الابن الوريث.. ضحايا «الجمهورلوكية»

جمال مبارك وسيف الإسلام داخل زنزانة صغيرة بدلا من القصر الجمهوري.. ومصير بشار مجهول

جمال مبارك و بشار الأسد و سيف الإسلام
TT

لم يكن الدكتور سعد الدين إبراهيم، أستاذ علم الاجتماع السياسي رئيس مركز ابن خلدون للدراسات الديمقراطية بمصر، يتوقع أن يصبح مقاله «الجملوكية» يعبر عن واقع صادم سيغير أنظمة الكثير من الدول العربية. ومصطلح «الجملوكية» أو «الجمهورلوكية» يعني «نظاما نصف ملكي ونصف جمهوري». ونشر إبراهيم مقاله لأول مرة عام 2000، ويعتبره البعض من المقالات التي توقعت الطريق المسدود الذي بدأه نظام الأسد الأب لصالح الأسد الابن.

وحين تفجرت الثورات العربية عام 2011 طالت دولا ذات علاقة بقضية توريث الحكم من الآباء الرؤساء للأبناء الذين لا يحملون أي صفات رسمية في الدولة، في مصر وليبيا، ومن قبلهما سوريا. ويبدو أن النظام المصري أحب أن يستلهم تجربة الأسد الأب فبدأت خطوات التوريث من الرئيس السابق حسني مبارك لابنه جمال، وهو ما سار على نفس نهجه الرئيس الليبي الراحل معمر القذافي لتوريث ليبيا لسيف الإسلام؛ حيث فضل الأبوان أن ينشئ كل منهما تعريفا سياسيا جديدا لسلطة الحكم في بلديهما يمكن القول عنه إنه «مرحلة ليس فيها الالتزام بالنظام الجمهوري ولا قواعد النظام الملكي».

لكن ما لم يكن يتوقعه سعد الدين إبراهيم منذ ما يزيد على العقد أن يقبع كل من الوريثين السابقين جمال وسيف الإسلام ذات يوم في زنزانة صغيرة بدلا من كرسي الحكم في بلديهما. ورفض مبارك تعيين نائب له منذ توليه مهام الرئاسة عام 1981 بعد اغتيال الرئيس الراحل أنور السادات. وتزامن فوز مبارك الأب بفترة رئاسية جديدة في عام 2005 مع ارتفاع النجم السياسي لجمال مبارك، الذي كان يشغل موقع الأمين العام المساعد وأمين السياسات للحزب الوطني الحاكم.

وفي هذه الفترة ظهرت ميول معمر القذافي كذلك لتوريث نجله سيف الإسلام؛ حيث ظهر موضوع التوريث أقرب للتحقق من غيره في البلدان العربية بما في ذلك مصر، كما يرى المحللون السياسيون؛ فمعمر القذافي كان أطول الزعماء العرب حكما؛ حيث تولى السلطة عام 1969، فجعل ابنه سيف الإسلام منسقا عاما للقيادات الاجتماعية الشعبية هناك، كما ترأس مؤسسة القذافي الخيرية للتنمية، التي كان يستخدمها كواجهة لنشاطه السياسي والإعلامي، ودفع به كذلك للمساهمة في تسوية ملف لوكيربي التي دفعت ليبيا بموجبها مبلغ 2.7 مليار دولار لضحايا تلك الطائرة.

كان القذافي الأب يتحرك وفقا لمخطط مزدوج لتوريث سيف الحكم، فعمل على أن يكون قريبا منه، وفي الوقت ذاته يدفع به لإيجاد حلول لقضايا الشعب المصيرية ليكون المفضل لديهم ويخلق له مساحة من القبول والولاء له من بعده، خوفا من أن يأتي بديل آخر من خارج عباءة القذافي، فترك له الكثير من الملفات، منها: عقد مصالحات بين الدولة والجماعات الإسلامية والمعارضين الليبيين، ولعب دورا في تحسين علاقات ليبيا مع أميركا والاتحاد الأوروبي.

على الصعيد ذاته، كان جمال مبارك يملأ كواليس السياسة المصرية حركة، ذهابا وإيابا، وانغماسا في أدق تفاصيل السياسة المصرية كما تداول الكثير من السياسيين حقيقة ما كان يحدث بعد قيام ثورة «25 يناير»، لكن مبارك الأب كان مصرا على نفي أي نية لتوريث الحكم، وكان له تصريح شهير حينما سُئل صراحة عن أمر التوريث وقال إن «مصر ليست سوريا».

وعاد جمال إلى مصر في منتصف تسعينات القرن الماضي بعد أن كان يعمل في أحد البنوك في بريطانيا، وحين رجع إلى مصر أصبح يحظى بدعم الكثير من رجال الأعمال بسبب أفكاره بشأن تحرير الاقتصاد المصري، وأصبح له نشاط بارز في الحزب الوطني الحاكم حينذاك، وروج لنفسه خلال ذلك بأنه الإصلاحي الأول في الحزب، وقد ساعده على ذلك بقوة رجل الأعمال أحمد عز بالترويج له وقوله عنه إنه، أي جمال «مفجر ثورة التطوير والتحديث في الحزب الوطني».

لكن سيف القذافي كان ظهوره مباشرا على المسرح السياسي الليبي؛ فقد كان يشهر أدواته صراحة في الترويج لوراثة عرش أبيه، ولعل أبرز هذه الأدوات كانت صحيفة «أويا» التي يملكها وتتحدث باسمه وتروج لمشروع التوريث في ليبيا.

وبينما كان سعد الدين إبراهيم يستشرف المستقبل، تسبب هذا الاستشراف في معاناة كبيرة وملاحقات أمنية واتهامات بالعمالة والجاسوسية، خاصة بعد أن نشر مقاله «الجملوكية» إلا أنه فخور، على الرغم من كل شيء، ببعد نظره السياسي وقدرته على قراءة مستقبل تطورات الوضع السياسي في المنطقة العربية مبكرا، قائلا لـ«الشرق الأوسط»: «انقلبت الدنيا بعد نشر المقال رأسا على عقب، وفي اليوم ذاته صودرت المجلة (التي نشر فيها المقال) وتم اعتقالي، لكنني كنت أستشرف المستقبل الواضح جليا ولست حزينا على ما لاقيت».

وفتح توريث الأسد الأب للأسد الابن شهية أصحاب المصالح، على ما يبدو، في مسألة التوريث بمصر وليبيا، كما جعلت الكثير من المراكز البحثية تلتفت إلى هذه الظاهرة، ومنها مؤسسة كارنيغي لأبحاث السلام الدولي التي نشرت تقريرا عام 2009 يرصد إشكالية تحول نظم الحكم في بعض الدول العربية من الجمهورية إلى ما يشبه الملكية وسمته «الجمهورية الوراثية» في بلدان منها مصر وليبيا.

وعلى الرغم من أن جمال وسيف، وفقا للمراقبين، لم يمتلك أي منهما الكاريزما المطلوبة لشغل موقع رئيس فإنهما كانا ملء السمع والبصر بسبب الإعلام، إلى أن حلا مؤخرا في زنزانتين بعد أن أطاح بهما نظام «الجمهورلوكية».

ويرى الكثير من المراقبين أن جمال مبارك وسيف الإسلام القذافي كان كل منهما سببا مباشرا في الثورة الشعبية على أبيه، ومن المفارقات أن كلا منهما كانت له محطة دراسية وتدريبية في بريطانيا، وهو ما كان عليه بشار الأسد الذي يواجه غضبا شعبيا كبيرا قد يطيح به باعتباره أول وريث «جمهوري» عربي، وأول منفذ لهذه الفكرة التي برهنت الشعوب على رفضها، وفي حال تطورت الأحداث في سوريا فإن بشار الأسد قد يلحق بمصير جمال وسيف، في زنزانة ثالثة.