أوروبا في 2011: التقشف أجج الاحتجاجات وأسقط حكومات

مساع حثيثة لإنقاذ الدول المتعثرة ماليا.. ومعاهدة جديدة ترفض بريطانيا اللحاق بها

وسط أثينا تحول إلى ساحة احتجاجات متواصلة خلال العام الماضي (إ.ب.أ)
TT

لم تفلح القمم الأوروبية المتكررة في بروكسل طوال عام 2011، في تفادي انتقال عدوى أزمة الديون من دولة إلى أخرى في منطقة اليورو. ورغم أن الاجتماعات تمخضت عنها قرارات بتقديم مساعدات مالية للدول المتعثرة، وتأسيس صندوق للإنقاذ، فإن تلك القمم، برأي مراقبين، لم تفلح في إيجاد حلول سريعة وحاسمة، كما لم تفلح في طمأنة الأسواق، سواء الأوروبية أو العالمية، التي مارست بدورها، ضغوطا كبيرة على الدول المتعثرة، وأدى ذلك إلى مزيد من الأوضاع المتردية، وانعكس ذلك على رجل الشارع الذي عانى كثيرا، وخرج للتعبير عن رأيه وسخطه.

وأشارت عدة تقارير إعلامية إلى أن «الربيع العربي» يبدو أنه انتقل إلى أوروبا، فقد سقطت عدة حكومات أوروبية بفعل سياسات التقشف وتردي الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية وما نجم عنها من مظاهرات شعبية.

ففي الربع الأول من العام وبالتحديد في أواخر مارس (آذار)، انهارت حكومة آيرلندا، وذلك بعد أسابيع من الإعلان عن خطة للتقشف بهدف تحقيق انخفاض على الموازنة يصل إلى 15 مليار يورو. وفي الأسبوع الأول من أبريل (نيسان) طلبت البرتغال من المفوضية الأوروبية تفعيل آلية الإنقاذ الأوروبية للحصول على مساعدة مالية لمواجهة العجز في الموازنة، ولم يستمر الأمر طويلا، وسقطت الحكومة البرتغالية برئاسة جوزيه سوكراتيس. وذكر سوكراتيس في رسالة لمواطني البلاد أنه حاول تفادي قراره حتى اللحظة الأخيرة، لكنه اتخذه لأن تفاقم الأزمة أصبح بمثابة تهديد لاقتصاد البلاد. وأرجع طلب المساعدات إلى رفض المعارضة لخطته الرابعة للتقشف الاقتصادي الذي أدى إلى استقالته. وقررت الحكومة الجديدة اتخاذ إجراءات وصفت بالراديكالية لمواجهة الأزمة المالية الخانقة ولتسديد العجز في الميزانية عبر سن ضريبة جديدة تتمثل في اقتطاع 50 في المائة من راتب الشهر الرابع عشر في العام حيث يتقاضى الموظفون والعمال في البرتغال أربعة عشر راتبا في العام بدل اثني عشر. وهذه الضريبة لا تشمل سوى الرواتب التي تساوي أو تفوق الدخل الأدنى والذي يقدر في البرتغال بنحو أربعمائة وخمسة وسبعين يورو، وذلك وفق ما صرح به رئيس الوزراء الجديد بدرو باسوس كويلهو في افتتاح جلسة برلمانية حول برنامج عمل الحكومة. وهذه الضريبة التي وصفت بالخاصة تهدف، وفق مراقبين، إلى سداد الديون المترتبة عن مساعدات محتملة تتلقاها البرتغال من الاتحاد الأوروبي وصندوق النقد الدولي. ومؤخرا قالت بعثة الترويكا للاتحاد الأوروبي وصندوق النقد الدولي، إن لشبونة نجحت في بلوغ الأهداف التي حددت لها، مما سيفتح الباب لمنحها حزمة ثالثة من المساعدات المالية المقدرة بثمانية مليارات يورو خلال الشهرين المقبلين. وتوصلت البرتغال في مايو (أيار) الماضي إلى اتفاق مع الجهات الدائنة، تمنح بموجبه مساعدات مالية تقدر قيمتها بثمانية وسبعين مليار يورو.

وأصبحت البرتغال ثالث دولة بعد اليونان وآيرلندا، تواجه أزمة عجز الموازنة، وبدأت دول أخرى مثل إسبانيا وإيطاليا والمجر والتشيك وبلجيكا تسعى جاهدة لتفادي الوقوع في دوامة عجز الموازنة. وشهدت عواصم تلك الدول تحركات وإجراءات ترمي في المقام الأول إلى تحقيق نجاحات اقتصادية ومالية تساعد في تخطي الظروف الراهنة. لكن أمام تفاقم الأمور، لم تجد تلك الحكومات أمامها سوى اتباع سياسة «التقشف» تحت ضغط الأسواق.

وكانت كلمة التقشف هي الكلمة السحرية التي تعني الخروج إلى التظاهر في الشوارع. فقد عرفت شوارع المدن الإسبانية واليونانية مظاهرات وإضرابات في مجالات عدة وتبعتها مدن إيطالية وبلجيكية وفرنسية وغيرها. وخلال هذه الفترة توالى سقوط الحكومات نتيجة للرفض الشعبي وسقطت حكومة جورج باباندريو في اليونان وبعدها حكومة سيلفيو برلسكوني في إيطاليا ثم خوسيه رودريغيز ثاباتيرو في إسبانيا.

وفي الربع الأخير من العام، شعر المواطن الأوروبي بضرورة توحيد المظاهرات الاحتجاجية، وجرى الاتفاق على منتصف أكتوبر (تشرين الأول) للتوجه إلى بروكسل لتوصيل رسالة إلى المسؤولين الأوروبيين. وجاءت مظاهرة تحت عنوان «من أجل التغيير العالمي»، شارك فيها نشطاء الحركة الغاضبين من الأزمات الاقتصادية وغياب العدالة الاجتماعية. وانضم آلاف الأوروبيين إلى تلك الحركة الاحتجاجية، قادمين من عدة دول قريبة من بلجيكا مثل فرنسا وهولندا فضلا عن مشاركة المئات من إسبانيا قطعوا مسافة 2000 كيلومتر سيرا على الأقدام. ورفع الجميع لافتات ورددوا شعارات للتعبير عن الاحتجاج على السياسات المالية والاقتصادية الأوروبية، ومنها أن 99 في المائة يعانون من الأزمة، و1 في المائة فقط يعيش في رغد ولا يشعر بأي شيء، وطالبوا بالتغيير والديمقراطية ورفعوا لافتات تقول: «نريد عالما جديدا».

وكانت حركات غضب عفوية شبابية بمجملها انطلقت من مدريد في 26 يوليو (تموز)، ووصلت إلى بلجيكا بأعداد تقدر بالمئات عبر باريس سيرا على الأقدام من أجل إسماع المؤسسات الأوروبية صوتا غاضبا معترضا على السياسات الحالية. وكانت تلك المواكب تتألف في معظمها من طلاب وعمال ومتقاعدين من جميع أنحاء البلدان الأوروبية. وقال شاب فرنسي من المشاركين: «لسنا تيارا سياسيا وليس لدينا برنامج سياسي. نحن نريد فقط أن نشير إلى أن تباعدا كبيرا يحصل بين الشعب وممثليه، فالمجتمع متعطش للتقارب كما الجغرافيا، وهذه هي أسباب المسيرة». وحصل المشاركون في تلك المسيرات الغاضبة، على معونات مثل المأكل والملبس، من السكان في القرى والمدن التي مروا فيها. وقال شاب إسباني: «المسيرة تحظى بالتأييد من قبل الجميع. انطلقنا في شهر أغسطس (آب) وكنا نرتدي الملابس الصيفية، وما نرتديه اليوم هو هبة من الناس وهذا أمر مفرح». أما بالنسبة لمقترحات الشباب الغاضب، فقال أحدهم: «مررنا في القرى والمدن وجمعنا المقترحات وطلب الناس أن ننقل مطالبهم إلى مؤسسات الاتحاد الأوروبي».

توجه الشبان الغاضبون من الجنسين إلى المؤسسات الأوروبية وقدموا لها كتابا بمطالبهم واقتراحاتهم الملحة. واتفقت مؤسسات الاتحاد الأوروبي على شرعية مطالب أولئك المتظاهرين الذين وصفوا بـ«الغاضبين». وأكد كل من رئيس المفوضية الأوروبية مانويل باروزو، ورئيس المجلس الأوروبي هيرمان فان رومبوي، أنهما يريان مطالب المتظاهرين الغاضبين «شرعية» وقابلة للفهم. وقال باروزو: «إنني أتفهم إحباط وسخط العديد من المواطنين في أوروبا والعالم». وأضاف: «حركة الغاضبين تحولت إلى دعوة عالمية»، مؤكدا أن نشأتها جاءت نتيجة لبعض القرارات «غير المسؤولة» وبعض الحالات «غير الشرعية» التي تم اتخاذها في القطاع المالي. ومن جانبه أوضح رومبوي أن قلق المتظاهرين «شرعي» رغم إشارته إلى أن الإجراءات التي يتم اتخاذها للتعاطي مع الأزمة «يمكن ألا تلقى استحسانا لدى الشعوب ولكن لا غنى عنها». وأشار رئيس المجلس الأوروبي إلى أن التقشف ضروري من أجل إعادة التوازن في الاقتصاد، لكنه شدد في الوقت نفسه على أهمية ظهور نتائج ملموسة في سوق العمل.

ومع أواخر أكتوبر (تشرين الأول) وبداية نوفمبر (تشرين الثاني)، نجحت المظاهرات الغاضبة في روما ومدن أخرى في إسقاط حكومة برلسكوني وجرى تشكيل حكومة جديدة نجحت على الفور في الحصول على ثقة البرلمان، وأكد رئيس الحكومة الإيطالي الجديد ماريو مونتي رغبته في التركيز أكثر على المبادرات المنسقة للنمو الاقتصادي، وتعزيز قلب الاقتصاد الحقيقي بأكبر قدر من العناية والتماسك.

كذلك، بعد استقالة باباندريو في أثينا، توجه رئيس الوزراء اليوناني الجديد لوكاس باباديموس إلى بروكسل، لإطلاع قادة المؤسسات الاتحادية على خطط العمل المستقبلية لأثينا، لتجاوز المرحلة الصعبة الحالية التي تمر بها بلاده، وفي نفس شهر نوفمبر أيضا، أعلنت المفوضية الأوروبية أن المجر تقدمت بطلب للحصول على مساعدة مالية من الاتحاد الأوروبي.

وسبق أن أعلنت المفوضية الأوروبية، أن اقتصادات دول منطقة اليورو (17 دولة) ودول الاتحاد الأوروبي بشكل عام، تواجه خطر التعرض لمرحلة ركود جديدة العام المقبل، إذا لم يتم اتخاذ إجراءات إضافية تحول دون وقوع هذا الأمر. ومن جانبها قالت رئاسة الاتحاد الأوروبي إن التكتل الأوروبي الموحد يواجه العديد من التحديات الاقتصادية والسياسية في عالم متغير، وإن الاتحاد الأوروبي يقاوم حاليا تبعات الأزمة المالية. وقال رئيس مجلس الاتحاد الأوروبي فان رومبوي، إن الاتحاد الأوروبي يواجه تحديا مزدوجا يتمثل في التعامل مع الأزمة الحالية ومنع حدوث أخرى مشابهة مستقبلا. وقال في كلمة ألقاها في جامعة زيوريخ ونشرها المجلس الأوروبي ببروكسل «إن واجبنا ليس فقط ضمان الاستقرار المالي في منطقة اليورو، بل أيضا تحفيز النمو الاقتصادي ولكن نؤكد في الوقت نفسه أن النمو هو مسؤولية عالمية».

وخفضت المفوضية الأوروبية في وقت سابق توقعاتها لنمو اقتصادات منطقة اليورو خلال عام 2012 ليقتصر نموها على 0.5 في المائة مقابل 0.6 في المائة للاتحاد الأوروبي بكامل أعضائه. وكانت التوقعات السابقة للمفوضية الأوروبية تشير إلى أن نمو اقتصاد دول العملة الموحدة سيبلغ 1.8 في المائة في 2012، مقابل 1.9 في المائة لدول الاتحاد الأوروبي. وتقول المفوضية إن اقتصاد دول منطقة اليورو والاتحاد الأوروبي سيعاود تعافيه خلال 2013 ولكن بوتيرة متواضعة بنمو قدره 1.3 في المائة و1.5 في المائة على التوالي. ويأتي خفض توقعات النمو في دول الاتحاد الأوروبي نتيجة تدهور ثقة الأسواق في اقتصادات التكتل بسبب أزمة الديون.

وتسبب هذا الأمر في انخفاض الطلب مع تراجع الاستهلاك المحلي بسبب الإجراءات التقشفية، علاوة على تأجيل أو إلغاء استثمارات الشركات. وحذر التقرير الصادر عن المفوضية الأوروبية، من أن ركود الاقتصاد سيطال جميع الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي ولن تكون هناك أي مجموعة داخله بمنأى عنه، وإن تباينت نسب النمو بين دولة وأخرى. كما أشار التقرير إلى أنه في العام المقبل سيستمر ركود سوق العمل كما أن النمو المتواضع المتوقع خلال النصف الثاني من 2012 لن يساهم في توفير فرص عمل جديدة. أما عن المؤشرات الإيجابية التي تضمنها التقرير فكانت حول انخفاض العجز في ميزانية دول الاتحاد الأوروبي خلال 2012 مقارنة بالعام الحالي لتصل من 4.7 في المائة إلى 3.9 في المائة. وكذلك الحال بالنسبة لعجز موازنة الدول الـ17 الأعضاء في منطقة اليورو، حيث ستنخفض العام المقبل مسجلة 3.4 في المائة مقارنة بـ4.1 في المائة خلال 2011.وفيما يتعلق بنسبة التضخم فستظل أقل من 2 في المائة خلال العام المقبل.

وفي القمة الأخيرة التي انعقدت ببروكسل اتفق قادة معظم الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي حول إدارة الأمور المالية والاقتصادية في منطقة اليورو، وترك الباب مفتوحا أمام الدول الراغبة في الانضمام إلى الاتفاق مستقبلا، مما جعل البعض في بروكسل يطلق على الاتفاق اسم شينغن مالي، نسبة إلى اتفاق شينغن بشأن حرية الحركة والتنقل ويسمح لمن يشاء من الدول الأعضاء بالانضمام إليه دون اجبارهم على ذلك. وفي الوقت نفسه اقترن النجاح بالفشل في وصف نتائج القمة، ويمكن القول إن القادة نجحوا في وضع ضوابط وقواعد لإدارة منطقة اليورو، أطلق عليه البعض اسم «ميثاق مالي»، وأيضا توسيع دور البنك المركزي الأوروبي، ووضع سقف لآلية الاستقرار المالي بنصف مليار يورو وتخصيص 200 مليار لصندوق النقد الدولي للمساهمة في الحلول للازمات التي تواجهها المنطقة، وفي الوقت نفسه فشل القادة في تحقيق الاجماع المطلوب لتغيير معاهدة الاتحاد الأوروبي، من أجل فرض رقابة مالية أكثر صرامة على موازنات الدول الأعضاء، لتفادي حدوث حالات جديد من العجز، وبالتالي تفادي تفاقم الأزمة بانضمام دول جديدة لتلك التي وقعت في دائرة الديون السيادية، وهي اليونان وآيرلندا والبرتغال، في وقت تصارع دول أخرى مثل إسبانيا وإيطاليا والمجر وبلجيكا وغيرهم من اجال تفادي نفس المصير. وبعد تباحث قادة دول الاتحاد الـ27 حول طرق معالجة الأزمة، وافقت أغلبية الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي على حزمة قرارات للإدارة المالية تعمل على الحفاظ على منطقة اليورو ورفضت بريطانيا التعاون في تنفيذ اتفاق يستند على مقترح ألماني ـ فرنسي حول هذا الصدد.

وبرر رئيس الوزراء البريطاني ديفيد كاميرون رفضه قبول الاتفاقية الجديدة بكونها مضرة بمصالح بريطانيا وأن مجلس العموم البريطاني لن يقبلها. وترى بريطانيا أن الضوابط الأوروبية الجديدة ستلحق أضرارا بمكانة لندن كسوق عملة رئيس وريادي في أوروبا».

ووقعت الدول السبعة عشر الأعضاء في منطقة اليورو على الاتفاق الجديد بينما ستلجا تسع دول إلى البرلمانات الوطنية.

ويتضمن الاتفاق اعطاء دور للمصرف المركزي الأوروبي ووضع سقف لآلية الاستقرار المالي الأوروبية يصل إلى 500 مليون يورو وتخصيص 200 مليون يورو لصندوق النقد الدولي يتم الاستفادة منها في مساعدة الدول التي تواجها عجزا في الموازنة. وفي المؤتمر الصحافي الختامي قال رومبوي: لقد اتخذنا قرارات هامة للحفاظ على منطقة اليورو على المديين القصير والمتوسط ووافقت اليوم 17 دولة تشكل منطقة اليورو إلى جانب دول أخرى على حزمة جديدة للمالية الأوروبية وسيتم الرجوع للبرلمانات الوطنية في هذا الصدد. ووصف دبلوماسيون أوروبيون الاتفاق الذي توصلت إليه القمة الأخيرة بإنه اتفاق بين عدد من الحكومات شبيه باتفاق شنغن الأمني، أي أنه يترك الباب مفتوحا للدول الساعية مستقبلا للانضمام إليه.