الجفاف أدى إلى نهاية عصر بناة الأهرام

أحمد عثمان

TT

انهارت دولة الملوك بناة الأهرام في ظروف غريبة منذ اربعة آلاف ومائتي سنة، وحتى الآن لا يعرف أحد السبب وراء هذا الانهيار. وكانت مصر قد توحدت تحت حكم سلطة سياسية مركزية، جعلت عاصمتها في منف. وبعدما بنى الملوك الفراعنة الأهرام الشامخة في الجيزة وسقارة، ضاعت سلطة ملوك الدولة القديمة بعد حوالي ألف سنة من وحدة الأرضين، وبعد عشرة قرون من قيام السلطة الحكومية التي أدت إلى سيادة الأمن وانتشار الرخاء، انهارت سيطرة الحكومة المركزية، وانتشرت المجاعات بين الناس لمائة سنة ولم يعرف حتى الآن سبب هذا الانهيار. ما الذي حدث في مصر ليقضي على حكم بناة الأهرام؟

كان عالم الآثار سليم حسن عثر قبل منتصف القرن الماضي على رسوم فوق قطع من الحجارة في منطقة أبي صير لأناس نحاف الجسم عاشوا عند نهاية الدولة القديمة. واستنتج سليم حسن أن المجاعات انتشرت في مصر، وهي التي أدت إلى سقوط عمر بناة الأهرام. وقبل علماء المصريات في العالم كله تفسير سليم حسن، ووافقوا على أن سقوط عمر بناة الأهرام كان نتيجة الجفاف الذي ساد البلاد مما نتج عنه قلة المحصول الزراعي. إلا أن الدكتور زاهي حواس مدير آثار الجيزة خالف هذا الرأي، وذهب إلى أن هؤلاء النحاف الذين ظهروا في الرسوم، بجوار الأهرام ما كانوا مصريين، وإنما كانوا من العرب الذين أغاروا على مصر. وأوضح حواس تفسيره هذا قائلاً: «كشفنا في منطقة أبو صير عن 20 منظراً لأحجار جيرية، تغير (تفسير) التاريخ تماماً وتجعلنا نعيد كتابة التاريخ من جديد. وأول هذه المناظر هو منظر لمجموعة من المواطنين يجلسون بعضهم مع بعض، وتظهر على وجوههم وأجسامهم (علامات) الضعف والوهن... (وبناء على هذا المنظر) كتب العلماء بأن مصر حدثت فيها مجاعة في (عهد) الأسرة الخامسة، أي منذ 4100 سنة تقريباً. ولكننا عثرنا اخيراً على نفس هذا المنظر تماماً، ولكن فوقه كتابات هيروغليفية تشير إلى أنهم بدو هاجموا قافلة الملك... وعلى هذا أحضروهم لكي يحاكموا بجوار الهرم. وهذا الكشف يغير من التاريخ تماماً، حيث يلغي فكرة المجاعة ويشير إلى أنهم ليسوا مصريين ولكنهم بدو». (الأهرام الدولي 1996/3/23).

ورغم أن سكان شبه جزيرة سيناء بما في ذلك منطقة الإسماعيلية والصحراء الغربية كانوا بدوا في تلك الفترة، كما كانوا مواطنين مصريين في الوقت نفسه افترض حواس أنهم أجانب لمجرد كونهم بدوا. ومع هذا فإن تفسيرات مدير آثار الجيزة شككت في الرأي الذي سبق أن نادى به سليم حسن وقبله غالبية الباحثين. وفي يوليو (تموز) الماضي جاء الدكتور فكري حسن أستاذ الدراسات المصرية بجامعة لندن، ليقدم أدلة علمية تسلط الضوء على هذه الحقبة المظلمة من التاريخ، وتؤكد ما ذهب إليه سليم حسن عن أسباب سقوط الدولة القديمة. أول ما استرعى انتباه الدكتور فكري كان نصاً هيروغليفياً عثر عليه في مقبرة «عنخ تيفي» حاكم الصعيد، جاء فيه أن «مصر العليا كانت تموت جوعاً حتى ان كل واحد صار يأكل أطفاله».

* فيضان النيل

* وبينما لم يهتم علماء المصريات بهذا التصريح الغريب، الذي اعتبروه نوعاً من المبالغة الأدبية، قرر فكري التحقيق في الأسباب الاقتصادية لانهيار الدولة القديمة. ودرس الباحث المصري ما جاء في المراجع القديمة بخصوص حالات فيضان نهر النيل، وهو العامل الرئيسي في رخاء المجتمع المصري القائم على الزراعة.

إلا أن فكري لم يتمكن من الحصول على تقارير تبين حالة الفيضان عند نهاية الدولة القديمة، منذ أربعة آلاف ومائتي سنة. ثم جاءت دراسة الدكتور جيرارد بوند الجيولوجي بجامعة كولومبيا الأميركية، لتبين أن مناطق شمال الكرة الأرضية مرت بحالة من البرود والتجمد، في نفس الوقت الذي سقطت فيه دولة بناة الأهرام، في مصر. كما أوضحت الدراسات أن فلسطين مرت في نفس الفترة، بعصر جاف شح خلاله سقوط الأمطار. وعندما اجرى الدكتور فكري عملية فحص لبحيرة قارون في الفيوم، باعتبارها متصلة بنهر النيل، حيث تذهب إليها مياه الفيضان كل سنة وجد أستاذ الدراسات المصرية الدليل الذي كان يبحث عنه. إذ تبين له أن بحيرة قارون لم تصل إليها مياه الفيضانات لسنوات طويلة، حتى انها جفت تماماً عند سقوط الدولة القديمة سنة 2200 قبل الميلاد. وهكذا تأكد فكري من أن جبال الحبشة مرت بفترة انقطع فيها نزول الأمطار على جبالها، مما أدى إلى انقطاع فيضان النيل لسنوات عديدة. ونظراً لأن المصريين كانوا يعتمدون على مياه الفيضان التي تصل إليهم كل صيف من الحبشة، في زراعة أرضهم، مات الزرع وجاع البشر والحيوان لشح الماء، ولم تعد الحكومة المركزية قادرة على مواجهة مشاكل السكان. ففقدت الدولة القديمة سلطانها ودخلت البلاد في مرحلة من الجوع والانهيار الحضاري استمرت حوالي مائة سنة.

* عصور ما قبل التاريخ

* كانت منطقة شمال أفريقيا غزيرة الأمطار في الأزمنة القديمة، تنتشر فيها أشجار كثيفة ومجمعات للإنسان والحيوان. وكان الصيد وقطف الثمار وسيلة الحصول على الطعام في تلك الحقبة.

إلا أنه بعد نهاية العصر الجليدي الأخير منذ حوالي عشرة آلاف سنة اختفت الأمطار تدريجياً من هذه المنطقة واختفت معها النباتات والأشجار وبدأ عصر التصحر المستمر حتى الآن. لهذا هاجرت التجمعات البشرية وقطعان الحيوان في شمال أفريقيا شرقاً إلى وادي النيل، حيث استقرت القبائل البربرية في واحات الصحراء الغربية وفي وادي النيل في الصعيد. كما هاجرت أقوام أخرى إلى صعيد مصر، من شرق أفريقيا واستقرت بالصعيد في الفترة ذاتها خلال العصر الباليوثي منذ عشرة آلاف سنة إلى أن اكتملت مراحل التصحر قبل حوالي خمسة آلاف سنة.

وبدأت مرحلة فلاحة الأرض وزراعتها منذ حوالي سبعة آلاف سنة، خاصة في مناطق بني سلامة عند الجانب الجنوبي الشرقي للدلتا، وفي منخفض الفيوم على شواطئ بحيرة قارون ذات الماء الحلو والأسماك. كما كانت هناك تجمعات أخرى بالصحراء الغربية في الواحات وكذلك في النوبة بالجنوب، عند الشلال الثاني وحتى شمال الخرطوم.

وكانت المنطقة الممتدة بين أسيوط والأقصر، مركزاً لتجمعات سكانية تعرف باسم حضارة البداري. إلا أن هذه التجمعات التي ظهرت في فترة ما قبل التاريخ، كانت متفرقة لا تحكمها سلطة سياسية مركزية واحدة، وفي هذه المرحلة ظهرت رسوم فوق الصخور بينها مراكب، على الأحجار في الصحراء الشرقية بالنوبة. ولم يعثر على بقايا أثرية تعود إلى هذه الفترة من عصور ما قبل التاريخ في الدلتا ذات الأرض الطينية الرخوة، حيث كانت غارقة في مياه الفيضانات في تلك الفترة، تغطيها المستنقعات والأعشاب البرية.

* بداية عصر الأسر

* مع بداية التاريخ، الذي يتوافق مع توحيد الأراضي المصرية تحت سيطرة سلطة سياسية مركزية واحدة، بدأ حكم الأسرة الأولى منذ حوالي خمسة آلاف سنة، وهو الوقت ذاته الذي بدأت فيه عصور التاريخ مع ظهور الكتابة للمرة الأولى. ومن ذلك الوقت، صارت لدينا مصادر كتابية إلى جانب البقايا الأثرية، للتعرف على أحداث تلك الحقبة من التاريخ. والاعتقاد الشائع هو أن مينا كان أول ملك للأسرة الأولى، ورد ذكره في قوائم الملوك في ما بعد كما تحدث عنه المؤرخون الكلاسيكيون وقالوا إنه نظم عمليات الري كما شيد عاصمته في منف بعدما كانت أبيدوس هي مقر الملوك.

إلا أن بعض البقايا الأثرية الصغيرة التي ترجع إلى هذه الحقبة التاريخية، وجد عليها اسم ملك آخر هو نارمر مما حيّر علماء المصريات، فهل كان اسم أول ملك مينا أم نارمر؟

ويبدو أن نارمر كان هو أول ملوك الأسرة الأولى، وأن مينا كان خليفته الذي جلس على العرش من بعده. ومنذ هذه الفترة بدأت مقابر النبلاء تظهر في سقارة، التي تعتبر مدفناً لسكان منف. وكانت مصر حتى قبل عصر الأسر، قد مدت حدودها لتشمل شبه جزيرة سيناء وجنوب فلسطين، وجرى تدعيم هذا الامتداد مع ظهور السلطة المركزية في عهد الأسرة الحاكمة الأولى. كما وصلت حدود الدولة المصرية الجنوبية في النوبة إلى الشلال الأول للنيل وجزيرة فيلة عند أسوان في تلك الفترة.

وهناك ما يشير إلى نشوب صراع على السلطة عند نهاية حكم الأسرة الأولى حوالي 2775 قبل الميلاد، بين أتباع الإلهين حورس وست. ويبدو أن الطرف الذي نجح في هذا الصراع كان من أتباع حورس، فهو الذي كوّن الأسرة الثانية. وكان أول ملوك هذه الأسرة هو «حتب سي خموي»، الذي نقل مدافن الملوك من أبيدوس إلى سقارة. إلا أن الصراع نشب ثانية بين أفراد الأسرة الحاكمة ذاتها، خلال النصف الثاني لحكم الأسرة الثانية. وكان آخر ملوك هذه الأسرة هو «خا سي خموي»، الذي جمع بين ولائه لحورس وست.

* الدولة القديمة

* يستخدم اصطلاح «الدولة القديمة» للدلالة على الفترة التي حكم خلالها ملوك الأسر من الثالثة إلى السادسة، وامتدت حوالي خمسة قرون ونصف القرن. وهذه هي الحقبة من التاريخ المصري التي بنيت خلالها غالبية الأهرام والمصاطب في الصحراء الغربية، وقد شيدها الملوك من عاصمتهم في مدينة منف على البر الغربي لنهر النيل جنوب القاهرة.

ومرت مصر خلال سنوات الدولة القديمة بعهد طويل من الرخاء الاقتصادي والاستقرار السياسي، وكان استمراراً للعهد السياسي الأول. وسرعان ما أصبحت دولة منظمة تنظيماً مركزياً يحكمها ملك كان يعتقد أنه يتمتع بقوى خارقة مطلوبة.

وكانت النخبة المثقفة هي التي تدير شؤون الدولة، وهي منتخبة إلى حد ما على أساس ما تملك من جدارة. وهكذا نعمت مصر في هذه الفترة باكتفاء ذاتي وأمان كاملين ضمن حدودها الطبيعية، ولم يكن هناك منازعون خارجيون يهددون الركن الشمالي الشرقي من أفريقيا والمناطق المتاخمة في غرب آسيا.

وانعكست المنجزات في الفكر الديني والفلسفة الروحية على الأعمال التي تأخذ الألباب في الفنون والفن المعماري. وفي هذه الفترة عرف المصريون فنون الكتابة والتحنيط والبناء، وتوصلوا إلى الكثير من المعارف الهندسية والكيميائية المتقدمة وشيدت الأهرام. ويدل بناء الأهرام ـ خاصة الهرم الأكبر ـ على معرفة متقدمة بالرياضيات والعلوم الهندسية. بل إن موضع هرم خوفو وأبعاده تشير إلى معرفة بمركز الكرة الأرضية نفسها، حيث تواجه جوانبه الأربعة الاتجاهات الأصلية بدقة في الشمال والجنوب والشرق والغرب. كما يدل التصميم الهندسي لهذا الهرم على معرفة بالانقلابات الشمسية التي تؤدي إلى تغير المواسم الطقسية من صيف وشتاء وخريف وربيع.

إلا أن الدولة القديمة التي حققت كل هذا التقدم الحضاري، ضعفت وفقدت سلطانها عند نهاية حكم الأسرة السادسة ولم يعد باستطاعة السلطة المركزية السيطرة على تصرفات الحكام المحليين في الأقاليم، الذين صاروا شبه مستقلين في حكم مناطقهم. ومما زاد الطين بلة، وأدى إلى انخفاض مستوى مياه الفيضانات لعدة سنين في تلك الفترة انتشار المجاعة وسقوط حكم الدولة القديمة.