كليوباترا من التاريخ إلى الأسطورة في المتحف البريطاني

أحمد عثمان

TT

يقيم المتحف البريطاني في لندن عرضاً خاصاً لبقايا الملكة المصرية كليوباترا، أشهر نساء العالم القديم، بين 12 أبريل (نيسان) إلى 26 أغسطس (آب) المقبلين، وقد جمعت البقايا الأثرية لكليوباترا من عدة متاحف في أوروبا وأميركا وشمال أفريقيا، بينها ستة تماثيل مصرية لم تكن معروفة من قبل لتقديمها في عرض خاص باسم كليوباترا مصر من التاريخ إلى الأسطورة، ينتقل بعده إلى متحف مدينة شيكاغو الأميركية.

كليوباترا هي آخر الملوك الذين حكموا مصر القديمة، قبل أن تسقط تحت سيطرة الرومان منذ حوالي ألفي سنة. أي ثلاثين سنة قبل بدء التاريخ الميلادي. ورغم أنها ماتت قبل بلوغها الأربعين من عمرها فإنها أصبحت أكثر ملكات العالم القديم شهرة لقدرتها على السيطرة على قلوب الرجال وعقولهم. وهي اشتهرت في الأساطير الدرامية بسبب حبها ليوليوس قيصر ثم زواجها من خليفته مارك أنتوني (مرقص انطونيوس) وكتب عنها شكسبير مسرحيته الشهيرة «أنتوني وكليوباترا»، فصارت قصتها ترمز إلى مأساة المرأة الرومانتيكية.

كانت كليوباترا في آخر دولة الملوك البطالمة (البطالسة) التي خلفت الاسكندر المقدوني في حكم مصر حوالي ثلاثة قرون من الزمان. ولا شك أن كليوباترا هي أشهر ملكات العالم القديم على الإطلاق، إذ جمعت بين الدهاء والفتنة وأوقعت اثنين من أهم القادة الرومان في حبها، واستطاعت أن تجلس على عرش الإسكندرية وتمد حدودها إلى قبرص وسورية وفلسطين. بل إنها كادت تهزم إمبراطورية الرومان وهي بعد في عنفوانها، لولا أن العشاق لا يفقدون فقط رؤوسهم في الغرام بل في مواقع القتال كذلك.

كانت هناك عدة ملكات في العائلة البطلمية تحمل اسم كليوباترا، إلا أن آخرهن ـ كليوباترا السابعة ـ هي التي صارت أشهر ملوك هذه العائلة إطلاقاً، وقد حكمت مصر من عاصمتها في الإسكندرية 21 سنة من 51 إلى 30 قبل الميلاد.

في البداية شاركت كليوباترا أخاها بطليموس الثالث عشر العرش خلفاً لوالدهما حسب وصية الأب، وهي في الثامنة عشرة. إلا أن الخلاف سرعان ما نشأ بينها وبين أخيها وتطور إلى صراع للانفراد بالسلطة، وتمكن أخوها في النهاية من طردها من الإسكندرية. وفي تلك الحقبة كان وصول القائد الروماني بومبي «بومبيوس» إلى أرض الشام عام 65 ق.م. سبباً في أحداث تغييرات أساسية في طريقة حكم بلدان هذه المنطقة فأصبحت سورية ولاية رومانية منذ هذا التاريخ وصار الحاكم الروماني لسورية ـ ومقره انطاكية ـ هو المسؤول عن إدارة شؤون كل الأراضي الخاضعة للرومان في بلاد الشام، بينما ظلت بلاد ما بين النهرين خاضعة لسيطرة الفرس، ومصر تحت حكم العائلة البطلمية اليونانية، بينما تمكن الأنباط العرب من تدعيم حدود مملكتهم في جنوب فلسطين ومنطقة شرق الأردن إلا أنه سرعان ما نشب الخلاف بعد ذلك بين القادة الرومان أنفسهم في صراعهم على السلطة، وتنافس القائد العسكري المنتصر بومبي مع الإمبراطور يوليوس قيصر على الحكم، وتطور الصراع بينهما إلى حد المواجهة العسكرية عندما وصل جيش قيصر لمحاربة بومبي في سورية، فهرب بومبي إلى مصر وتبعه قيصر إليها.

جاء قيصر إلى الاسكندرية في ذات الوقت الذي كانت كليوباترا في منفاها تحاول استعادة عرشها في مصر فحاولت الاتصال به لمساعدتها في مواجهة أخيها، ووقع القائد الروماني في غرامها منذ أول لقاء، وساعدها في الجلوس على عرش مصر بعد موت أخيها بطليموس الثالث عشر.

وتوطدت العلاقة بين قيصر روما وملكة الإسكندرية عندما صاحبته في رحلة نيلية إلى الصعيد المصري، وأنجب منها ابناً سماه قيصرون.

ولحقت كليوباترا بقيصر بعد سفره إلى روما، فأقام لها استقبالاً رسمياً حافلاً وأمر بصنع تمثال ذهبي لها يوضع في معبد فينوس رمز الجمال. وأقامت كليوباترا وابنها عامين كاملين في روما ويقال إنها حذرت زوجها من الذهاب إلى مجلس الشيوخ يوم دبر خصومه قتله هناك، إلا أنه لم يصغ لنصيحتها وذهب ليواجه طعناً بالخناجر على درجات المجلس. وظلت كليوباترا في روما شهراً بعد مقتل قيصر أملاً في أن تتمكن من إعلان ابنها منه خلفاً لابيه في حكم روما، لكنها سارعت إلى الهرب عندما أدركت أن حياتها وحياة ولدها باتا في خطر، وعادت إلى قصرها بالإسكندرية حيث أشركت ابنها قيصرون معها في الحكم بعدما أعلنته ابناً لآمون.

مارك أنتوني بعد مقتل يوليوس قيصر خرج القائد مارك أنتوني مع أوكتافيوس (اغسطس قيصر) قيصر وليبيديوس لمحاربة المتآمرين على قتله، وأصبح ثلاثتهم يشكلون القيادة الرومانية الجديدة. وعندما استقر الحكم لهم صار أنتوني مسؤولاً عن شرق الإمبراطورية وأقام في أنطاكية بشمال سورية. وبعد بضع سنوات من مقتل قيصر التقت كليوباترا بخليفته مارك أنتوني، الذي كان يرغب في تمويلها لحملة عسكرية كان ينوي شنها لغزو بلاد الفرس. ودعا كليوباترا ـ ضمن حكام البلدان الشرقية ـ للقائه في مقره فتوطدت العلاقة بينهما، وسرعان ما حضر القائد الروماني لزيارتها في الإسكندرية وأقام عندها مدة عام. وبعد ثلاث سنوات من عودته أرسل مارك أنتوني رسالة إلى حبيبته يطلب منها الحضور إلى أنطاكية للزواج منه، بالرغم من أن القائد الروماني كان متزوجاً من شقيقة أوكتافيوس شريكه في حكم الإمبراطورية.

وأنجب أنتوني ثلاثة أطفال من كليوباترا، وأخذ يتنازل عن بعض ممتلكات روما بالشرق لصالح زوجته، في جزيرة قبرص ووسط سورية وجزء من الساحل الفينيقي وبعض الأراضي في فلسطين وفي أرض الأنباط شرق البحر الميت. وتوثقت العلاقة بين أنتوني وكليوباترا إلى درجة أنهما أصبحا متلازمين طوال الوقت حتى أثناء وجوده في جبهة القتال عند توليه قياده المعارك الحربية.

بطبيعة الحال لم يرض اوكتافيوس عن هذه العلاقة، وأعلن في روما أن مارك أنتوني يحاول نقل عاصمة الإمبراطورية الرومانية إلى الإسكندرية، حيث ينشئ هو وكليوباترا أسرة ملكية جديدة. وغضب مجلس الشيوخ على أنتوني بسبب تركه عاصمتهم، وسرعان ما أعلن الرومان الحرب عليه وعلى كليوباترا.

وخرجت الجيوش الرومانية لمواجهة أنتوني وكليوباترا في ساحة القتال دفاعاً عن مصالح روما، وكانت قوات أنتوني وكليوباترا منتصرة في البداية. ولكن بدلاً من انتظار الهجوم الروماني على الإسكندرية الذي كان يمكن صده بسهولة، خرجت كليوباترا مع أنتوني على رأس اسطولهما الحربي للقاء الرومان في عرض البحر. واختبأ اسطول الإسكندرية في ميناء أكتيوم اليوناني بالقرب من ساحل إيطاليا، بهدف مباغتة الرومان بهجوم على بلادهم.

لكن اوكتافيوس علم بالخطة، فقرر هو مفاجأتهم في أكتيوم في 2 سبتمبر (أيلول) 31 قبل الميلاد. وحتى عند هذه النقطة كان ممكناً أن ينتصر انتوني وكليوباترا لولا أن غادرت كليوباترا بسفينتها ساحة القتال فجأة، عائدة إلى الإسكندرية. ويبدو أن ذكاء كليوباترا في أمور الحرب كان أقل بكثير من ذكائها في أمور الحب، فلم يتمالك أنتوني هو الآخر مشاعره، وترك رجاله وحدهم وتبع حبيبته إلى الإسكندرية فانهار الأسطول واستسلم إلى اوكتافيوس، الذي صار الطريق مفتوحاً أمامه لدخول الإسكندرية بدون مقاومة. فسار أوكتافيوس إلى مصر بعد هذا النصر المفاجئ رافضاً التفاوض على أي شروط للصلح.

ولم يتحمل أنتوني مأساة الهزيمة أمام غريمه الروماني، فقتل نفسه بسيفه وحمله جنوده إلى قصر كليوباترا وهو ينزف آخر دمائه بينما هي مختبئة داخل ضريح بنته لنفسها ومعها كل كنوز عائلتها.

ولما علم الرومان بخطتها استولوا على الكنوز الموجودة في القصور الملكية، وتركوا الملكة سجينة في قبرها. وأدركت كليوباترا أن طريقها الوحيد لتضييع فرصة إذلالها على اوكتافيوس هي الانتحار هي الأخرى. فاستخدمت أفعى سامة للسعها فأنهت حياتها وهي بعد في التاسعة والثلاثين. ودفن اوكتافيوس الحبيبين معاً في مقبرة واحدة حسب وصية الملكة، وسقطت مصر تحت سيطرة روما عام 30 قبل الميلاد، بعد حسم الصراع بين روما والإسكندرية في معركة واحدة، قررت مصير العالم لعدة قرون بعد ذلك.

قصر كليوباترا كانت الصدفة وحدها هي التي ساعدت على ظهور حي بأكمله اختفى من مدينة الإسكندرية القديمة، وظل غارقاً في قاع البحر لأكثر من 16 قرناً من الزمان. إذ أدى زلزال عنيف ـ في القرن الثالث الميلادي ـ إلى انخساف منطقة القصور الملكية الواقعة شرق المدينة القديمة، بما تحتويه من قصور ومقابر لملوك أسرة البطالمة الذين حكموا مصر لثلاثة قرون قبل العصر الميلادي. ولكن منذ خمس وثلاثين سنة بينما كان الغطاس كمال أبو السادات يسبح عند الميناء الشرقي للإسكندرية، وقعت عيناه على شيء لم يكن من السهل عليه تصديقه. إذ وجد في قاع الميناء على عمق ستة أمتار من السطح، مدينة كاملة من القصور والأعمدة والتماثيل، غارقة أمام «قلعة قايتباي»، التي بناها المماليك في الإسكندرية، بمنطقة تبلغ مساحتها حوالي اثنين وعشرين ألف متر مربع.

وطلبت السلطات المسؤولة عن الآثار المصرية من هيئة اليونسكو العالمية مساعدتها في انتشال الآثار الغارقة، وعهدت اليونسكو إلى المعهد الأوروبي للآثار البحرية بتنفيذ المشروع، باشرت بعثة الغطس البحرية العمل في ميناء الإسكندرية قبل ست سنوات. واستخرج الغطاسون بالفعل ثلاثين قطعة حجرية من بينها تمثال لبطليموس كان طوله قبل أن يتحطم 12 متراً، ومسلات لرمسيس الثاني ووالده سيتي الأول، من ملوك الأسرة التاسعة عشرة. وأعلن فرانك غوديو مدير معهد الآثار البحرية قبل نهاية أكتوبر (تشرين الأول) عام 1998، عن العثور على بقايا قصور الملكة كليوباترا وحبيبها مارك أنتوني، غارقة عند قاع البحر في منطقة الميناء الشرقي لمدينة الإسكندرية وهكذا بعد ألفي سنة من موت كليوباترا وسقوط مصر في يد الرومان، تمكن الأثريون من العثور على قصرها غارقاً في ميناء الإسكندرية، الذي يحاول رجال الآثار تحويله إلى متحف تحت سطح الماء.

الإسكندرية كانت الإسكندرية عندما زارها سترابو ـ وهو باحث يوناني في علوم الجغرافيا والتاريخ ـ في أوائل التاريخ الميلادي تضم عدة مبان عامة وحدائق تشرف السلطات على العناية بها، إلا أن أجمل هذه المباني في رأيه هو الجيمنازيوم الرياضي. وكانت منطقة القصور الملكية أصبحت تحتل ثلث محيط الإسكندرية، وفيها يقع المتحف ـ الذي يتضمن المكتبة ـ الذي يمكن الوصول إليه عن طريق ممر عام وضعت به بعض المقاعد، كما بني منزل بالقرب من المتحف لإقامة الباحثين الذين يستخدمون المكتبة.

وتضم المنطقة الملكية كذلك المقبرة التي احتوت على مدافن الملوك البطالمة، ويخبرنا سترابو ان أول من دفن بها كان هو الإسكندر الأكبر، الذي وضع جسده أولاً في تابوت من الذهب ثم أعيد دفنه في تابوت من الزجاج ـ أو الرخام ـ بعد ذلك. كما ذكر سترابو فان القصور الملكية كانت تطل على الميناء مدهونة بألوان متعددة يتلوها المسرح ومعبد البوزيديون، وأن مارك أنتوني ـ بعد انسحابه مهزوماً من موقعة اكتيوم ـ شيد منزلاً له في الأرض النائية وسط الميناء وأسماه «تيمونيوم»، وقرر أن يعيش فيه وحيداً في عزلة عن العالم حتى نهاية حياته. ولكن لم تطل حياة القائد الروماني بعد ذلك إذ انتحر بعد عام واحد من بناء هذا المنزل، عندما وصلته شائعة كاذبة بأن حبيبته كليوباترا ماتت.

=