باكستان: غارة بن لادن تشعل الأزمة

عملية «أبوت آباد» كانت بداية انهيار العلاقات مع الولايات المتحدة

الرئيس الأميركي باراك أوباما مع عدد من أركان إدارته يتابعون لحظة اغتيال أسامة بن لادن وفي الإطار بن لادن (أ.ب)
TT

خلال الأعوام الثلاثة التي سبقت غارة القوات الخاصة الأميركية على مجمع سكني في أبوت آباد شمال غربي باكستان، كان مسؤولون أميركيون بارزون يخبرون القادة المدنيين والعسكريين الباكستانيين أن واشنطن ستعمل من جانب واحد إذا ما وجدت معلومات استخباراتية تستدعي تدخلها تشير إلى أن بن لادن يختبئ في باكستان.

وكان محمود علي دوراني، اللواء (المتقاعد) ومستشار الأمن القومي للرئيس آصف زرداري حتى أوائل عام 2009، حاضرا عندما أطلق المسؤولون الأميركيون الزائرون بعض هذه التحذيرات. إذ قال لـ«الشرق الأوسط»: «لن أفصح لك عن التفاصيل الدقيقة، لكنني بالفعل شاهدت مسؤولين أميركيين ينقلون هذا التهديد إلى قادتنا».

لهذا لم تكن العملية العسكرية الأميركية التي أدت إلى مقتل زعيم تنظيم القاعدة في الثاني من مايو (أيار) 2011 مفاجئة بالنسبة له. إلا أن هذه الحادثة كانت مصدر حرج في السنوات الأخيرة بالنسبة للجيش وأجهزة الاستخبارات.

وفي محاولة لاحتواء الخسائر حاولوا أن يقنعوا المتشككين في باكستان أن غارة بن لادن كانت الاختراق الوحيد الذي لن يسمحوا بتكراره مرة أخرى.

لكن بعض السياسيين الأميركيين صرحوا بعكس هذا تماما، فقد صرح جون كيري، السيناتور الأميركي البارز الذي ذهب إلى إسلام آباد بعد أيام قليلة من عملية أبوت آباد، إلى وسائل الإعلام أن الولايات المتحدة لن تتوانى عن تنفيذ عملية أخرى في باكستان إذا ما وجدت الملا عمر، زعيم حركة طالبان، مختبئا داخل البلاد.

وقد كرر الرئيس الأميركي، باراك أوباما، نفس التحذير بعد أسبوعين وفي بداية جولته الأوروبية: «هدفنا هو ضمان أمن الولايات المتحدة.. لا يمكن أن نتهاون مع أي شخص يخطط لقتل شعبنا أو حلفائنا. ولا يمكن أن نسمح بتحقق مثل هذا النوع من الخطط النشطة دون أن نتخذ أي إجراءات»، وذلك حسبما صرح أوباما لأحد الصحافيين عندما سأله عما إذا كانت الإدارة ستقوم بعمل ما من جانب واحد إذا ما تم الكشف عن وجود عنصر هام ينتمي إلى تنظيم القاعدة أو إلى حركة طالبان في باكستان.

لذا قضى المجتمع الباكستاني والحكومة الباكستانية الشهور الأولى التي تبعت عملية أبوت آباد (التي قتل خلالها بن لادن) في حالة من الخوف، خشية قيام القوات الأميركية مرة أخرى بالعمل من جانب واحد ضد أي أهداف ذات ثقل داخل الأراضي الباكستانية. ورغم استمرار الخوف، لم يحدث هذا حتى الآن.

وبدلا عن ذلك، قام الإرهابيون بارتكاب الكثير من أعمال العنف في باكستان ردا على مقتل بن لادن. بعد الهجوم الإرهابي المروع على قاعدة مهران البحرية، التي كانت تمتاز بحماية شديدة، في 22 مايو الذي تسبب في تدمير طائرتين استطلاعيتين تبلغ قيمتهما 6 مليارات روبية وقتل عشرات المسؤولين الأمنيين، فقد بدت تأكيدات الجيش التي تذكر أن دفاع الدولة منيع جوفاء بصورة تفوق أي وقت مضى. وهناك عدد كبير من المحللين في إسلام آباد الذين يرون أن وجود خلل في سيطرة الدولة على الأراضي الباكستانية وعدم قدرة أجهزة الأمن على ردع الموجة المتزايدة من الهجمات الإرهابية يعد تهديدا للأمن في باكستان يفوق خشيتها من حدوث هجمة أميركية أخرى. وقال نجم الدين شيخ، وزير الخارجية الأسبق: «تعد تلك الهجمات الإرهابية سمة أساسية تبرز حقيقة أن هناك حالة من الفوضى في البلاد». ليس من الصعب معرفة الأزمة التي يعاني منها مخططو الأمن الباكستانيون، فمن ناحية، ينبغي أن يقوم مسؤول عسكري رفيع المستوى وأجهزة الاستخبارات بإقناع الشعب الباكستاني بأنهم لا يزالون قادرين على الدفاع عن البلاد. ومن ناحية أخرى، عليهم أن يقنعوا الولايات المتحدة أنهم شركاء يمكن الوثوق بهم في الحرب ضد الإرهاب.

ولحل تلك الأزمة، قاموا باتباع سياسة ذات مسارين، لتهدئة الرأي العام في الداخل استخدموا مجموعة من أدوات العلاقات العامة، مثل القرار البرلماني المليء بالفصاحة، الذي دعا، على سبيل المثال، إلى مراجعة شروط التعاون مع الولايات المتحدة. أما المسار الثاني فيتعلق بالحقائق القاسية بشأن الموقف الأمني الفعلي. وحدث هذا في صورة بيان مشترك صدر بعد زيارة كيري التي ألزمت باكستان باتخاذ خطوات لتهدئة مخاوف شركائها الأميركيين.

ويعتقد الكثير من المحللين أن هذا التناقض يعكس الصراع بين الأجهزة المدنية والعسكرية في الدولة، وهو صراع دائما ما يجري خلف الكواليس.

وكان الاختلاف بين المناهج التي اتبعها كل منهما قابلا للتمييز من خلال مواقفهم المختلفة فور عملية استهداف بن لادن. وقد كتب الرئيس آصف زرداري مقال رأي في صحيفة «واشنطن بوست» يشتكي فيه من عدم قيام أميركا بإطلاع باكستان بشأن الغارة على بن لادن. كذلك اشتكى بشأن مسألة التعاون ضد الإرهاب والحاجة إلى القيام بعمليات مشتركة للتخلص من الأهداف الإرهابية ذات الثقل. ولم يتحفظ رئيس الوزراء الباكستاني، يوسف رضا جيلاني، عندما وصف العملية الأميركية بأنها «انتصار عظيم» في أول استجابة له على الحادثة. من ناحية أخرى، فقد عبرت المؤسسة العسكرية الباكستانية منذ البداية عن غضبها من انتهاك المجال الجوي الباكستاني من قبل رجال الكوماندوز الأميركيين الذين قاموا بهذه العملية وأنها شعرت بالألم نتيجة لعدم قيام الأميركيين بمشاركتهم معلومات بشأن تلك الغارة قبل التخطيط لاعتقال بن لادن وقتله.

وقد ظهرت الفجوة بين هيئتي الدولة مرة أخرى عندما قدم مسؤولون عسكريون بارزون تقريرا للجلسة المشتركة للبرلمان في الثالث عشر من مايو، أي بعد أقل من أسبوعين من العملية. وقد أراد المسؤولون البدء في نقاش بشأن العلاقات العسكرية المدنية غير أن القوات المسلحة أرادت أن تستخدم الجلسة المشتركة في حشد الشعب إلى جانبها، بحسب تنوير أحمد خان، وزير الخارجية الأسبق، الذي قال: «لقد كان يتعذر الدفاع عن موقف الجيش لكنه تمكن من قلب الطاولة على الحكومة من خلال استخدام فكرة الوطنية». وبالتأكيد فإن المغالاة في الوطنية ساعدت المسؤولين العسكريين على النجاح في وضع الحكومة في موقف الدفاع بشأن الهجمات الأميركية. وقال محلل بارز في السياسة الخارجية: «نستطيع أن ننتقد الهجمات الأميركية دون طيار لكن هل تستطيعون معالجة العواقب، كانت هذه هي الرسالة الضمنية التي وجهها الجيش إلى الحكومة».

وقبل الجلسة البرلمانية المشتركة، نفضت الحكومة الباكستانية يدها تجاه عملية أبوت آباد، وسمحت للجيش بالتعامل مع الأمر، وكان هذا اعترافا ضمنيا بتبعات الغارة، ووجود بن لادن في باكستان لم يكن من صميم اختصاصها. وقد ذهب يوسف رضا جيلاني، رئيس الوزراء الباكستاني إلى فرنسا بعد يوم من الحادثة كما ذهب الرئيس زرداري إلى الكويت وروسيا بعد ذلك بوقت قصير.

وذكر بعض المؤيدين لحزب الشعب الباكستاني الحاكم أن الرجلين لم يكن أمامهما الكثير من المهام ليقوموا بها داخل باكستان.

وقال شاودهري منصور أحمد، قائد بارز في حزب الشعب الباكستاني: «لا تزال السياسة الخارجية بعيدة عن اختصاصات الحكومة، فالسياسة والحوار الاستراتيجي مع الولايات المتحدة في الهند وأفغانستان من اختصاص الجيش». وقد اتفق محللون أمنيون مع هذا الرأي.

وقال حسن عسكري رضوي، مؤرخ عسكري يتخذ من لاهور مقرا له: «إن الإدارة التنظيمية لقضايا الأمن في يد الجيش والاستخبارات». وهنا تكمن المشكلة، حيث يقوم الجيش بتلك الإدارة بصورة مختلفة من أجل جمهور مختلف.

وقال رضوي: «يحظى الجيش بشعبية واسعة بين الجمهور الباكستاني. وهو يصدر بياناته بعد أن يضع في اعتباره الرأي العام السائد»، وأضاف أن بعض البيانات تكون مشابهة لما يقوله الإسلاميون، ولا سيما في مقابل الهند وأميركا، «لكن عندما يجلسون معا مع صناع السياسة الأميركية يكونون واقعيين للغاية في حساباتهم ويتبعون سياسة لا يستطيعون أن يدافعوا عنها علانية».

وقد تزايد الانفصال بين هذين المسارين بصورة هائلة عام 2011، حيث تزايدت المشاعر المناهضة لأميركا بين الشعب الباكستاني، لكن، ومن دواعي السخرية، فقد أصبحت باكستان، في الوقت نفسه، أكثر خضوعا للولايات المتحدة من خلال المساعدات العسكرية والتدريب. وبينما أدى المسار الأول إلى تآكل الإجماع القومي ضد الإرهاب، أدى المسار الأخير إلى وجود اعتماد خطير على الجانب الأميركي للحفاظ على الأمن القومي.

وأصبحت النتيجة النهائية أن الأمن القومي أصبح محاصرا من كلا الطرفين: حيث يعمل الإرهابيون بنشاط كبير مع حالة راحة غير مسبوقة ودون أي خوف من لوم الشعب، حيث إن أغلب الشعب الباكستاني يعتقد أن واشنطن، وليس طالبان وغيرها من الجماعات المسلحة، هي السبب وراء أي شيء خاطئ يحدث في البلاد وأن الأجانب، خاصة الأميركيين، يأتون للاستمتاع بالاعتراض على سياسات الأمن والجيش الباكستاني وذلك بسبب قيامهم بتقديم معظم احتياجات باكستان من النقد والمعدات للمحافظة على استمرار عمل الجيش في البلاد.

وبدا أن مخططي الأمن يعتقدون أن بإمكانهم مواجهة تلك المشكلة من خلال اتباع إدارة إعلامية ومهارات دبلوماسية أفضل، أي الحفاظ على المشاعر المناهضة لأميركا علانية والسعي للحفاظ على الوضع الراهن في العلاقات الباكستانية الأميركية سرا.

وتتلاقى هاتان اللوحتان بشكل منظم للغاية، على الأقل نظريا: فالبنتاغون بحاجه إلى القيادة العامة بقدر ما القيادة العامة بحاجة إليه، حيث قال دوراني: «نحن بحاجة إلى الدعم السياسي الأميركي في الساحة الدولية وبحاجة أيضا إلى مساعدتهم في الحصول على قروض من المؤسسة المالية الدولية، كذلك نحن بحاجة إلى معدات عسكرية منهم، لكن أميركا تعلم أنها لن تستطيع أن تتحرر من أفغانستان دون دعم باكستان»، ويعتقد دوراني أن أميركا لا تستطيع أن تعادي باكستان رغم المشاعر المناهضة لأميركا المتزايدة بين الشعب الباكستاني.

ورغم طلب الجيش الباكستاني من الحكومة أن «تعيد النظر وتراجع شروط التعاون مع الولايات المتحدة واضعة في اعتبارها الحفاظ على احترام كافة المصالح القومية الباكستانية»، هناك شكوك محدودة في أن قيادة الجيش تشخص ببصرها إلى التعاون مع الأميركيين فقط. فهم يرغبون في أن يكون لهم دور أكبر في المرحلة النهائية في أفغانستان، علاوة على زيادة المساعدة العسكرية بين البلدين دون الكثير من الشروط، وأخيرا حرية اتخاذ القرار عندما يتعلق الأمر بعملية عسكرية في منطقة ما وضد من.

وقال مسؤول بارز في وزارة الخارجية: «لن يحدث تغيير في السياسة. وسيستمر التجمع الاستراتيجي مع الولايات المتحدة في الحرب ضد الإرهاب». بعبارة أخرى، سوف تستمر نفس السياسة الأمنية القديمة التي عرضت باكستان داخليا إلى هجمات إرهابية لا تلين وخارجيا إلى أجانب لديهم مصالح شخصية وذلك بعد أن يحدث بها تعديلات بسيطة.