ليبيا 2011.. السلاح في يد الجميع

القذافي سلح شعبه.. فاستخدمه للإطاحة به وشكل تهديدا للمواطنين بعد الثورة

عسكريون ليبيون انشقوا على القذافي في 24 فبراير (شباط) الماضي في بنغازي (رويتز)
TT

منذ أن اندلعت ثورة 17 فبراير (شباط) في ليبيا، وكغيرها من ثورات الربيع العربي، توجهت الأنظار إلى الجيش.. لكن هذه المرة زاغت العيون، فالجيش الليبي كان فريدا في مسيرة ثورات العرب.

لم يكن الجيش الليبي مثيلا لقرينه في التجربة التونسية التي وقف فيها الجيش على الحياد، ولا شبيها بجاره المصري الذي تولى زمام الأمور في البلاد، ولا يشبه الجيش السوري الذي أعلن ولاءه التام لسلطة الحكم، فالجيش الليبي لم يكن جيشا بالمفهوم المعروف في كل هذه التجارب السابقة، لكنه كان أشبه بمجموعات متفرقة من الكتائب، أهمها فيلق الحرس الثوري والجيش الإسلامي الأفريقي (عبارة عن مرتزقة أفارقة، واللواء الـ32 الذي كان يقوده خميس القذافي)، بالإضافة للجيش الشعبي الذي أسسه القذافي لكي يكون كل مواطن مسلحا قادرا على الدفاع عن ليبيا.. لكن القذافي لم يدرك أن هذا الجيش الذي أسسه يمكن أن يكتب سطور النهاية في قصته مع حكم ليبيا التي بدأت في سبتمبر (أيلول) 1969.

يرسم الكتاب الأخضر، الذي يعد أبرز ما كتب القذافي ومصدر فخره، مسار فكر العقيد الراحل. ويعرض القذافي في الكتاب، الذي ألفه عام 1975، أفكاره حول أنظمة الحكم وتعليقاته حول التجارب الإنسانية ونظريات الحكم المختلفة مثل الاشتراكية والديمقراطية، حيث يعتبر هذا الكتاب بمثابة «كتاب مقدس» عند العقيد.

عمل القذافي على جمع واستخلاص أفكاره من الحضارات اليونانية والإسلامية والأوروبية الحديثة، كما يقول على صدر كتابه. وفي الكتاب يرفض القذافي كل مظاهر النظم الديمقراطية التي يأخذ بها العالم المتقدم، مستبدلا إياها بالنظام الجماهيري الذي خرج من رحمه مفهوم الجيش الشعبي.

كانت نظرية القذافي في هذا الإطار تتلخص وببساطة في أن يكون السلاح في يد الجميع للدفاع عن ليبيا ضد أي معتد كان القذافي يعتقد أنه يتربص ببلاده، بالإضافة لخوفه المتزايد من قوة المؤسسة العسكرية، لذا سعى لإضعافها خوفا من الانقلاب عليه وأن يرد إليه الصاع صاعين، فعمل بقدر ما يستطيع لإفراغ الجيش من التنظيم الذي يتيح له الانقلاب.. فأصبح الجيش الليبي مجرد أرقام ومعدات بغير تنظيم يمكن أن يلعب دورا رئيسيا في الثورة الشعبية التي اشتعلت شرارتها يوم 17 فبراير (شباط) الماضي. ولم يكن للمؤسسة العسكرية إبان حكم القذافي كلمة في حكم البلاد، بل كانت مجبرة على أن تتقاسم تسيير الساحة السياسية الداخلية مع اللجان الثورية والمؤتمر الشعبي العام، اللذين تأسسا عام 1977، واللذين يعتبران قلب نظام حكم القذافي.

منذ تسلم القذافي للحكم تعرض لأكثر من محاولات انقلاب ضده، ما جعله يبني جسورا من انعدام الثقة بينه وبين الجيش، وتبنى سياسة إبعاد العسكريين عن الدائرة القريبة لحكم البلاد. فأصبح القوام الحقيقي للجيش الليبي هو جيش الدفاع الشعبي حين اعتمد مبدأ التجنيد العام الإلزامي عام 1984، وبالتالي أصبح لزاما على كل ليبي يصل إلى سن الرشد، وقادرا من الناحية الصحية أن يتلقى تدريبا عسكريا نظاميا ووصل قوام المجندون والمتطوعون في الجيش ما يقرب من 45 ألف فرد.

بين ليلة وضحاها، انقلبت محاولات القذافي الحثيثة لتهميش الجيش النظامي للبقاء أكثر وقت في السلطة إلى القشة التي قسمت ظهر البعير وأنهت حكم القذافي، وذلك أنه لم يكن للقذافي جيش نظامي بالمعنى المعروف لقمع ثورة السابع عشر من فبراير، وما أن اندلعت الثورة حتى تكفل الشعب - الذي هو أيضا «جيش الدفاع الشعبي» - بالدفاع عن الثورة وليس القذافي.

واندلعت المواجهة المسلحة بين الليبيين وكتائب القذافي، ولأن السلاح في يد الطرفين تحولت ثورة ليبيا إلى ساحة حرب مترامية الأطراف. إلا أن النهاية جاءت على يد قوات الثوار التي تمكنت بعد أكثر من 8 أشهر، وبمساعدة قوات الناتو، أن تعتقل القذافي قبل أن تقتله.. إلا أن مقتل القذافي زاد من اضطراب الثورة الليبية، خاصة في ظل عدم وجود هيئة منظمة يمكنها السيطرة على ظاهرة الانتشار الكبير للسلاح، بعد أن انتهت مهمة الثوار في القضاء على نظام القذافي.

وبين انهيار نظام القذافي ونجاح الثورة، تتزايد مخاطر وجود السلاح في ليبيا دون مبرر بعد سيطرة الثوار على كامل البلاد.. ما جعل رئيس المجلس العسكري لطرابلس، عبد الحكيم بلحاج، يكرر الدعوة لإزالة جميع مظاهر التسلح غير المنضبط في المدينة، والتي أدى انتشارها - وبينها الكثير من الأسلحة الثقيلة - إلى انزعاج سكان مختلف المناطق الليبية، متخوفا من أن الإحساس بالأمان بعد الثورة بدأ يتحول إلى رعب، ومشددا على ضرورة إنهاء كل مظاهر التسلح وألا يسمح بحمله إلا للجهات المخولة التابعة للمجلس العسكري بطرابلس وغيرها من المدن، وكانت بعض تشكيلات من الثوار رفضت الانضواء تحت مظلة المجلس العسكري لطرابلس، وهو ما يثير مخاوف من تطور الخلافات إلى مواجهات مسلحة.

وتتزايد الشكاوى من تجاوزات مختلفة تشمل عمليات دهم واعتقالات غير قانونية تنسب إلى الثوار، إضافة إلى اشتباكات تقع بين الحين والآخر بين كتائب مختلفة من الثوار، مما يغذي مخاوف من غياب أي سلطة على آلاف المسلحين. بينما تسعى الحكومة الانتقالية، التي يرأسها المجلس الانتقالي الليبي برئاسة الدكتور مصطفى عبد الجليل، لتثبيت القانون والنظام.. وهو ما يتهدده أن بعض الخلافات بين ثوار مدن ليبية مختلفة لم تحل بعد، وتشكل خطرا على الأمن في ليبيا.

ويزيد من خطورة الأمر الناحية القبلية في ليبيا، وهو ما يخشى مراقبون أن يكون مقدمات لتناحر قبلي مسلح في ليبيا قد ينشأ في إطار الصراع على السلطة بعد القذافي. فالعامل القبلي لم يختف من المشهد الليبي، الأمر الذي سيبقي مستقبل ليبيا غير واضح الملامح خلال المرحلة الانتقالية الحرجة، ومن سيكون عليه تحمل مسؤولية الجرائم التي ارتكبت على مدى 42 عاما، ويمكن أن تتهم فيها قبائل بعينها اعتمد عليها القذافي، مثل قبيلة القذاذفة. وكيف ستعمل السلطات الليبية الجديدة والمواطنون على صياغة إجراءات قانونية لإعادة إنشاء مؤسسات الدولة، التي ستكون كفيلة بتأمين المواطنين من دون اللجوء إلى حمام دم جديد؛ إذا ما رأى بعض الأفراد أو القبائل أن يحمي كل منهم نفسها بنفسها.

بينما يعول البعض الآخر على أن يظهر نظام أكثر توازنا، خاصة إذا ما روعي وجود 3 أقاليم في ليبيا، وعدم استبعاد حل الدولة الاتحادية.. وأن يكون ذلك الأمل في إعادة الهدوء إلى البلد، الغني بموارده النفطية الكبيرة. وهي الموارد المهددة بالضياع حال استمر السلاح في أيدي الجميع وتحول ليبيا إلى النموذج الصومالي، واللجوء إلى حرب العصابات، وأن يسيطر كل طرف من مالكي السلاح على المنطقة الجغرافية التي يتمركز فيها وعدم قدرة الحكومة الانتقالية على السيطرة أو التوصل لتوافق بين مختلف القبائل على نظام الدولة الجديدة في البلاد.. وهي الفرضية التي يرفضها كثيرون، استنادا إلى محاولات السلطة الانتقالية لتوحيد الجهود من أجل تدشين مرحلة أكثر سلاما وأمنا من تاريخ بلادهم.