الثورة في سنتها الأولى.. «تسونامي» شعبي بدأ من تونس وعصف بالمنطقة

دبلوماسي تونسي: الغرب دعم الانتفاضات العربية وسعى منذ البداية إلى الاستفادة منها

TT

كان التونسيون المؤيدون للرئيس التونسي السابق، زين العابدين بن علي، قد فرغوا منذ أشهر قليلة مناشدته الترشح للرئاسة من جديد لفترة تتراوح من 2014 إلى 2019، ولم يكن أحد يجرؤ على الوقوف ضد التيار القوي الذي أحكم قبضته على عالمي السياسة والمال. وكان ما يشبه الأخطبوط قد التوى بأذرعه القوية على مقدرات تونس بحيث لا يمكن دخول غير الأشخاص المقربين من عائلة بن علي وعائلة الطرابلسي (عائلة ليلى زوجة الرئيس)، وانضمت لهؤلاء جوقة من المناصرين والمصاهرين تزلفا وتقربا من العائلة الحاكمة. وكان التونسيون، وخاصة الطبقة السياسية المعارضة، تنادي إلى أن بُح صوتها بالمزيد من الحريات وتمكين قسم كبير من الإطارات والكفاءات من المشاركة في إدارة البلاد، ولكن لا مجيب. وكانت الفئات الشابة وخاصة الحاصلين على شهادات جامعية، قد تكاثرت صفوفهم أمام مكاتب التشغيل دون حلول مجدية، أما أعداد العاطلين دون شهادات فهو في تزايد مستمر، وأمل إدماجهم في الحياة المهنية والاجتماعية ضعيف للغاية، مما ولد لديهم إحساسا قويا بالغبن الاجتماعي وهم يسمعون حكايات السلب والنهب للأملاك والخيرات من قبل عائلات الطرابلسية وأقاربهم. الكثير من التونسيين يعلمون أن تلك العائلات المتنفذة قد وضعت أمامها خريطة للجمهورية التونسية وراحوا يقسمون خيراتها من عقارات ومناجم ومقاطع حجارة ورمال وبحيرات، كلها تقسم بينهم، ولم تسلم من ذلك أسواق التجارة الموازية، مما جعل المزاحمة قوية وفرضية الانتصاب لبيع أي منتج لا بد أن تكون مسبوقة بصك غفران من قبل «الطرابلسية».

هذا الوضع المتأزم، الذي لا ينبئ بأي انفراج من أي نوع قاد الشاب محمد البوعزيزي، البالغ من العمر 26 سنة فقط، إلى إعلان الموت المشهدي أمام جميع الناس، ويقول بعض شهود واقعة إضرام النار في جسده إنه كان دوما يقول: «أنا في نهاية الأمر سأموت، وذلك مصير مقدر لكل الناس»، ولم يكن يرهب الموت بسبب المشكلات الاجتماعية المتراكمة، ومن بينها افتكاك أحد البنوك الاستثمارية الأرض التي كان يستثمرها مع خاله في إحدى المناطق الفلاحية بسيدي بوزيد. ولكن موته لم يكن كموت بقية التونسيين، فقد وجد أرضية اجتماعية وسياسية واقتصادية مشجعة على الانتفاض ضد ما سماه التونسيون بعد الثورة «الغبن الاجتماعي». والحقيقة أن كل تقارير الدنيا من مخابرات أجنبية وتقارير للمخابرات الداخلية لم تقدر على تصور إمكانية حصول انتفاضة قوية تطيح ببن علي في بضعة أيام، فما الذي حصل بالضبط؟ وكيف تمت الأمور بتلك السرعة؟ وهل كانت الساحة مهيأة للإطاحة بالنظام البوليسي لبن علي؟ ألا توجد أياد خفية وراء مثل هذه العملية؟ وكيف يمكن لثورة أن تحصل في بلد ما دون أن تكون لها هيكلة وقيادة محددة؟ ولماذا لم يتوقع أكبر المحللين السياسيين حدوث ذاك الأمر في ذاك التوقيت؟

الثورة التونسية اندلعت أحداثها في 18 ديسمبر (كانون الأول) من السنة الماضية، وكانت في البداية عبارة عن تضامن اجتماعي بالأساس مع وضع الشاب محمد البوعزيزي الذي قام بإضرام النار في جسده قبل يوم واحد من بداية الاحتجاجات الاجتماعية في مدينة سيدي بوزيد، حيث تمت عملية الاحتراق.

ولم يكن أحد من نظام بن علي؛ سواء على مستوى الحكومة التي كان يقودها محمد الغنوشي، ولا المؤسسة الأمنية التي حكم بها بن علي لمدة 23 قد فكر ولو للحظة أن شريان الاحتجاجات سينتشر في كل المدن المجاورة لسيدي بوزيد في فترة أولى، قبل أن تعم مختلف المناطق التونسية. وللتأكيد على عنصر المفاجأة في الأمر، فإن بن علي نفسه وبعض أفراد عائلته كانوا بصدد قضاء رأس السنة والتسوق في أحد البلدان العربية، دون أن يخطر ببال أحد منهم أن تلك الاحتجاجات التي انطلقت قرابة الأسبوعين ستأتي عليهم وتقلب عليهم الكرسي دون رجعة.

وبوفاة محمد البوعزيزي، يوم 4 يناير (كانون الثاني) من السنة الحالية في مستشفى بن عروس للحروق البليغة القريبة من العاصمة التونسية، ومحاولة بن علي زيارته، قبل أن يتغافل عن الأمر في البداية ويذهب لاستقبال أحد أبطال السباحة في تونس، الذي قيل إن إحدى بناته كانت معجبة به وتود الارتباط به، وفرضت عليه استقباله في مطار قرطاج في ثوب بطل وطني، كان نظام بن علي في لحظاته الأخيرة غير مقدر لخطورة الأمر، وكان الوضع السياسي برمته يشبه «التسونامي» الذي يحل في مكان ما دون أن ينتبه أحد لقدومه، ولا يترك له فرصة تجهيز نفسه ولا اتخاذ أي احتياطات من أي نوع، وبدا النظام المتداعي في استعمال أدوات القتل العمد في محاولة لإسكات الأصوات المنادية بإسقاط النظام. وعبارة: «الشعب يريد إسقاط النظام»، التي كانت مفتاح الإطاحة؛ ليس بالنظام التونسي فحسب، بل بسلسلة أخرى من الأنظمة لم يجد الكثير من الباحثين مصدرا لها، فقد تفشت على الشبكة العنكبوتية دون أن يعرف أحد المصدر الأساسي لها. وهل يمكن الحديث عن خطة مخابراتية كانت وراء هذه العملية السياسية التي غيرت جزء كبيرا من تاريخ المنطقة العربية، ولماذا كان العالم العربي مجالا للتغيير السياسي؟ ولماذا اختفت ديكتاتوريات أخرى وراء الأكمة دون أن تذهب لها طائرات «الناتو»؟ وهل الأنظمة الديكتاتورية موجودة في العالم العربي فقط؟ كلها أسئلة مقلقة لم تجد تفاسير مقنعة، ومع ذلك تعددت المحاولات التي تذهب نحو تفسير الظاهرة دون أن تحيط بمختلف طلاسمها وجزئياتها المحيرة؟

في محاولة لتفسير الثورة التونسية، يرى الباحث التونسي فتحي سلامة أن فكرة جوهرية سادت الشارع التونسي، وهي أن علاقته مع نظام بن علي قد انفرط عقدها منذ فترة طويلة، ولم يكن ينتظر ولو بارقة أمل وحيدة في ذاك النظام. واعتبر أن حركة الشاب محمد البوعزيزي، الذي أضرم النار في نفسه احتجاجا وغضبا، قد رفعت غشاوة عن أعين الشعب التونسي وجعلته يعي الوضع البائس الذي يعيشه منذ سنوات، ويقف على حجم الألم الذي يسكنه، دون أن ينبس ببنت شفة.

واعتبر الكاتب أن البوعزيزي كان وراء ظهور مفهوم جديد للشهيد الاجتماعي بعيدا عن لغة الاستشهاد المرتبط بالنواحي الدينية، فضحى بنفسه من أجل أن يعيش الآخرون في ظروف اجتماعية أفضل، بعد أن فقدت فئات اجتماعية بأكملها إمكانية التفكير في الاحتجاج.

وفي سياق مختلف، بعيدا عن منطق انطلاق شرارة الاحتجاج من الداخل، يقول المحلل السياسي التونسي المنذر ثابت (الأمين العام السابق للحزب الاجتماعي التحرري) إن الربيع العربي بثوراته الملونة مفهوم أميركي بالأساس، بدا تطبيقه في أوروبا الشرقية حيث أطاح بنظام الجنرال «ياروجنسكي» في بولونيا. واعتبر أمر هذه الثورات بمثابة سايس - بيكو جديد في تقسيم المنطقة العربية، كما تم بعد الإطاحة بنظام الإمبراطورية العثمانية. فتفاقم الأزمات الاقتصادية في العالم الغربي وتنامي المشكلات المالية جعل تلك القوى تبحث عن منافذ جديدة في مختلف بقاع العالم، ولم تجد أفضل من الدول العربية الغنية بالموارد الطبيعية لتنفيذ استراتيجيتها السياسية والاقتصادية. وقد أعانه في ذاك المخطط إفلاس الأنظمة العربية الرسمية وتكاثر مشكلاتها الداخلية من خنق للحريات واستفحال لمظاهر الفساد السياسي والاجتماعي مما جعل التدخل الخارجي تماهيا تماما مع طموحات الشعوب العربية الطامحة للحرية, ويضيف ثابت إذا كانت الثورة التونسية قد فاجأت العالم في توقيت حدوثها فإن الساسة الغربيين سرعان ما تلقفوا المرحلة الانتقالية، ووضعوا ثقلهم الاقتصادي والسياسي في الميزان من أجل الوصول إلى مرحلة مقبلة تطمئنهم على مصالحهم في المنطقة.

ولم يخف ثابت في تصريحه لـ«الشرق الأوسط» أن الثورة التونسية قد أدت دور المخبر، وهذا باعتراف الباجي قائد السبسي، الوزير الأول التونسي، وقد تأكد ذلك من خلال إعادة نفس السيناريو تقريبا في مختلف الثورات العربية التي تلت الثورة في تونس. وكشف المنذر ثابت عن وجود سيناريوهات منذ زمن تخص العالم العربي، حيث أكد أن مسؤولا ساميا من الخارجية الألمانية قد التقى مع دبلوماسيين وقياديين ليبراليين من مصر ومن تونس، وكان حاضرا في ذاك اللقاء، وقد أكد أن المنطقة العربية مفتوحة على تحولات كبرى، وأن أمن إسرائيل سيتواصل خطا أحمر أمام الثورات والأنظمة العربية، التي لن تقدر خلال سنوات من شن حرب تقليدية ضدها، ولذلك لا خوف من إجراء تغييرات سياسية في كامل المنطقة.

واعتبر ثابت أن نظرية المؤامرة لا تصح على الثورات العربية، لأنها لا تشفي غليل الباحث الاجتماعي والمحلل السياسي، فهي غير قادرة على الإجابة عن كل الأسئلة.

لا شك أن نظام بن علي قد أحس بالخطر الداهم، مثل الزلزال، وحاول تلافي الأمر بإعلانه التراجع عن الترشح لانتخابات الرئاسة سنة 2014، وفتح المواقع الإلكترونية المحجوبة من أكثر من خمس سنوات، لكن هل كان بن علي وبطانته قادرين على إيقاف الزحف الاجتماعي الهائل الذي عزم على قطع رأس الحية؟

يرى الدبلوماسي التونسي عبد الله العبيدي أن الغرب دعم الانتفاضات العربية، وسعى منذ البداية إلى الاستفادة منها، وهذا يصب، حسب رأيه، في اتجاه ما قاله الكاتب الأميركي فوكوياما، من ضرورة إحياء نظام التبعية والوصاية من جديد، وإعادة بناء الدولة في الدول العربية بناء على الخلفية الاستعمارية للدول الغربية التي كانت ذات يوم مستعمرة من قبلهم. ولعل تصريح مسؤولين أميركيين بأنهم صرفوا ملايين الدولارات من أجل دعم الديمقراطية؛ سواء في تونس أو في البلدان العربية الأخرى التي تشهد ثورات من الداخل، يؤكد حسب العبيدي التوجه الاستعماري للسيطرة على الثورات وتطويعها لخدمة المصالح الغربية.

السؤال ما زال مترددا في الشارع السياسي التونسي؛ هل كان بن علي قادرا على إيقاف تسونامي الثورة؟ وهل بإمكان أي طرف سياسي مهما كان موقعه أن يتخيل ما وقع قبل أيام قلائل من حدوث الاحتجاجات الاجتماعية، التي أدت في نهاية الأمر إلى تغيير نظام الحكم؟ وما نصيب مقولة: «الفوضى الخلاقة التي دعا لها الأميركيون وسوقوا لها منذ سنوات كطريقة للتغيير الاجتماعي الجذري»؟ وكيف يمكن قراءة الواقع السياسي الحالي الذي يتسم بفتح جبهات سياسية واجتماعية كثيرة داخل البلد الواحد بين تيارات إسلامية تعتمد الانفتاح وتسعى بقوة إلى سدة الحكم وبين تيارات علمانية معظمها رعاها العالم الغربي وشجعه عليها، ومكن أصحابها من فرص الدراسة لديه، وألا يمكن اعتبار ذلك جزءا من تلك الفوضى الخلاقة التي سوق لها الأميركيون لفترة ثم تناسوها علنا، وربما شجعوها في الخفاء لتصل الثورات العربية إلى ما وصلت إليه؟

المحلل السياسي التونسي الهاشمي الطرودي يعترض بشدة على نظرية المؤامرة ضد الشعوب العربية، ولا ينفي كذلك وجود تخطيط غربي لإعادة ترتيب المنطقة، ومع ذلك يعطي الطرودي أهمية كبيرة للعوامل الداخلية، فالنخب في العالم العربي ملت اللون الواحد والخطاب الواحد والقائد الواحد، وهي التي خلقت الثورة وأججتها، لأنها مطلبها الأساسي. فتراكمات الغبن الاجتماعي والاستبداد السياسي مرت عليها عقود من الزمن في العالم العربي، ولا شك أن قوى سياسية عانت الأمرين في ظل ظروف قاسية من التضييق السياسي، وهي التي قادت العملية إلى الخط النهائي، وانتظرت فقط «القادح» الذي أشعلها نارا لا تنطفئ. ويرى الطرودي أنه من الغبن التغافل عن الربيع العربي، الذي مكن الشعوب من القليل من الأكسجين النظيف بعيدا عن سطوة الحكام. وقال في تصريحه لـ«الشرق الأوسط» إن الغرب، بما فيه فرنسا على وجه الخصوص، لم يكن يرغب في التغيير السياسي في تونس، وحاولت دعم نظام بن علي، ومكنته من مواصلة حكم البلاد، ولكن منطق الثورة والمطالبة بالحريات كان القوى من البلدان العربية، ولم يكن لديها سوى الإذعان لرغبة تلك الشعوب الباحثة عن الحرية منذ أكثر من نصف قرن من الاستقلال عن الأنظمة الاستعمارية. واعتبر الطرودي أن استعداد قوى سياسية واجتماعية داخل تلك الدول التي عرفت الثورات، هو الذي أتاح فرصة الإطاحة بالأنظمة السياسية التي تعاملت بمنطق «الرعية» مع شعوبها، ففي تونس ومصر على سبيل المثال شاركت فئات شبابية لم تكن منتمية لأي تيار سياسي، وذلك بالأساس من أجل فض القضايا الاجتماعية والاقتصادية التي تفاقمت أوضاعها ولم تعد محتملة، ثم جاءت بعد ذلك المطالب السياسية، باعتبار أن السياسة هي المحرك لكل الملفات، وطفت على السطح مواضيع سوء القيادة والفساد السياسي والاستحواذ على الثروات والمقدرات الخاصة بتلك البلدان.

اعتقلت السلطات الفاسدة في تونس، وتمت السيطرة على عناصر كثيرة من رموز الفساد السياسي والاقتصادي، لكن هل أمر الثورة التونسية ينتهي عند هذا الحد، وما الذي ينتظر الساحة السياسية خلال الفترة المقبلة، وهل يمكن للطبقة السياسية الجديدة ممثلة في تلك الأحزاب التي ظلت محرومة من النشاط السياسي على غرار حركة النهضة وحزب المؤتمر من أجل الجمهورية أن ترسي دعائم حكم مغاير لحكم بن علي؟ لا يمكن أن تخفي تلك الأحزاب شيئا سياسيا من نوع آخر، وتسعى بدورها إلى صناعة هيمنة سياسية من نوع آخر؟ كلها أسئلة يترقب التونسيون الإجابة عنها.

يؤكد المنصف وناس، أستاذ علم الاجتماع السياسي بالجامعة التونسية، أن التونسي قد استفاق من غيبوبة طويلة بفعل الرجة السياسية، التي لم تكن تخطر على بال. ولكن الإطاحة بالديكتاتورية أيسر بكثير من إرساء قواعد التعايش الديمقراطي؛ إذ إن عملية التدرب على الديمقراطية تتطلب إرادة جماعية وتحتاج إلى وقت ضروري لإقامة النظام الجديد. ويرى وناس أن رهان التونسيين مستقبلا قد يكون على المستويين الاجتماعي والاقتصادي بعد أن تمكنت من إرساء بديلها السياسي، وأن عملية الانتقال الديمقراطي قد تكون حققت الكثير من الخطوات الإيجابية في ظرف وجيز.

وما زالت اللغة السائدة حاليا في الشارع التونسي أن التونسيين تمكنوا من إزالة رأس الحية، ولكن بقية جسدها ما زال يعيش ويقاوم بضراوة؛ فمن يقدر من التونسيين على القضاء نهائيا على ذيل الحية وجسدها المترنح؟