اكتشاف بقايا لأقوام بائدة في حائل بشمال المملكة العربية السعودية

نقوش حيوانية ونباتية تعود لعهود ماقبل التصحر قبل آلاف السنين

TT

أحمد عثمان تمكنت بعثة سعودية للآثار من الكشف عن رسوم ونقوش قديمة في منطقة نائية بين صحراء النفود شمالا وجبل شمر جنوبا، ترجع الى عصور ما قبل التاريخ. وفي مؤتمر صحافي عقد في الرياض في 7 اغسطس (آب) الحالي قال الدكتور سعد الراشد ـ وكيل وزارة المعارف المسؤول عن الآثار ـ ان هذه الرسوم التي تعود الى حوالي 10 الى 15 ألف سنة، وجدت منقوشة فوق الصخر على واجهات الجبال المنتشرة في منطقة وعرة تبعد 640 كيلومترا الى الشمال الغربي من العاصمة السعودية، بمركز الشويمس في حائل.

تتضمن النقوش التي عثر عليها في حائل اشكالا آدمية وحيوانية متنوعة مثل الابقار والوعول والاسود والبقر الوحشي والغزال بعضها بالحجم الطبيعي، مما يدل على استئناس الانسان بعض الحيوانات في الجزيرة منذ وقت مبكر واعتماده على الصيد. كما تبين الرسوم انواع الملابس القديمة والاسلحة. ووجد المنقبون ايضا العديد من ادوات الصيد المصنوعة من حجر الصوان، منتشرة بجانب الرسوم.

ومن المعروف ان الانسان اعتمد في المراحل الاولى لتاريخ المجتمعات البشرية على قطف الثمار وصيد الحيوانات للحصول على غذائه، حتى تمكن منذ حوالي أحد عشر ألف سنة من استئناس بعض الحيوانات مثل الابقار والخراف والماعز، صار يربيها ويستخدم البانها ولحومها وجلودها.

ولم تظهر المجتمعات الزراعية الا بعد ذلك بحوالي الفي سنة، عندما استغل الانسان القمح والشعير. وكانت الجزيرة العربية وشمال افريقيا موطنا للعديد من مراكز التجمعات البشرية، قبل عصر التصحر الذي اكمل مظاهره ثلاثة قرون قبل ظهور الاسلام، وما ظاهرة الجفاف الذي تواجهها بعض الدول في افريقيا والمغرب العربي في الوقت الحاضر، الا استمرار للتغير الاساسي في المناخ الذي بدأ منذ نهاية العصر الجليدي قبل عشرة آلاف سنة.

* عصور ما قبل التاريخ كانت الجزيرة العربية وشمال افريقيا ارضا خضراء، تكثر فيها الانهار وينابيع المياه. ومع تغير الطقس سيطر الجفاف على هذه المنطقة، فاختفت الخضرة تدريجيا على مدى مئات السنين، لتحل محلها رمال الصحراء. اذ كانت الامطار تسقط بغزارة على المناطق الجبلية المرتفعة في جنوب الجزيرة العربية وغربها، ثم تتدفق المياه انهارا الى المناطق المنخفضة المعروفة الآن بصحراء النفود والربع الخالي وتمر بالوديان العديدة في السعودية. وامكن في السنوات الاخيرة اكتشاف مجاري الانهار المدفونة تحت الرمال عن طريق التصوير الراداري الذي اجرته الاقمار الصناعية الاميركية والفرنسية. ومع سيطرة الجفاف، ترك الناس مساكنهم القديمة الى حياة البداوة والترحال بحثا عن منابع اخرى للمياه. وتماثل النقوش والرسوم التي وجدت بمنطقة حائل ما سبق العثور عليه في صحراء شمال افريقيا التي ترجع الى نفس المرحلة التاريخية، مما يشير الى وجود ترابط ثقافي بين الجزيرة العربية وصحراء سيناء وبقية الصحراء الافريقية منذ آلاف السنين.

لقد كان التاريخ يعتبر جزءا من الادب باعتماده على الرواة وكتاب الرحلات والانساب، الى ان بدأت اعمال الكشف الاثري في منتصف القرن التاسع عشر فصار التاريخ علما مستقلا عن الادب.

وتمكن الاثريون للمرة الاولى من تحديد عصر الانسان الذي استخدم ادوات بدائية من الحجر، الى حوالي 15 ألف سنة مضت. ولا تزال اسرار الحضارة العربية القديمة مدفونة تحت الرمال تنتظر معاول الاثريين لاخراجها، وكل ما اكتشف حتى الآن في السعودية ما هو الا بقايا المرحلة الاخيرة قبل اكتمال عملية التصحر.

فقد اظهرت اعمال الكشف الاثري ان الجماعات البشرية استوطنت السعودية في عصور ما قبل التاريخ منذ آلاف السنين، وكانت الجماعات الاولى تعيش عند حدود صحراء النفود في الشمال والربع الخالي في الجنوب. وعثر رجال الآثار على قطع من الفخار الملون في عدة مواقع في المنطقة الشرقية عمرها سبعة آلاف سنة. وتمتلك السعودية كمية ضخمة من النماذج الفنية التي نقشت على الصخور، وتعبر عن عدة مراحل مر بها سكانها في الازمنة القديمة. فهناك رسوم تخطيطية بدائية تظهر اشكالا للصيادين والحيوانات التي يصطادونها، وهناك رسوم اكثر تطورا تبين الاشخاص في شكل واقعي وان تركت ملامح الوجه غامضة.

وقد ساعدت الاعمال الاثرية في كشف النقاب عن الاقوام البائدة، ومراحل ما قبل التاريخ. اذ كان الاعتقاد السائد حتى القرن الثامن عشر يذهب الى ان تاريخ العالم لا يتجاوز ستة آلاف سنة، اعتمادا على ما ورد في قصة التوراة.

وفي القرن السابع عشر جمع الاسقف جيمس أشر في مدينة ارماه بايرلندا، اعمار الاجيال التي جاء ذكرها في الكتب التوراتية منذ آدم (عليه السلام) وزعم ان العالم خلق في ليلة 23 اكتوبر (تشرين الاول) عام 4004 قبل الميلاد.

الا ان معاول رجال الآثار تمكنت من اخراج عظام بشرية من باطن الارض، ترجع الى مئات الآلاف من السنين قبل ذلك التاريخ. ويرجع الفضل الى علم الآثار في اعادة كتابة التاريخ القديم، خلال القرن العشرين. وتبين وجود شكل لكائن يشبه الانسان منذ اكثر من مليون سنة، يسير على قدمين وليس هناك انحناء في عموده الفقري، يعرف باسم هومو ـ هابيلي Homo-habili ولكن حجم الجمجمة وشكلها، وكذلك طبيعة الاسنان بينت ان هذا الكائن يمثل نوعا من الشكل الحيواني السابق لظهور الانسان الحديث. اما الانسان بشكله الحالي ـ والذي يسمى هومو ـ سابيانز Homo-sapiens فقد وجدت بقاياه في شرق وجنوب افريقيا وفي استراليا واوروبا، يرجع الى مائتي ألف سنة واستطاع الاثريون الحصول على بقايا للمجتمعات الانسانية من مساكن ومقابر، يعود تاريخها الى اكثر من 15 ألف سنة.

* الأقوام البائدة من الامور التي دائما ما تثير خيال الناس واهتمامهم، تاريخ الاقوام البائدة التي ورد ذكرها في القرآن الكريم وروايات الشعراء والرواة القدامى. اذ تحدث الرواة عن اقوام سابقة على ممالك سبأ وحمير بادت واختفى اثرها. من بين هذه الاقوام عاد وثمود التي ورد ذكرها في القرآن الكريم كذلك. ويعتقد بعض الباحثين ان موطن عاد كان في المنطقة الواقعة جنوب شرقي السعودية بين حضرموت وعمان بجانب منطقة الاحقاف الا ان فريقا آخر ذهب الى ان قوم عاد عاشوا في شمال غربي السعودية، بينما اعتبر بعض المستشرقين ان كلمة «عاد» كانت صفة في البداية تعني «العصور القديمة» وتطلق على كل الاقوام البائدة، قبل ان تتحول الى اسم علم. ولا يعرف أحد اصل قوم عاد الذين كانت لهم مدينة ورد اسمها في سورة الفجر: «ألم تر كيف فعل ربك بعاد. إرم ذات العماد التي لم يخلق مثلها في البلاد».

وتقول الروايات ان ملكا يدعى شداد هو الذي شيد مدينة ارم فوق الاعمدة، كما ورد في تاريخ الطبري ان قوم عاد كانوا اشداء ضخام القامة، يعبدون الاصنام ويرتكبون الفواحش. وعندما ارسل اليهم ربهم نبيا اسمه هود يدعوهم الى التوبة وترك عبادة الاصنام، سخروا منه ولم يستجيبوا له. ثم بعثوا بوفد من رجالهم الى مكة ليقوم بالصلاة طلبا للمطر الذي تأخر في بلادهم، فاستقبلهم اميرها معاوية بن بكر بالترحاب واقام على شرفهم حفلة غنائية كبيرة. وما كاد رئيس وفد عاد ان ينتهي من ادائه لصلاة الاستسقاء، حتى ظهرت ثلاث سحابات في السماء تختلف في الوانها، ما بين البيضاء والحمراء والسوداء. وسمع صوتا في السماء ينادي طالبا منه ان يختار ايا من السحابات الثلاث يختار لبلاده، فاختار السوداء متوقعا ان تكون مليئة بالمطر. فسارت السحابة السوداء من موقعها عند مكة الى ان وصلت فوق ارض عاد، ثم خرجت منها ريح صرصر عاتية قضت على كل أهل البلاد عدا قليل منهم من اتباع هود.

وثمود كذلك من بين الاقوام العربية البائدة التي اختفت قبل الاسلام، والتي ورد ذكرها في بعض المصادر القديمة. فقد جاء اسم «ثمود» بين الاقوام التي اخضعها سرجون ملك اشور عام 717 قبل الميلاد، في وسط الجزيرة العربية. كما سماهم المؤرخون اليونان «ثموداي»، وذكر الكاتب الاغريقي بليني انهم كانوا يسكنون في منطقة «دوماثا وهجرا»، التي هي دومة الجندل بالجوف والحجر شمال العلا، بشمال الحجاز. وتتفق الروايات العربية على وجود ثمود في هذه المنطقة، وقد ورد ذكرهم في اشعار الجاهليين مثل الاعشى وأمية بن ابي الصلت. وفي القرآن ورد ذكر ثمود في سورة الاعراف وسورة هود وسورة الحجر وسورة القمر، وكان لهم نبي اسمه صالح وكانوا ينحتون في الجبال بيوتا. وتقول الروايات والتفسيرات العربية، ان النبي صالح بن عبيد بن عامر بن سام كان يعيش بين الثموديين، عندما تحداه خصومه ـ بقيادة جندع بن عمر ـ ان يعطيهم علامة تثبت نبوته، فأخرج لهم من الصخر ناقة، ولكنهم ذبحوها فعاقبهم ربهم وقضى عليهم.

ومن أهم الاقوام البائدة التي ورد ذكرها في القرآن الكريم واحاديث الرواة قوم مدين، الذين سكنوا شمال السعودية وصحراء الاردن وجنوب فلسطين وشبه جزيرة سيناء. وتقول اقدم المصادر التاريخية والجغرافية التي ترجع الى بداية العصر المسيحي، ان اسم «مدين» كان يطلق على مدينة تقع في شمال الجزيرة العربية شرق خليج العقبة، وقد ورد هذا في كتابات بينوس المؤرخ اليهودي الذي عاش في القرن الميلادي الاول، وكذلك في كتب المؤرخين من اليونان والرومان. كما جاء ذكر مدين في كتابات ابن اسحق الذي قال ان الرسول (صلى الله عليه وسلم) ارسل حملة الى هناك بقيادة زيد بن حارثة. وذكر هذه المدينة ايضا بعض الشعراء العرب الذين قالوا بأنها كانت موطنا للرهبان. وهذا ايضا هو ما ذكره محمد بن الحنفية، وكان قد زارها وهو في طريقه الى الشام، وكانت مدين تعتبر من المحطات التي يستريح فيها المسافرون، وكانت القوافل تقطع المسافة بين تبوك ومدين في ستة ايام.

ويبدو ان مدين هذه كانت هي كل ما تبقى من ارض مدين القديمة، فهناك من المصادر القديمة ما يدل على ان اسم مدين كان في البداية يدل على كل المنطقة الواقعة شرق خليج العقبة في شمال الحجاز. وتقع البقايا الاثرية التي تعرف باسم مغائر (او مغاور) شعيب ـ والتي تحتوي على عدد من المقابر القديمة التي اقيمت داخل الكهوف ـ على بعد حوالي 25 كم شرق ميناء «المقنا» على خليج العقبة. وفي الجبال المطلة على البحر الاحمر هذه المنطقة كذلك توجد بقايا آثار قديمة ومجموعة من المقابر المحفورة في الجبال، والتي تعرف باسم «مغائر شعيب» يعتقد البعض ان هذه البقايا تخفي وراءها مدينة نبطية قديمة، حيث عثر على بقايا فخار للانباط والرومان في هذا الموقع. ويذهب بعض الباحثين الى ان هذه المنطقة تمثل ارض مدين التي ورد ذكرها بالقرآن والتوراة، كما ورد اسمها مَدَين في كتابات الجغرافيين في العصور الكلاسيكية. ووجدت بعض الكتابات داخل مقابر الكهوف، ويبدو وجود اربع مناطق للبقايا الاثرية في الوادي بالقرب من مغائر شعيب، بعضها من العصر الاسلامي.