبقة، فتبين لهم ان اكثرها مؤلف من طبقات عدة يعود أقدمها الى الألف السابعة قبل الميلاد، أما الطبقة العليا، حيث توجد آثار مدينة اوغاريت القديمة فتعود الى الألف الثاني قبل الميلاد. وقد عرفت عصرها الذهبي في القرنين الرابع عشر والثالث عشر ق.م. وأصبح من المعروف اليوم أن أوغاريت اندثرت نتيجة غزو في مطلع القرن الثاني عشر قبل الميلاد.

* تفوق وريادة

* من ناحية ثانية يورد الباحث السوري سجيع قرقماز الانجازات التي حققتها أوغاريت في عصرها الذهبي وما قدمته من تفوق وريادة، فيقول إنها قدمت أقدم ابجدية معروفة في العالم وأقدم تنويط موسيقي وجد حتى الآن وأقدم ملاحم واساطير متكاملة بعد الملاحم السومرية، وأول قالب صب للسبائك البرونزية والريادة في بداية السكن والاستقرار والزراعة والريادة في الملاحة، والتطور في القانون والترجمات والقضاء، بجانب الريادة في الفن الذي تشتهر به اللوحات الفنية الجدارية والتماثيل والأختام.

* جماليات الحضارة الأوغاريتية

* لقد برهن التنقيب الاثري على أن اوغاريت عرفت في القرنين 14 ـ 13 ق.م. حضارة يمكن بحق وضعها في مرتبة الحضارات الكبرى التي شاهدها الشرق القديم. وقد اعتمدت في نهضتها على التجارة والزراعة والصناعة. ففي مجال التجارة كانت أوغاريت مركزاً مهماً للمعادلات التجارية بين الشرق والموانئ البحرية على المتوسط بواسطة القوافل البرية وأسطول بحري تجاري مهم، يشهد على ذلك العدد الكبير من المراسي الحجرية وهدايا البحارة النذرية التي عثر عليها في موقعها وفي مرفأ منية البيضا. أما في مجال الزراعة فقد كان الزيتون والكرمة العنصرين المهمين اللذين تصدر منتوجاتهما الى اماكن عديدة، اضافة الى خشب البناء من الغابات المجاورة.

وفي مجال الصناعة اشتهرت أوغاريت ببعض الأصبغة والصوف المصبوغ بالارجوان وبالحفر على الخشب والعاج وتصنيع الأدوات الفخارية وبصناعة الزجاج والخزفيات.

واستوردت أوغاريت المواد الأولية اللازمة لصناعتها كالكهرمان واللازورد في المقابل والعاج والصحون المرمرية والحلي الخزفية والحجارة الصلبة والمواد المعدنية.

أما من الناحية العمرانية فتبدو أوغاريت في غاية الازدهار والنشاط، ففيها القصور والمعابد وشوارع تخترق أحياءها المختلفة ومجارير تمر تحت منازلها لتصريف المياه المستعملة. وقد عثر في القصر الملكي على عدة غرف كانت عبارة عن دواوين ووثائق، فكان هناك ديوان للوثائق الإدارية فيها لوائح بأسماء المدن والقرى التابعة للمملكة مع الضريبة المترتبة على كل منها ولوائح بالنقابات المهنية. وهناك ديوان للوثائق القانونية بينها العقود التي كانت تعقد بين السكان من بيع وشراء ووصايا وصفقات تجارية الخ.. وهناك أيضاً ديوان للمراسلة الدبلوماسية مع العالم الخارجي. وقد عثر ايضاً في المدينة على مكتبتين تابعتين لأفراد تحتويان على وثائق تعطينا فكرة عن المستوى الثقافي للمدينة.

* الكتابة

* إن أهم ما أوجدته الحضارة الأوغاريتية طريقة جديدة في الكتابة، فمن المعروف ان الشرق القديم في العصور التي سبقت القرن 14 ق.م كان يستعمل طريقتين في الكتابة: اما الطريقة الهيروغليفية حيث إن كل اشارة أو صورة ترمز الى صوت أو كلمة، واما الطريقة المسمارية الصوتية، حيث ترمز كل إشارة الى صوت. وكانت كل من هاتين الطريقتين تحتاج الى مئات الاشارات للتعبير مما كان يجعل الكتابة غاية في الصعوبة. فكان لا بد من اكتشاف طريقة أكثر سهولة وذلك بإيجاد أسلوب يسمح بكتابة الحرف مستقلاً عن اللفظ الذي يليه صوتياً ، كما هو الحال في ابجديته الحديثة. وأول مرة استعمل الانسان فيها هذه الطريقة السهلة كانت في أوغاريت، فقد عثر فيها على لوحات فخارية تحمل نصوصاً مكتوبة بأبجدية مسمارية لا يتجاوز عدد أحرفها الثلاثين والتي دعيت باللغة الأوغاريتية، ومن الجدير ذكره ان اللغة الأوغاريتية بعدما حلت رموزها وترجمت النصوص المكتوبة بها، ظهر تشابه كبير بينها وبين اللغة العربية، وقد وجد منها ما يقارب من الـ 700 كلمة هي نفسها في اللغة العربية. وعما يتعلق بالنوطة الموسيقية فقد اكتشف في اوغاريت رقيم يمثل أغنية منوتة بكلمات صورية وقد حل رموزها الباحث راؤول فيتالي ومكننا بذلك من سماع قطعة موسيقية متكاملة تعود الى الألف الثاني قبل الميلاد.