إصلاحات محمد السادس أخرجت بلاده من دوامة الثورات

نسمات «الربيع العربي» هبت على المغرب.. فاستبق الملك الأحداث بقرارات جريئة

TT

لم يكن المغرب بمنأى عن الأمواج التي تدافعت في المنطقة العربية وخلقت ما أطلق عليه «الربيع العربي»، لكن المغاربة تفاعلوا بطريقة مختلفة. وأطلقوا على هذا التفاعل مع الأمواج غير المسبوقة في العالم العربي تعبير «الاستثناء المغربي». استثناء تمثل في أن ملك المغرب استبق الأحداث بقرارات جريئة، تجسدت في تنازله عن بعض صلاحياته لكل من رئيس الحكومة والبرلمان، وساهمت الطبقة السياسية في وضع سقف للأمور لا تتعداه، لذلك كان منطقيا أن تتحول مظاهرات ومسيرات الشارع والهتافات المدوية ضد «الفساد والاستبداد» إلى إجراءات إصلاحية، أدت عبر محطتين إلى أن يتحرك المغرب ويتغير أيضا. كانت المحطة الأولى هي طرح دستور جديد على استفتاء نظم في يوليو (تموز) الماضي، وجاءت المحطة الثانية انتخابات سابقة لأوانها جرت في أواخر نوفمبر (تشرين الثاني) حملت «الإسلاميين المعتدلين» لأول مرة في تاريخهم إلى مواقع القرار، بعد تعيين عبد الإله بن كيران رئيسا للحكومة.

على الرغم من السمة الغالبة في المغرب، كما هو الشأن في عدد من الدول العربية، خلال هذه السنة هو اندفاعات وانكسارات أمواج «الربيع العربي»، لكن المغرب عرف أيضا حربا ضد الإرهاب، وتعرض لضربة إرهابية موجعة، عندما فجر أحد المتطرفين مقهى أركانة في ساحة جامع الفنا وهي الساحة الأشهر في البلاد، وأدى ذلك الحادث المروع إلى مقتل 17 شخصا وجرح 21 آخرين معظمهم من السياح. وفي قضية أخرى تابع المغاربة بكثير من الملل جولات محادثات مضجرة بين الحكومة المغربية وجبهة البوليساريو لم تؤد إلى إحراز أي تقدم لتسوية أقدم نزاع في القارة الأفريقية.

* حركة 20 فبراير بدأت إرهاصات أصداء ما حدث في المنطقة بأحداث شبيهة بحادث «محمد البوعزيزي» في تونس. والمفارقة أن «محاولة الانتحار» احتجاجا، جرت أيضا في مدينتين مغربيتين صغيرتين، الأولى هي «آسفي» جنوب الدار البيضاء، والثانية «سيدي سليمان» شرق الرباط، وهما في حجم «سيدي بوزيد» التونسية.

وكان أن بادرت حكومة التي قادها عباس الفاسي إلى محاولة امتصاص موجة الغضب، حيث أكدت أن سياسة دعم السلع الغذائية «لاستقرار أسعارها في الأسواق مستمرة ولم يطرأ عليها أي تعديل» وقالت في الوقت نفسه إنها قررت «اتباع سياسة تقشف صارمة وضغط النفقات الحكومية في حين لن يطرأ أي تغيير على برنامج المشاريع الجديدة»، وفي إشارة دالة قالت حكومة الفاسي إن «إجراءات اتخذت بشأن الحد من النفقات الحكومية لا علاقة لها إطلاقا بما حدث في تونس». بيد أن هذه التطمينات ما كان لها أن تكبح الغليان.

إذ استمرت التفاعلات. وكان لافتا أن شهر يناير (كانون الثاني) عرف أربع محاولات للانتحار، لكن في كل مرة كانت هناك رواية رسمية تقلل من أهمية الحادث. ومن ذلك قول رواية رسمية حول حادث محاولة شاب الانتحار في مدينة أسفي إنه «يعاني مرضا نفسيا ويخضع للعلاج لدى طبيبة اختصاصية في الأمراض العقلية والنفسية» ومضت الرواية الرسمية تقول «سبق للشاب نفسه أن حاول الانتحار عن طريق تناول جرعة كبيرة من دواء». لكن المحاولات المتكررة للانتحار، جعلت المنظمات الحقوقية تقول إن البلاد ليست بمنأى عن ما حدث في تونس.

لم تكن الروايات الرسمية وحدها كافية لامتصاص حالة غضب تمور تحت السطح، لذلك بادرت الحكومة إلى القول إنها «تعكف بجدية على معالجة موضوع خريجي الجامعات العاطلين عن العمل وتفكر في إيجاد الحلول الملائمة». وقالت الحكومة بشأن احتمالات أن يصبح خريجي الجامعات العاطلين عن العمل، والذين دأبوا على التظاهر يوميا أمام البرلمان في وسط الرباط قاطرة لاحتجاجات مماثلة لما حدث في تونس «هدفنا ليس مواصلة خريجي الجامعات العاطلين التعبير عن مطالبهم بحرية أمام البرلمان، حتى وإن كان ذلك يدل على حرية التعبير ولن نكون راضين بتكوين خريجي جامعات لا يندمجون في سوق العمل». كانت الأوساط الحكومية لا تكف عن القول إن الإصلاحات في المغرب عمل مستمر منذ سنوات، لكن كانت هناك مخاوف جدية أيضا أن تخرج الأمور عن السيطرة.

وفي فبراير (شباط) وقعت حادثة، أثارت قلقا حقيقيا، وجعلت المغاربة يحبسون أنفاسهم، وذلك عندما حاول «بائع متجول» الانتحار احتجاجا، وزاد التشابه مع حالة البوعزيزي التونسية من حدة المخاوف. وفي تفاصيل تلك الواقعة، كان فرع «الجمعية المغربية لحقوق الإنسان» وهي جمعية راديكالية، في مدينة «سيدي سليمان» (وسط المغرب) قد دعا لتنظيم وقفة احتجاجية تحت شعار «جميعا ضد غلاء المعيشة وتدهور الخدمات».. وكان المشاركون يرددون شعارات اجتماعية لكن سرعان ما رفعت شعارات سياسية تطالب بالديمقراطية والعدالة الاجتماعية ومحاربة الفساد، كما ردد المشاركون وشعارات التضامن مع الانتفاضتين التونسية والمصرية. ثم بادر بائع متجول كان ضمن المحتجين بإضرام النار في جسده. وأصيب المحتجون بحالة من الهلع والذهول، وسارع بعضهم إلى محاولة إخماد النار التي أضرمها الشاب في جسده. وتمكن المحتجون من إنقاذ البائع المتجول. هذه التطورات سرعان ما ستقود إلى تطور مثير، وعلى غرار ما حدث في تونس ومصر، كانت وسيلة التواصل المثلى، هي الشبكات الاجتماعية على الإنترنت.

حيث أطلقت مجموعة من الشباب دعوة للتظاهر في جميع المدن المغربية في 20 فبراير (شباط)، وهو اليوم الذي ستسمى باسمه «الحركة الشبابية الاحتجاجية». وبالفعل نظمت مظاهرات ومسيرات صاخبة في معظم المدن المغربية، وتعاملت السلطات الأمنية بحذر مع المظاهرات، لم تتدخل لكنها ظلت تراقب الموقف عن كثب، حتى إذا انفلتت الأمور تكون جاهزة.

وحدث انقسام داخل الأحزاب تجاه هذه الحركة، إذ أيدت منظمات شبابية موالية لكل من حزبي «العدالة والتنمية» و«الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية» الحركة الاحتجاجية إضافة إلى «حركة العدل والإحسان» الأصولية المحظورة، وحزب «النهج الديمقراطي» الراديكالي، الذي يدعو صراحة إلى تغيير النظام، إضافة إلى أحزاب يسارية أخرى هي الحزب الاشتراكي الموحد، وحزب الطليعة الاشتراكي الديمقراطي، وحزب المؤتمر الاتحادي.

وانضمت إلى هذه الأحزاب منظمات حقوقية وجمعيات أمازيغية. بيد أن قيادة حزبي الاستقلال الذي كان يقود الحكومة، وحزب «العدالة والتنمية» عارضت الحركة الاحتجاجية، وكان لافتا للانتباه أن عبد الإله بن كيران الأمين العام لحزب «العدالة والتنمية» موقفا صارما، ورفض نزول حزبه إلى الشارع وأطلق وقتها تصريحه الشهير «لن نعمل على زعزعة الاستقرار في بلادنا وسندافع عن النظام الملكي».

ولوحظ وقتها أن المشاركة في كل من الرباط العاصمة، والدار البيضاء، أكبر مدن البلاد، كانت ضعيفة، وتلك كانت إشارة إيجابية للسلطات. ورفعت تلك المظاهرات شعارات على غرار «الشعب يريد دستور جديد» و«الشعب يريد حل البرلمان» وشعارات أخرى تندد بالحكومة، وبعض الشخصيات الحكومية وغير الحكومية.

وتضاربت تقديرات عدد المشاركين بين السلطات و«حركة 20 فبراير» إذ قدرت الحركة عدد المشاركين في حدود 140 ألف مشارك، وقالت المصادر الرسمية إن العدد لم يتجاوز عشرة آلاف في جميع أنحاء المغرب.

بيد أن المظاهرات لم تكن سلمية في جميع المدن، إذ تحولت في مدن مراكش وطنجة وفاس والحسيمة إلى أحداث عنف بالغة الضراوة. وأثار ذلك الكثير من المخاوف. وأعلن رسميا وقتها عن سقوط قتلى في الحسيمة، وأشارت رواية حكومية إلى أنه عثر على خمس جثث متفحمة داخل وكالة مصرفية.

وبات واضحا أن أمواج «الربيع العربي» وصلت إلى المغرب، مع فارق كبير في الشعارات والزخم، لكن وصول تلك الأمواج إلى الشواطئ المغربية، أثار في حد ذاته قلق للسلطات في بلد تعتبر مداخيل السياحة أحد مصادر دخله الأساسية. كان هناك شعور يساور كثيرين، مؤداه أنهم مع التغيير لكنهم يشعرون بالوجل من أن تنفلت الأمور، أو تتصاعد بأكثر مما هو مطلوب. وبات المغرب بلدا يأكله القلق.

وأصبح جليا أن رسالة الاحتجاج تطالب بتسريع وتيرة الإصلاحات، وإبعاد رموز الفساد. وبدا المغرب وكأنه عند مفترق طرق، ليس قريبا من الحافة، لكنه يتحرك. لم تستمر طويلا سياسة «اللين» التي تعاملت بها السلطات المغربية مع مظاهرات «حركة 20 فبراير» الشبابية الاحتجاجية. كانت تقديرات السلطات أن الحركة سقطت بالكامل في أيدي «جماعة العدل والإحسان» الأصولية المحظورة، وحزب «النهج الديمقراطي»، وفي رأي السلطات أن هذين التيارين يهدفان إلى جر البلاد إلى مصادمات في الشوارع. لكن على الجانب الآخر كانت «النداءات» الأوروبية والأميركية تدعو المغرب للتعامل «بعقلانية» مع الاحتجاجات، وعدم استعمال العنف ضد المتظاهرين.

كانت الرسالة القادمة عبر البحر الأبيض المتوسط، قلب العالم وبؤرة التاريخ، تقول للمغاربة «حاولوا الإنصات لمطالب المحتجين». كان موقف السلطات المغربية «سنستمع إليهم لكن لن نترك البلاد تنزلق نحو الفوضى».

في أواخر فبراير قالت وزارة الداخلية المغربية «إنها ستمنع أي مظاهرة غير قانونية» في رد مباشر على دعوة وجهتها «حركة 20 فبراير» للتظاهر في جميع المدن كل يوم أحد.

حاولت السلطات «تحييد» المنظمات الحقوقية في بلد يعج بمنظمات المجتمع المدني، التي تلعب دورا قويا على الساحة السياسية. طلبت الحكومة من المنظمات «احترام القانون» وعدم الخروج في مظاهرات من دون موافقة مسبقة، كما ينص القانون. لكن في الأسبوع الأول من مارس (آذار) ستبادر بعض المنظمات الحقوقية، إلى خطوة أثارت قلق السلطات، ولاحت في الأفق مؤشرات لا تبعث على الارتياح. إذ تأسس في الرباط «المجلس الوطني لدعم حركة 20 فبراير» لتقديم الدعم لحركة الشباب المغربي التي انطلقت عبر موقع «فيس بوك»، وعلى الرغم من أن متحدثين باسم ذلك المجلس قالوا إن دورهم سيقتصر على الدعم، وليس أن يكونوا بديلا للحركة، لكن دعوة المجلس إلى تنظيم «مظاهرات هادرة» في 20 مارس (آذار)، كانت تؤشر إلى أن الأمور في تصاعد. وطرح المجلس شعار «ضد الاستبداد ضد الفساد جميعا من أجل دستور جديد» وبدت أجواء المغرب ملبدة بغيوم كثيفة.

* إصلاحات الملك هنا سيتدخل الملك محمد السادس بنفسه ليبدد الغيوم. قرر العاهل المغربي أن يوجه خطابا مباشرا إلى المغاربة في التاسع من مارس. كان خطابا مدويا، أعلن فيه عزمه طرح تعديلات دستورية أساسية على استفتاء شعبي يتنازل فيه عن الكثير من صلاحياته ويمنح سلطات واسعة للبرلمان ورئيس الحكومة، وشكل لجنة لتقترح هذه التعديلات يترأسها عبد اللطيف المنوني وهو رجل قانون ذو نزعة يسارية، وحدد لهذه اللجنة ثلاثة أشهر من أجل تقديم توصياتها، سيتم بعدها تنظيم استفتاء على الدستور الجديد. وطلب من العاهل المغربي من اللجنة التشاور مع الأحزاب والنقابات والفعاليات الشبابية ومنظمات المجتمع المدني، حول الدستور الجديد. وفي محاولة لاستباق الشارع ومظاهراته واحتجاجاته، طرح الملك محمد السادس 11 خطوة من أجل تحقيق «الثورة الإصلاحية»:

* برلمان نابع من انتخابات حرة ونزيهة يتبوأ فيه مجلس النواب مكانة الصدارة، ويمنح البرلمان اختصاصات جديدة للنهوض بعمله التشريعي.

* حكومة منتخبة منبثقة عن الإرادة الشعبية يتم التعبير عنها من خلال صناديق الاقتراع وتحظى بثقة مجلس النواب.

* تعيين رئيس الحكومة من الحزب السياسي الذي يحصل على المرتبة الأولى في انتخابات مجلس النواب وعلى أساس نتائجها.

* تقوية وتعزيز دور رئيس الحكومة، كرئيس للسلطة التنفيذية يتولى المسؤولية الكاملة على الحكومة والإدارات الحكومية وقيادة وتنفيذ البرنامج الحكومي.

* التكريس الدستوري للطابع التعددي للهوية المغربية وإقرار الأمازيغية كلغة رسمية.

* توسيع مجال الحريات الفردية والجماعية وضمان ممارستها وتعزيز منظومة حقوق الإنسان بكل أبعادها السياسية والاقتصادية والاجتماعية والتنموية والثقافية والبيئية.

* الارتقاء بالقضاء إلى سلطة مستقلة.

* توطيد مبدأ فصل السلطات وتوازنها.

* تقوية دور الأحزاب السياسية في نطاق تعددية حقيقية وتكريس مكانة المعارضة البرلمانية والمجتمع المدني.

* تقوية آليات تخليق الحياة العامة وربط ممارسة السلطة والمسؤولية الحكومية بالمراقبة والمحاسبة.

* التنصيص في الدستور على هيئات حقوق الإنسان وحماية الحريات.

على الرغم من أن «حركة 20 فبراير» اعتبرت أن ما أعلن من «إصلاحات» غير كاف، وقالت إنها ستواصل مظاهراتها، فإن قطار «الإصلاحات» كان قد بدأ يتحرك. وقال عبد اللطيف المانوني، رئيس لجنة صياغة الدستور، إن البلاد ستعرف «عمليا دستورا جديدا لأن الإصلاحات ستكون شاملة».

وكان من بين الأمور التي طرحت بصورة واضحة، نوع الملكية التي سيختارها المغرب، هل هي «ملكية دستورية» أم «ملكية برلمانية» كما هي مطالب بعض التنظيمات الراديكالية. وتأكد للجميع أنه بعد إقرار الدستور الجديد عبر استفتاء، فإن المغرب سيتجه نحو انتخابات تشريعية مبكرة.

لم تمض سوى ثلاثة أيام على خطاب الملك محمد السادس، حتى أعلن عن تشكيل اللجنة التي ستتولى صياغة الدستور الجديد، وهي لجنة طلب منها «الإنصات لجميع شرائح الشباب». ولعل من المفارقات المغربية أن اللجنة التي هيمن عليها يساريون، ولم تضم «إسلاميين» ستقترح دستورا سيقود في نهاية المطاف إلى وصول «الإسلاميين» أنفسهم إلى الحكم.

لم يكن أمر «الإصلاحات السياسية» في المغرب شأنا داخليا، إذ إن المغاربة اعتادوا استمزاج الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة عند المنعطفات الحاسمة.

استمزاج الأوروبيين مبرره، أن المغرب يتمتع بوضعية «الشريك المتقدم» وهي أكثر من نصف عضوية. ومنذ أن حصل المغاربة على هذه الوضعية المتقدمة، سمعوا كلاما صريحا من الأوروبيين مؤداه «الاستفادة من الامتيازات الاقتصادية لا بد أن يرتبط بالإصلاحات السياسية في الداخل». وعندما أعلن العاهل المغربي عن «ثورته الإصلاحية» قال الأوروبيون «نحن مع هذا التوجه، لكن تفادوا قمع المظاهرات». أما بالنسبة لواشنطن، فإن الأمر يرتبط بأمرين، أولهما سياسي والثاني تاريخي. في التاريخ هناك معاهدة الصداقة المغربية الأميركية وهي معاهدة وقعت من طرف ملك المغرب محمد الثالث بن عبد الله والرئيس توماس جفرسون وهو الرئيس الأميركي الثالث، وكانت تلك الاتفاقية وقعت عام 1786، وبالتالي فإن علاقات البلدين «ضاربة في جذور التاريخ» كما يحلو للمغاربة أن يقولوا.

على الصعيد السياسي ظل المغرب حليفا دائما للولايات المتحدة في منطقة شمال أفريقيا. لذلك بادرت واشنطن إلى الترحيب «بالثورة الإصلاحية» التي أعلنها الملك وقالت في بيان رسمي «طرح ملك المغرب تعديلات دستورية شاملة تهدف إلى تعزيز سلطات رئيس الحكومة والبرلمان واستقلال القضاء وهذه لحظة للتغيرات العميقة في المنطقة، وحقق المغرب تحت قيادة الملك محمد السادس إنجازات ملموسة في المجالات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية» لذلك «نحن نساند طموحات الشعب المغربي في جهدهم لتوطيد سيادة القانون والرفع من مستوى احترام حقوق الإنسان وتطوير الحكامة الجيدة، والعمل باتجاه إصلاحات دستورية طويلة الأمد، ونحن على استعداد للعمل مع الحكومة والشعب المغربي لتحقيق طموحاتهم الديمقراطية».

احتفى المغرب الرسمي كثيرا بهذا التصريح، واعتبرت السلطات أن عليها التعامل بذكاء مع الاحتجاجات والمظاهرات، طالما توفر الغطاء الخارجي. إن شعار «لا عنف لكن لا تهاون» كان على ألسنة كثيرين داخل دائرة صنع القرار.

كان أول اختبار لهذا الشعار في 20 مارس ، في ذلك اليوم خرجت في جميع المدن المغربية دعت إليها «حركة 20 فبراير». رفعت تلك المظاهرات شعارات تتراوح ما بين إطلاق سراح معتقلين (أعضاء تنظيم السلفية الجهادية) إلى إبعاد شخصيات مقربة من الملك مرورا بإقالة الحكومة وحل البرلمان، وصولا إلى شعارات تدعو إلى حل مشكلات المتقاعدين وتعديل قانون المرور، أو شعارات ضد «مهرجان موازين»، وهو مهرجان موسيقي ينظم في العاصمة المغربية سنويا، ويشارك فيه موسيقيون وفنانون كبار من جميع أنحاء العالم، وتخصص له ميزانية ضخمة. وكانت هناك شعارات مثل «نريد مغربا جديدا» و«نريد دستورا يجسد الإرادة الشعبية» و«لا للجمع بين الثروة والسلطة» وشعارات أخرى تطالب بمحاسبة من يعتبرهم المتظاهرون شخصيات فاسدة. خلال تلك المظاهرات التي تلت «خطاب التاسع من مارس» أي خطاب الملك، كما أصبح يعرف في القاموس المغربي، وهو الخطاب الذي اقترح فيه طرح دستور جديد على المغاربة، لم يحدث أي احتكاك بين المتظاهرين وقوات الأمن التي اختفت تماما، وكان وجودها رمزيا، واقتصر دور بعض عناصر الشرطة على مراقبة المتظاهرين من بعيد. وكان ذلك مقصودا. بيد أن التعامل لم يكن كله لينا، إذ في بعض الأحيان ستستعمل قوات الأمن القوة في فض المظاهرات تبعا لقاعدة «المواجهة والتهدئة» وكان من نتائج استعمال القوة في يونيو (حزيران) سيؤدي إلى سقوط أحد أعضاء «حركة 20 فبراير» يدعى كمال العماري في مدينة آسفي، وأدى ذلك الحادث إلى تأجيج مشاعر الغضب، ومنح زخما جديدا للحركة ومسيراتها.

* الاستفتاء والانتخابات ثم عاد الملك ليتحدث من جديد، ليقدم الدستور الجديد ويدعو إلى استفتاء شعبي. وقال الملك في جملة دالة «حرصنا، ولأول مرة في تاريخ بلادنا، على أن يكون الدستور من صنع المغاربة، ولأجل جميع المغاربة». وطلب العاهل المغربي من المغاربة أمرين: التصويت بكثافة في الاستفتاء، وأن يقولوا «نعم» لهذا الدستور. وفي أول يوليو (تموز) صوت المغاربة بنسبة كبيرة لصالح الدستور. كانت الأرقام مفرحة للسلطات. إذ شارك 98.49 في المائة من الناخبين، وصوتت نسبة 95 في المائة منهم لصالح الدستور الجديد. بعدها ستدخل البلاد في أجواء انتخابات مبكرة.

كان الاقتراح أن تكون في أكتوبر (تشرين الأول) لكن معظم الأحزاب السياسية بما فيها حزب «العدالة والتنمية» كانت تطالب «بعدم التسرع» في إجراء الانتخابات. وفي نهاية الأمر وبعد اجتماعات ماراثونية معقدة، تم الاتفاق على أن تكون الانتخابات في 25 نوفمبر (تشرينالثاني). شارك 30 حزبا في الانتخابات، وقاطعتها بعض الأحزاب الراديكالية الصغيرة. وساد انطباع مؤداه أن حزب «العدالة والتنمية» الإسلامي المعتدل، سيقترب من تحقيق فوز «تاريخي»، وهو ما حدث بالفعل، إذ حصل الحزب على 107 مقاعد وهو أعلى رقم يحصل عليه حزب سياسي منذ الاستقلال. وبات واضحا وقتها أن الطريق بات مفتوحا لجيل جديد من السياسيين المغاربة، للوصول إلى موقع الحكم. ولم يتردد الملك إذ استقبل عبد الإله بن كيران في مدينة ميدلت التي تقع فوق جبال الأطلس، واستغرق اللقاء دقائق، لكن تلك الدقائق كانت كافية لتضع المغرب في مسار جديد. مسار مختلف. وتبين بعدها أن الملك أبلغ بن كيران أنه تعمد ألا يكون اللقاء طويلا، حتى لا يقال إنهما بحثا في تفاصيل الحكومة الجديدة وأسماء الوزراء. بتزامن مع ذلك، كان الزخم الذي اكتسبته «حركة 20 فبراير» الشبابية الاحتجاجية، تذروه رياح الإصلاحات. لم تنقطع المظاهرات لكن وهجها كان قد خبا تماما. وكان تعامل المغاربة مع أمواج «الربيع العربي» استثنائيا بالفعل كما قيل في المغرب.

* الإرهاب.. والصحراء واصلت السلطات المغربية «حربا» ليست مستعرة مع الإرهاب. أما نزاع الصحراء فانطبقت عليه تلك الجملة التي تقول «هذا أمر يراوح مكانه».

كانت أكبر ضربة إرهابية تلقاها المغرب في السنة التي تمضي، تتمثل في حادث تفجير «مقهى أركانة». وعلى الرغم من أن السلطات الأمنية توصلت خلال فترة قياسية لمنفذ الحادث. لكن الحادث نفسه كان قد ترك جرحا، ووجه ضربة موجعة لأنه استهدف مراكش السياحة المغربية. وقالت السلطات الأمنية المغربية إن المشتبه الرئيسي يدعى عادل العثماني نفذ لوحدها دون دعم من تنظيم عملية تفجير «مقهى أركانة» التي أودت بحياة 17 شخصا، معظمهم من السائحين، وجرح 21 شخصا آخرين.

وكشفت وزارة الداخلية جميع التفاصيل حول تلك العملية، مشيرة إلى أن العثماني اقتنى مواد مختلفة تدخل في تركيب المتفجرات، التي تعلمها عبر مواقع في الإنترنت، ووضع تلك المواد في منزل أسرته بمدينة آسفي، وتمكن من صنع عبوتين ناسفتين وزنهما 9 و6 كيلوغرامات، إضافة إلى تعديلات أجراها على هاتف جوال بهدف التحكم في تفجير العبوتين عن بعد. ثم توجه العثماني إلى المقهى حيث جلس كسائر الزبائن، وبعد فترة غادر المقهى بعد أن ترك الحقيبة التي تحتوي على العبوتين، وعقب ابتعاده عن المقهى فجرهما بواسطة هاتف جوال. ووصف المشتبه بأنه «متشبع بالفكر الجهادي، وعبر عن ولائه لتنظيم القاعدة». وسبق له أن حاول عدة مرات الانتقال إلى بعض بؤر التوتر خارج المغرب خاصة الشيشان والعراق، غير أنه لم يتمكن من تحقيق هدفه، حيث تم إيقافه مرتين؛ الأولى في البرتغال عام 2004 والثانية في سوريا عام 2007، قبل أن يتم ترحيله إلى المغرب بعد المحاولتين.

ولم يثن فشل العثماني في الانتقال إلى الخارج التخلي عن مشروعه، حيث عمل في ميناء آسفي على أمل تحقيق هدفه في الالتحاق بإحدى بؤر التوتر. وأمام عجزه عن الالتحاق بإحدى بؤر التوتر لخدمة تنظيم القاعدة، قرر تنفيذ عملية إرهابية كبيرة داخل المغرب تحت تأثير أفكاره الجهادية. وبعد الاعتقال والتحقيق ومثوله أمام المحاكمة، أصدرت محكمة خاصة بالقضايا الإرهابية حكما بالإعدام على العثماني.

قبل ذلك كان المغرب أعلن عن تفكيك شبكة إرهابية ذات صلة بتنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي، وذلك بعد مرور أيام على الإعلان عن تفكيك خلية أخرى، كانت تعتزم استخدام سيارات مفخخة لشن هجمات إرهابية ضد مصالح أجنبية ومنشآت ومراكز أمنية مغربية. وفي السياق نفسه أعلنت السلطات عن تورط عسكريين مغاربة في تسهيل عملية تهريب الأسلحة من طرف أعضاء الشبكة الإرهابية الموالية لتنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي، التي أعلن عن تفكيكها في وقت سابق وعثر لديها على مخابئ أسلحة في منطقة أمغالا (جنوب شرقي المغرب)على بعد 220 كيلومترا من مدينة العيون كبرى مدن الصحراء.

وبالتزامن مع عملية «أركانة» وتفكيك شبكات إرهابية أخرى، حدث تمرد في سجن «سلا» في مدينة سلا المجاورة للرباط نفذه أعضاء من تنظيم «السلفية الجهادية» المحكومين في قضايا لها علاقة بالإرهاب. وهو ما أدى إلى توزيع السجناء على سجون أخرى، بعد حركة التمرد التي أدت إلى جرح عدد من الحراس والسجناء، بعد أن احتجز سجناء خمسة حراس كرهائن، في إطار احتجاجات قاموا بها. وتدخلت قوات الأمن لفض التمرد داخل السجن، واستعملت القنابل المسيلة للدموع والرصاص المطاطي، وخراطيم المياه، . وقتها قالت مصادر حقوقية إن 120 معتقلا إسلاميا أصيبوا في هذه الاشتباكات، حالة واحد منهم خطيرة، مشيرة إلى أنه أصيب في صدره بالرصاص الحي.

أما على صعيد مفاوضات الصحراء «التي تراوح مكانها» فقد عقدت عدة جولات في ضواحي نيويورك، بحضور مسؤولين من الجزائر وموريتانيا، برعاية كرستوفر روس، المبعوث الشخصي للأمين العام للأمم المتحدة، ولم تحرز تلك المفاوضات أي تقدم باستثناء الاتفاق على استئناف تبادل الزيارات بين العائلات الصحراوية المقيمة بمخيمات تندوف والمدن الصحراوية، برعاية المفوضية العليا لشؤون اللاجئين، بالإضافة إلى تسريع وتيرة المفاوضات بين الجانبين، تمهيدا لإجراء مفاوضات رسمية.

وسعى المغرب خلال المفاوضات إلى استعمال ورقة الإرهاب من أجل تعزيز موقفه الداعي إلى إنهاء النزاع في الصحراء، حيث سعى إلى تأكيد وجود علاقة بين تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي وجبهة البوليساريو، وقال المغاربة إن منطقة جنوب الصحراء أصبحت مرتعا لانتشار شبكات الإرهاب والتهريب والاتجار في السلاح والمخدرات.

وفي هذا الصدد، اتهم المغرب جبهة البوليساريو بشكل مباشر بدعم الإرهاب. وقال الطيب الفاسي الفهري، وزير الخارجية المغربي في تقييمه لجولات المفاوضات التي لم تؤد إلى نتيجة: «الأمل سيظل ضعيفا بل ومنعدما، في غياب استعداد الأطراف الأخرى للتوافق أو بذل المجهود الضروري للتوصل لحل سياسي، حيث تشبث المغرب بمقترح الحكم الذاتي كحل للنزاع، بينما تصر جبهة البوليساريو على الاستفتاء كخيار لتقرير المصير، الذي يعتبره المغرب خيارا متجاوزا، وغير قابل للتطبيق». وبالمقابل ظلت جبهة البوليساريو تقول إن المغرب يضع المفاوضات في مأزق لأنه يريد فرض حل خارج إطار التفاوض ويرفض مبدأ «حق تقرير المصير». إضافة إلى نيويورك التقى المغرب وجبهة البوليساريو في جولة مفاوضات غير رسمية في مالطا، وعلى الرغم من أن روس طلب من الطرفين تقديم مقترحات جديدة، للخروج من دائرة المفاوضات المفرغة، التي لم تحقق شيئا أو تقدما لإيجاد تسوية للنزاع، لكن لم يتحقق شيء.

ولم يقتصر موضوع الصحراء على «مفاوضات الدائرة المفرغة» بل كانت هناك بعض الأحداث التي ألقت بظلالها على مسار المفاوضات، من ذلك اضطرابات وقت في الرباط في أبريل (نيسان) عندما أقدم طلاب صحراويون غاضبون على أعمال حرق وتخريب وعنف في الحي الجامعي السويسي (المدينة الجامعية) في الرباط، وهو الحي الجامعي الرئيسي في الرباط الذي يقطنه طلاب من جميع أنحاء المغرب. وكان الطلاب الملثمون، لإخفاء هويتهم، يحملون أسلحة بيضاء وهراوات وسلاسل، كما جلبوا قنينات غاز.

واندلعت أحداث العنف بعد مقتل طالب صحراوي إثر مشاجرة بسبب فتاة. وتقول الرواية الرسمية للحادثة إن الطالب عباد حماد، (25 سنة)، تحرش رفقة صديق له وهما مخموران بإحدى الفتيات قرب الحي الجامعي، مما يرجح أن تكون الفتاة طالبة، واستنجدت تلك الفتاة بأصدقاء لها، مما أدى إلى حدوث مشاجرة تلقى خلالها الضحية طعنة بالسكين، ونقل إلى المستشفى بعد ذلك، لكن لفظ أنفاسه هناك، بيد أن تلك الأحداث سرعان ما أضفيت عليها أبعاد سياسية ربطتها بنزاع الصحراء.

واستمر مجلس الأمن في التعامل مع نزاع الصحراء، من زاوية واحدة وهي، تبنى قرار التمديد سنة لمهمة بعثة الأمم المتحدة في الصحراء الغربية وذكر فيها لأول مرة ضرورة تحسين حقوق الإنسان. وفي القرار الذي تبناه المجلس بالإجماع، أكد تعهده بمساعدة الأطراف للتوصل إلى حل سياسي دائم ومقبول. وأضاف أنه أخذ علما «بالطريق المسدود الحالي، ودعا الدول في المنطقة إلى مزيد من التعاون لإنهاء هذا الوضع».

كان ذلك مجرد كلام لا يحرك فعلا. وكانت تلك هي حالة نزاع الصحراء خلال عام 2011، إذ لم تسمح جولات المباحثات غير الرسمية برعاية الأمم المتحدة منذ أبريل 2007 بالخروج من المأزق. وبعد عقدين على إنشاء بعثة الأمم المتحدة في الصحراء، سيدعو المجلس «الأطراف إلى المضي في عزم سياسي والعمل في أجواء ملائمة للحوار لدخول مرحلة مفاوضات مكثفة». وأعرب المغرب عن ارتياحه لمصادقة مجلس الأمن على القرار 1979، الذي يمدد مهمة بعثة مينورسو حتى 30 أبريل من العام المقبل (2012)، مشيرا إلى أن القرار دعا للمرة الأولى، الجزائر إلى السماح للمفوضية السامية لشؤون اللاجئين بإحصاء سكان مخيمات تندوف (جنوب غربي الجزائر) حيث يوجد مقر قيادة البوليساريو.

سار المغرب خلال عام 2011 على إيقاع المسيرات والمظاهرات، لكن أمواج «الربيع العربي» لم تبعده عن مساره، إذ ظل وفيا لطرائقه، أي الإصلاح عبر المؤسسات. وقفت البلاد أحيانا عند مفترق الطرق لكنها ابتعدت عن الحواف الوعرة. تشابكت خطوط لكن الأمور لم تتعقد. لم تكن الأمور بالبساطة التي تبدو عليها وكان صعبا أن تكون، لكنها كانت أيضا تحت السيطرة.

هل تحرك المغرب؟ نعم هل حدث تغيير؟ حدث.