مصر: من طوابير «العيش».. إلى طوابير الديمقراطية

على صخب المليونيات ووسط حملات تشكيك واستقطاب ديني وانفلات أمني

صورة أرشيفية لمصريين يصطفون لشراء الخبز قبل حلول حظر التجول إثر اندلاع مظاهرات الثورة المصرية (أ.ب)
TT

بدأت طوابير الديمقراطية في مصر خلال عام 2011 على الرغم من أن إحدى الدراسات الاجتماعية ذكرت أن المصريين في عام 2010 أهدروا سُدس أعمارهم وقوفا في مختلف أنواع الطوابير التي يمرون بها في حياتهم، ولم يكن من بينها طوابير الانتخابات.

وأشارت الدراسة فقط إلى طوابير الخبز وطوابير استخراج شهادات الميلاد وصولا لاستخراج شهادات الوفاة، وبينها عدد لا حصر له من الطوابير المصرية القاتلة للوقت والجهد، وأبرزها طوابير أمام الهيئات الحكومية، والجمعيات الاستهلاكية وطوابير الحصول على اسطوانة الغاز، وطوابير السفر أمام السفارات الأجنبية.

وفي الشهور الأخيرة من حكم الرئيس السابق حسني مبارك ونظامه في سدة الحكم، كان الطابور الأشهر هو «طابور الخبز». ويقول المثل الشعبي المصري «الجوعان يحلم بسوق العيش».. وأمام المخابز كانت الطوابير طويلة للحصول على رغيف خبز، لكن سوق العيش وقتها لم يكن المرور فيه يتم بسلام، فتشير التقارير الأمنية إلى أن عام 2010 شهد سقوط 50 قتيلا لقوا مصرعهم في طابور الخبز.

وتعد طوابير «العيش» مشهدا ليس بغريب على المصريين في فترات حكم مبارك، فهم اعتادوا منذ سنوات على أزمات متتالية في الحصول على الخبز المدعم أو المسعر من جانب الحكومة، والذي يباع بسعر 5 قروش، هذه الأزمات التي تترجم في مشهد اصطفاف المصريين في طوابير وصفوف طويلة أمام المخابز بشكل يومي للحصول على الخبز، كان يتخللها اشتباكات وشجارات بين المواطنين والتي كانت تتطور في أحيان كثيرة إلى القتل وإراقة الدماء.

هذا الطابور الأشهر كان سببا من ضمن أسباب عديدة لخروج المصريين في المظاهرات الاحتجاجية يوم 25 يناير (كانون الثاني) 2011، مطالبين بالعدالة الاجتماعية والحياة الكريمة، ليتحول المصريون من طوابير المخابز إلى طوابير كبرى عبارة عن مظاهرات تضم ملايين منهم في ميدان التحرير بوسط القاهرة بحثا عن الحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية.

ومع استمرار صمود المظاهرات مدة 18 يوما، سقط النظام، وسقط معه 30 عاما من حكم مبارك، لتبدأ أعين الطوابير في مصر تتحول إلى أهداف أخرى.

ففي يوم 19 مارس (آذار) وبعد مرور 40 يوما على تخلي مبارك عن سلطاته للمجلس الأعلى للقوات المسلحة، خرج المصريون في أول طابور يتسم بالنزاهة، ليدلوا بأصواتهم على تعديلات الدستور، في استفتاء كان أول خطوة نحو «الديمقراطية»، حيث امتدت الطوابير التي ضمت 18 مليون مصري منذ ساعات الصباح الأولى، الكل يشعر بأنه يشارك في مستقبل بلده، الجميع يتحدث عن الدستور القادم ويسأل ماذا بعد؟.

والإجابة تمت بعد ذلك بثمانية أشهر في الانتخابات البرلمانية المصرية الجارية الآن، بعد أن تجاوز المصريون مرحلة من الصخب السياسي صاحبها عشرات المليونيات التي كانت تخرج في أيام الجمع. فمثلما تصدرت أحداث ثورة 25 يناير الصفحات الأولى في الصحف العالمية؛ تكرر الحال مع الانتخابات البرلمانية، حيث خرج المصريون في طوابير غير مسبوقة هدفها المشاركة في الاقتراع، ولم تقتصر على طبقة معينة أو سن محددة، كان فيها كل من له حق التصويت من كبار السن والمعاقين على كراسي متحركة والشباب من مختلف الأعمار، الكل خرج ليدلي بصوته في أول انتخابات بعد الثورة.

ورغم كل ما أثير قبيل موعد الانتخابات من حملات تشكيك في خروج المصريين للتصويت، ومع ما شهدته الساحة المصرية من استقطاب ديني، إلى جانب حالة الانفلات الأمني؛ فإن الأعداد الغفيرة التي خرجت في الطوابير الطويلة أمام المقار الانتخابية تناست كل ذلك، وتسابق الجميع في صنع طوابير طويلة تحمل ماركة «صنع في مصر».

بالطبع لم تمر طوابير «الديمقراطية» مرور الكرام دون أن تلفت نظر المراقبين والحقوقيين ووسائل الإعلام العالمية، الذين تابعوا عن كثب إجراءات سير الانتخابات. حيث أشاد مراقبون دوليون بالانتخابات البرلمانية المصرية، وأكدوا أنها تميزت بالحياد والشفافية والنزاهة، وأوضح مراقبو المعهد الأميركي للديمقراطية ومؤسسة كارتر بطريقة التعامل معهم داخل مقار الفرز.

وحملت عناوين الصحف المحلية والدولية الإشادة بطوابير الناخبين المصريين الطويلة أمام مقار اللجان، وأشارت إلى أنها أكثر ما ميز عملية الانتخابات وسط أجواء الهدوء والاستقرار غير المتوقعة التي شهدتها عملية التصويت، ولم ينس بعض المراقبين الإشارة إلى بعض المشكلات المتعلقة بالتنظيم والتي وقعت في بعض الدوائر الانتخابية، مثل تأخر أو عدم وصول القضاة.

لكن الجميع أجمع على أن الانتخابات مثلت متنفسا للمصريين بعد حالة الغضب العارمة، التي اجتاحت مشاعرهم جراء الأحداث الدامية التي وقعت يوم 19 نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي في ميدان التحرير واستمرت طوال أسابيع، وبسببها طالبت جموع المتظاهرين بميدان التحرير المجلس الأعلى للقوات المسلحة (الذي يدير شؤون البلاد) بالتخلي عن الحكم وسرعة التحول إلى سلطة مدنية.

ويرى المراقبون أنه على الرغم من مطالبات بعض قوى التحرير بمقاطعة الانتخابات؛ فإن بعض قادة المتظاهرين طالبوهم بالتوجه لصناديق الاقتراع، على الرغم من اختلاف الرؤى والتوجهات حول الاقتراع، وهو ما استنزف وجود بضعة آلاف من المعتصمين بالتحرير.

كما تحدث العديد من الناخبين الذي خرجوا لأول مرة للتصويت في الانتخابات عن تحملهم لعدة ساعات للإدلاء بأصواتهم، حيث أصبح للصوت الانتخابي قيمة يفتح بها الطريق لمن يحاسبه أو يلقي اللوم عليه مستقبلا.

واكتشف المصريون أن الانتخابات النزيهة التي طال انتظارها وتستحق الخروج من أجلها وتحمل الطوابير الطويلة، ستكون نتيجتها أداة تعكس قوة اللاعبين الأساسيين على ساحة السياسة المصرية، وستحدد مسار المستقبل. وكما كانت طوابير الخبز تبدأ أمام المخابز في الساعات الأولى من صباح كل يوم، فسوف تستمر طوابير الانتخابات والبحث عن طريق الديمقراطية ليس في هذه الانتخابات البرلمانية فحسب، كما يقول المراقبون، بل في جميع العمليات الانتخابية المقبلة وأهمها انتخابات الرئاسة المصرية المقرر أن تبدأ إجراءاتها منتصف عام 2012.