أسانج ألهب الدنيا بوثائقه ثم غرق في معركته الشخصية مع التهم الجنسية

مؤسس «ويكيليكس» قضى العام مع المحاكم.. وباتت أمامه فرصة أخيرة لمنع تسليمه إلى السويد

أسانج محاطا بالصحافيين بعد مغادرته المحكمة العليا في لندن في 2 نوفمبر الماضي (أ.ب)
TT

ربما سيُذكر 2011 بأنه عام الانتفاضات العربية بامتياز، لكن تلك الثورات وما نجم عنها من إطاحة نظم استبدادية ستُذكر معها أحداث أخرى أصغر مهدت للحدث الكبير بدرجة أو بأخرى. وتبرز في مقدمة ذلك، تسريبات موقع «ويكيليكس» ودورها، الجزئي طبعا، في فضح فساد الأنظمة الشمولية، وبالتالي إذكاء روح الإطاحة بها. ورغم أن الموقع لا يزال مصدرا للتزويد بالأخبار المثيرة من حين لآخر، فإن الاهتمام انحرف كثيرا خلال العام الماضي باتجاه معركة مؤسس الموقع جوليان أسانج مع قضيته الشخصية الثانوية في بريطانيا، والمتعلقة بطلب تسليمه إلى السويد بتهم اغتصاب وتعد جنسي.

وبعد نحو عام كامل من اعتقاله ومباشرة معركته القضائية هذه، تدهور وضع أسانج (39 عاما)، بينما كان يحظى بشهرة كبيرة عندما باشر بكشف آلاف البرقيات الدبلوماسية الأميركية. ومنذ إيداعه الإقامة الجبرية في منزل بالريف البريطاني وإجباره على حمل سوار إلكتروني، حاول أسانج إبقاء الشعلة عبر إجراء مقابلات وتصريحات مدوية من مقر إقامته الإجبارية.

وحتى مع تراجع الدعم الذي كان يحظى به وتوتر علاقته مع الإعلام وتحول الأضواء إلى الأمر الشخصي (التهم الجنسية)، فإن صيت أسانج المدافع عن الشفافية لم يختف كليا. فقد فاز الرجل بإحدى أرقى الجوائز الأسترالية في مجال الدفاع عن حقوق الإنسان. ويتعلق الأمر بالميدالية الذهبية التي منحها إياه «معهد سيدني للسلام» في 11 مايو (أيار) تكريما «لشجاعته الاستثنائية في الدفاع عن حقوق الإنسان وتصميمه على إلزام الحكومات بمزيد من الشفافية من خلال إعادة النظر في قرون من ممارسة السرية». وهذه الميدالية الذهبية لم تقدم في السابق سوى لـ3 شخصيات هم: الزعيم الروحي التيبتي الدالاي لاما، والرئيس الجنوب أفريقي السابق نيلسون مانديلا والياباني دايساكو ايكيدا من جمعية سوكا غاكاي البوذية. وفي يونيو (حزيران) الماضي، مُنح أسانج «جائزة مارثا غيلهورن للصحافة» لعام 2011، وكان بذلك أول صحافي غير تقليدي يفوز بهذا الجائزة المرموقة في بريطانيا، منذ إطلاقها في عام 1999. وكانت مجلة «تايم» وصحيفة «لوموند» قد صنفتا أسانج السنة الماضية بـ«رجل العام»، بينما أخرجت مسرحية حول حياته في أستراليا وستبدأ جولة أوروبية من لندن الشهر المقبل.

وحرص أسانج على ربط الوثائق السرية التي كشفها بربيع الانتفاضات العربية. ففي كلمة له أمام مئات الطلاب في جامعة كمبريدج في يونيو أكد أن نشر موقعه للبرقيات الدبلوماسية الأميركية ساعد في تحفيز الانتفاضات في العالم العربي. وقال إن التسريبات ربما أقنعت بعض الأنظمة السلطوية بأنه لا يمكنها أن تعتمد على الدعم الأميركي إذا استخدمت القوة العسكرية ضد المحتجين. واعتبر أن تلك البرقيات جعلت من الصعب على الغرب أن يواصل دعمه لأنظمة طال بقاؤها في السلطة. وقال: «البرقيات التونسية أظهرت بوضوح أنه إذا وصل الأمر إلى حدوث قتال بين الجيش في جانب والنظام السياسي لـ(الرئيس زين العابدين) بن علي في الجانب الآخر فإن الولايات المتحدة ستدعم على الأرجح الجيش». ومضى قائلا: «ذلك شيء لا بد أنه كان سببا في أن دولا مجاورة لتونس توصلت إلى اعتقاد بأنها إذا تدخلت عسكريا فإنها ربما لن تكون في نفس الجانب مع الولايات المتحدة». وبشأن التغيير في مصر، رأى أسانج أن البرقيات التي نشرت عن رئيس المخابرات السابق، عمر سليمان، منعت الولايات المتحدة من دعمه كخليفة محتمل للرئيس السابق حسني مبارك. وقال: «لم يكن ممكنا أن تخرج (وزيرة الخارجية الأميركية) هيلاري كلينتون لتعلن التأييد لنظام مبارك».

وبالنظر في قضية معركته القضائية، فقد قبلت المحكمة العليا البريطانية في 16 ديسمبر (كانون الأول) الحالي طلب أسانج باستئناف جديد لقرار تسليمه إلى السويد، وحددت جلسة مطلع فبراير (شباط) المقبل للبت في الأمر. ويعد هذا آخر تطور في مسلسل قضائي مستمر منذ عام. وفي حكم من شقين، رفض القاضيان في المحكمة العليا قبول طلب استئناف أسانج لكنهما اعترفا بأن قضيته ترتدي طابعا «يهم المصلحة العامة»، وتستحق الدراسة أمام المحكمة العليا. ولذلك بات بإمكان أسانج عرض قضيته بنفسه على قضاة المحكمة العليا.

ومنذ اعتقاله في 7 يناير (كانون الثاني) الماضي في لندن، مثل أسانج 9 مرات أمام المحاكم محاولا التصدي للآلة القضائية التي تحركت بموجب مذكرة توقيف صدرت عن ستوكهولم بعد أن اتهمته امرأتان بالاغتصاب والتعدي الجنسي.

وكان القضاء البريطاني قد وافق على تسليمه، ولذلك تبدو مهمة إقناع قضاة الاستئناف الآن صعبة ودقيقة. ويركز محامو أسانج الآن على زاويتين للهجوم هما: هل يمكن تسليم شخص لم يلاحق رسميا كما هو الحال بالنسبة لأسانج؟ وهل يمكن اعتبار مذكرة توقيف صدرت عن مدعي الدولة سليمة في هذا الإطار؟

وقال غاري بيرث، أحد محامي أسانج، بعد قبول الالتماس الأخير، إنه «في حال رفضت المحكمة العليا الاستئناف، سينتهي الأمر». وإذا رفضت المحكمة بالفعل طعن أسانج الذي يندد منذ البداية بمؤامرة حاكتها امرأتان سويديتان اتهمتاه بالتعدي جنسيا عليهما في عام 2010، فإنه «سيسلم في غضون 10 أيام إلى السويد حيث سيعتقل»، كما ورد في موقع «السويد ضد أسانج» الذي يدافع عنه، بينما يخشى أنصاره من تسليمه بعد ذلك إلى القضاء الأميركي. وظل دفاع أسانج يركز بأن القضايا المرفوعة ضده في السويد ينظر إليها كجرائم كبرى في بريطانيا، ومن ثم فإنه لا تنطبق عليها شروط الترحيل. وقالت جنيفر روبنسون، وهي واحدة من فريق الدفاع عن أسانج، إن موكلها «لا يأخذ الاتهامات على محمل الجد. إنه يصر على براءته، وإن تلك العلاقة كانت بين بالغين متوافقين، وهي بهذا الشكل لا تعتبر اغتصابا في بريطانيا، لكن قانون الاغتصاب في السويد يختلف عن القانون البريطاني». وأشار محامو أسانج أيضا إلى أن المزاعم تحركها دوافع سياسية وجزء من مؤامرة دبرت بإحكام وحاكتها ستوكهولم وواشنطن حتى تتمكن في النهاية من تسليمه إلى الولايات المتحدة.

لكن الحكومة السويدية دافعت بشدة عن مذكرة التوقيف التي أصدرتها بحق أسانج وعن نظامها القضائي. وعلق رئيس الوزراء السويدي، فريدريك راينفالد، في فبراير (شباط) ردا على اتهامات دفاع أسانج، قائلا: «لدينا نظام قضائي مستقل لا يخضع للسلطة السياسية. ما يقلقني هو أن هناك محاولة لطمس واقع أن هناك ادعاءات بالغة الجدية». ورفض حجة أسانج أنه لن يخضع لمحاكمة عادلة في السويد، وقال: «للأسف، هذا النوع من الكلام الذي تسمعه عندما يكون هناك (محام) يحاول الدفاع عن موكله، وكل من يعيش في السويد يعرف أن هذا الكلام غير صحيح». وأضاف تعليقا على الاتهامات الموجهة إلى أسانج: «نحن لا نقبل التحرش الجنسي ولا الاغتصاب».

ورغم انغماس أسانج في معركته ضد التهم الجنسية، فإن جهود الجانب الرسمي الأميركي معه، أو مع القائمين على موقعه، لم تتوقف، وذلك بهدف استرجاع ملفات حساسة باتت بحوزة «ويكيليكس». فقد كشف الناطق باسم وزارة الدفاع الأميركية، بريان ويتمان، في أغسطس (آب) الماضي عن وجود اتصال بـ«ويكيليكس» هدفه منع نشر 15 ألف وثيقة إضافية حول النزاع في أفغانستان. لكن البنتاغون شدد في المقابل على رفضه التفاوض مع الموقع حول الملفات المتبقية الموجودة بحوزته.

* «الشريك الأميركي»

* مثلما وجد أسانج نفسه في الأخير أمام دوامة المحاكم، فإن «شريكه» الأميركي الذي يعتقد أنه سرب له المعلومات أثناء خدمته العسكرية في العراق، بات يواجه نفس الدوامة على الأرجح. فقد بدأ الجيش الأميركي، الأسبوع الماضي، جلسات مع الجندي برادلي مانينغ (24 عاما)، لتحديد إمكانية محاكمته عسكريا. وعقدت جلسة استماع مع مانينغ، في قاعدة فورت ميد قرب واشنطن، ركز خلالها الدفاع على مشاكل كان يعانيها الجندي الشاب، تتعلق بميوله الجنسية المثلية ومشاكل عاطفية، وأن المسؤولين عنه أخفقوا مرارا في مساعدته أو في اتخاذ تدابير مسلكية بحقه أو سحب تفويضه الأمني. ولفتوا إلى أن مانينغ صاحب الميول الجنسية المثلية، واجه صعوبات في الخدمة العسكرية خلال تطبيق سياسة «لا تسل.. لا تقل» تجاه مثليي الجنس في الجيش الأميركي التي كانت تمنع المثليين من إعلان ميولهم الجنسية جهارا تحت طائلة تسريحهم من الخدمة، قبل أن يتم إلغاء هذه السياسة عام 2011. وبعد مرافعة الدفاع تلك، بات على مانينغ الآن انتظار أسابيع يحدد خلالها قاضي التحقيق في موضوع الإحالة إلى المحاكمة العسكرية. ويواجه برادلي مانينغ 22 تهمة أخطرها «مساعدة العدو» التي قد يواجه بسببها عقوبة السجن المؤبد. ومساعدة العدو ممكن أن تشكل خيانة عظمى، إلا أن الجيش الأميركي أكد أنه لن يطلب عقوبة الإعدام. ومانينغ، الذي خدم في العراق، متهم بأنه سرب إلى «ويكيليكس» بين نوفمبر (تشرين الثاني) 2009 ومايو 2010 وثائق عسكرية أميركية سرية عن حربي العراق وأفغانستان، إضافة إلى 260 ألف برقية دبلوماسية أميركية عائدة لوزارة الخارجية. وهو المتهم الوحيد الذي يواجه المحاكمة في الولايات المتحدة على خلفية إفشاء البرقيات السرية.