سرت.. نقطة الميلاد والتتويج والممات في حياة القذافي

جعلها عاصمة لأفريقيا وشهدت نهايته

ثوار ليبيون غرب سرت يوم 15 سبتمبر (أيلول) الماضي (رويترز)
TT

فيها وُلد القذافي، وفيها أعلن هو ميلاد الاتحاد الأفريقي، وفيها توج نفسه ملكا لملوك أفريقيا، وفيها قتل أيضا. هي سرت، المدينة التي رفعت القذافي إلى عنان السماء ملكا، وهوت به أرضا أسيرا يرجو الحياة دون جدوى.

تعتبر مدينة سرت التي احتلت موقعا متميزا في الخارطة الإعلامية، نظرا لما شهدته من أحداث خلال ثورة 17 فبراير (شباط) الليبية، من أبرز المواقع المهمة في ليبيا، من حيث احتلالها موقعا متوسطا بين شرق ليبيا وغربها، وهي في الوقت نفسه تعتبر بوابة للمناطق الداخلية بفزان، ويمكن اتخاذها قاعدة للانطلاق إلى الواحات الليبية التي تقع في الشرق والجنوب.

وتمتد المدينة على طول ساحل البحر المتوسط بين البحر والصحراء؛ حيث تطل على خليج سرت ومنطقة برقة، التي تعد من المصادر الأساسية الغنية بالنفط والمنشآت النفطية. كما تعد المدينة ميناء صيد بحريا وتجاريا معروفا منذ القرون الوسطى، وتعتبر رابطا رئيسيا لخطوط المواصلات بين شمال البلاد وجنوبها؛ فالمدينة الواقعة شمالا في منتصف الساحل الليبي تقريبا يربطها طريق رئيسي يمكن الوصول منه إلى آخر نقطة مأهولة في الجنوب، والمتكونة من شوارع طويلة وضيقة تتخللها متاجر صغيرة وفنادق متواضعة، لكن معظمها دمر أثناء الثورة الليبية. وبسبب موقعها الجغرافي المتميز ورمزيتها لدى القذافي، كثف المجلس الانتقالي الليبي، خلال الثورة الليبية، جهوده لتحريرها؛ لإدراكه خطورة بقاء المدينة تحت يد العقيد؛ إذ أعلن «الانتقالي»، خلال أحداث الثورة الليبية، أن النصر لن يتحقق إلا بعد سقوط مدينة سرت، على الرغم من وجود بعد الاضطرابات في مدينة بني وليد (180 كيلومترا من طرابلس) في ذلك الوقت، إلا أن المجلس الانتقالي كان يدرك خطورة بقاء معقل القذافي متروكا حتى لا تتجدد ثورة مضادة تفتح ألسنة النيران وتعيد المجازر مرة أخرى، لهذا حشد قواته لتحريرها.

وتحظى مدينة سرت بمكانة خاصة لدى القذافي خاصة والتاريخ الليبي عامة؛ فهي المدينة التي شهدت ولادة العقيد عام 1942، ثم تقاطعت مع التاريخ بعد وصوله للحكم عام 1969 إثر انقلاب الفاتح؛ حيث حظيت، من حينها، باهتمام خاص من القذافي شخصيا، فجعلها مقصده لاستقبال ملوك ورؤساء وكبار مسؤولي العالم.

وعقب توليه السلطة عام 1969، أطلق القذافي مشاريع أشغال عامة في سرت بغرض بناء مدينة ترمز إلى سلطته، كما أنشأ مركز مؤتمرات كبيرا وحديثا يتناقض مع بساطة الهندسة المحلية في بقية أنحاء المدينة. وأسس مركز المؤتمرات «واغادوغو» الضخم والفخم، الذي يحمل اليوم آثار المعارك الضارية بين الثوار والقوات الموالية للقذافي؛ حيث تم تفجير كل فتحاته الزجاجية والتوى سقفه المعدني من شدة القصف. كما نقل القذافي بسرت مقار بعض الوزارات، وجعلها المقر الرئيسي لمؤتمر الشعب العام (البرلمان)، وكان يعقد بها بشكل دوري اجتماعات مؤتمر الشعب العام الليبي. كما يلتقي بالمدينة أنبوبا النهر الصناعي العظيم المقبل من واحات السرير والكفرة، والآخر المقبل من جبل الحساونة، ليشكلا أطول وأضخم شبكة لنقل المياه في العالم من صنع الإنسان عرفها التاريخ.

وفي عام 1999، أعلن من سرت وثيقة قيام الاتحاد الأفريقي في 9 سبتمبر (أيلول)، واستدعى القذافي القادة الأفارقة إلى سرت لإقناعهم بأن يتخلوا عن منظمة الوحدة الأفريقية، ويحولوها إلى الاتحاد الأفريقي، الذي كان يريد أن يكون أول من يترأسه لإقامة حلمه الأثير، الولايات المتحدة الأفريقية، وعاصمتها سرت، التي رشحت لتستضيف بعض مقار الاتحاد الأفريقي الوليد. كما عقدت في قاعات واغادوغو بسرت القمة العربية الثانية والعشرون، ووقع بها اتفاق سلام البحيرات العظمى.

وفي سرت، تُوج القذافي ملكا لملوك أفريقيا؛ حيث حشد القذافي أكثر من 200 من الملوك والزعماء التقليديين في أفريقيا عام 2008، وحضر ملوك وقادة القبائل الأفارقة بتيجانهم الذهبية وأزيائهم الملونة في مدينة سرت الليبية في أول تجمع من نوعه في التاريخ، لتتويج واحد منهم كملك متوج على عرش أفريقيا، وقد أعرب الزعماء الأفارقة عن دعمهم لرؤية القذافي الداعية إلى دمج سلطاتهم في حكومة واحدة.

وشهدت مدينة سرت في 20 أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، حادث سقوط ملك ملوك أفريقيا في حصنه، هو ومجموعة من حراسه، إثر هجوم الثوار على آخر معاقله بالمدينة، بالمجاورة الثانية. وتم إلقاء القبض عليه في مدينة سرت مع ابنه المعتصم وزير دفاعه وحراس شخصيين، ليخرج القذافي من أحد الأنفاق التي كان يتخفى بها، في حالة من الفزع والخوف؛ إذ كان يردد كلمات غير مفهومة بحسب روايات شهود العيان على الحادث، أعقبها بعد ذلك موت العقيد في المدينة نفسها التي ولد بها.

وفي سبعينات القرن الماضي، قطعت واشنطن علاقاتها التجارية مع ليبيا بعد غزو ليبيا لدولة تشاد عام 1973، وأسقطت الولايات المتحدة الأميركية طائرة ليبية اعترضت طائراتها فوق خليج سرت.

كانت سرت تضم نحو 120 ألف نسمة، قبل المعارك الطاحنة التي دفعت بآلاف الأشخاص إلى الفرار منها خلال الثورة. وعانى سكان سرت احتماء القذافي في المدينة بعد استيلاء الثوار علي مقر باب العزيزية 23 أغسطس (آب)؛ حيث كانت قوات العقيد من القناصة التي تتركز فوق أسطح المباني والمنازل، بحسب شهود عيان، تقتل كل من يخرج من منزله، وتستخدم سكان المدينة دروعا بشرية، وهو ما دفع «الانتقالي» إلى الدخول في هدنة مع العقيد لوقف سفك الدماء.

اللافت أن سرت هي المدينة التي شهدت لقاء القذافي وكوندوليزا رايس، وزيرة الخارجية الأميركية في حكومة بوش، وتحدثت رايس عن لقائها معمر القذافي في مدينة سرت سنة 2008 قائلة: «كان غريبا جدا، وكنت أتمنى في أعماقي أن ينتهي سريعا»، إلا أن الغريب هو أن القذافي نفسه انتهى سريعا بعد الهجوم الذي شنه الثوار على مدينته الأثيرة التي ولد فيها.