لبنان.. «بلد الأزمات»

عاش عام 2011 في انتظار الصفعة.. ويدخل 2012 بقضايا معلقة

مؤيدان للرئيس اللبناني الراحل رفيق الحريري يجلسان بجوار قبره في وسط بيروت (نيويورك تايمز)
TT

عاش لبنان في 2011 عاما جديدا محفوفا بالأحداث والمفارقات التي أتت في غالبيتها لتؤكد نظرية «بلد الأزمات». قضى اللبنانيون العام ينتظرون أيا من الأحداث التي جرت فيه سوف تقضي على الاستقرار الأمني الهش الذي يعيشه.

فمن انهيار التفاهم السعودي - السوري، إلى انهيار «اتفاق الدوحة»، ثم إسقاط حكومة سعد الحريري، مرورا بالمحكمة الدولية وقرارها الاتهامي الذي سمى أعضاء من «حزب الله»، اتهموا بالمشاركة في اغتيال الرئيس السابق للحكومة، رفيق الحريري، وصولا إلى الوضع السوري.. كلها عوامل هددت الوضع الداخلي بالانفجار الذي لم يحصل حتى الساعة بعد أن عبرت القيادات اللبنانية كل أزمة على حدة، وعالجتها بطريقة «الترقيع» والحلول الوسط، فيما تبقى الأزمة السورية موضع الاهتمام الأكبر لما للوضع السوري من تداخلات لبنانية. وثمة من هو مقتنع بأنه أيا كانت الجهة التي ستؤول إليها مقاليد الأمور في سوريا، فإن هذه الجهة سوف تعمد إلى تصفية الحسابات مع معارضيها في لبنان عاجلا أم آجلا، وفي حين أن هؤلاء يتعقدون أن لبنان سيتلقى الصفعة من دون شك، فإن السؤال هو هل تستطيع هذه الصفعة أن تهزه فقط! بدأ العام اللبناني مشحونا في العلاقة الداخلية بين فريقي الأزمة المعروفين في لبنان والمنطقة بفريقي «8 آذار» و«14 آذار» نسبة إلى التاريخين اللذين نزلا فيهما إلى الشارع عام 2005؛ الأول ليقول في 8 مارس (آذار): «شكرا سوريا» بزعامة حزب الله، والثاني بزعامة «تيار المستقبل» الذي يرأسه النائب سعد الحريري الذي نزل بعدها بأيام مطالبا برحيل سوريا عن لبنان، وإظهار الحقيقة في قضية اغتيال الرئيس الراحل رفيق الحريري.

كان عنوان الشحن الداخلي المعلن هو ملف «شهود الزور» الذين يقول فريق «8 آذار» بضرورة محاسبتهم ومحاكمتهم، انطلاقا من الاعتراف الشهير لرئيس الحكومة سعد الحريري في سبتمبر (أيلول) 2010 في حديثه لـ«الشرق الأوسط» بأن هؤلاء (الشهود) أساءوا إلى لبنان وسورية. غير أن العنوان الحقيقي كان إعلان سقوط المسعى السعودي - السوري المشترك لرأب الصدع بين الطرفين، وسقوط «اتفاق الدوحة» الذي وقع بين الفريقين في ربيع عام 2008، ونظم العلاقات بينهما.

فبعد إعلان سقوط المسعى السعودي وعدم التجاوب مع مساعي اللحظة الأخيرة التي قام بها رئيس الوزراء القطري الشيح حمد بن جبر آل ثاني ووزير الخارجية التركي أحمد داود أوغلو، اللذان أبلغا بشكل واضح لا يحمل اللبس من أمين عام حزب الله، السيد حسن نصر الله، بأنه «لا تعامل مع الحريري» بعد اليوم.

في 12 يناير (كانون الثاني)2011، اختار حلفاء سوريا موعدا مثيرا لإعلان استقالة الوزراء العشرة الذين يمثلون الفريق، فأعلنوا عن اجتماع لإعلان الاستقالة تزامنا مع وجود رئيس الحكومة سعد الحريري في واشنطن، وبالتحديد خلال لقاء الحريري مع الرئيس الأميركي باراك أوباما في البيت الأبيض. وسرعان ما انضم إليهم «الوزير الملك» عدنان السيد حسين، الذي كان محسوبا على رئيس الجمهورية، لتصبح حكومة الحريري مستقيلة بفقدان نصابها القانوني.

وخلال مؤتمر صحافي لإعلان استقالة وزراء المعارضة، وجه وزير الطاقة والمياه، جبران باسيل، من «التيار الوطني الحر»، الشكر إلى كل من العاهل السعودي الملك عبد الله بن عبد العزيز، والرئيس السوري بشار الأسد، على مبادرة التسوية المعروفة باسم «مبادرة السين سين»، وقال باسيل إن المبادرة السعودية - السورية كان الهدف منها «مساعدة لبنان على تخطي الأزمة الناتجة عن المحكمة الدولية، وفي ظل النتائج التي وصلت إليها الأمور من تعطيل، وبسبب عدم قدرة الفريق الآخر على تخطي الضغوط الأميركية، وعلى الرغم من التجاوب الذي أبديناه».

احتاج الأمر أكثر من مناورة لإقصاء الحريري عن رئاسة الحكومة. فبعد إسقاط الحكومة، كان لا بد من إسقاط الأكثرية، وهذا ما حصل من خلال اختراقات عدة، كان أولها موقف رئيس «اللقاء الديمقراطي» النائب وليد جنبلاط الذي ضحى بكتلته النيابية، فأعطى المسيحيين فيها حرية الانضمام إلى قوى «14 آذار» في الاستشارات النيابية الملزمة، مكتفيا بأن يقف معه نواب الحزب التقدمي الاشتراكي المعروفون بنواب «جبهة النضال». وكان هذا الرقم كافيا بفارق صوت أو صوتين للحصول على أكثرية تؤيد مرشح المعارضة الرئيس السابق للحكومة عمر كرامي، لكنها كانت في الوقت نفسه تحمل إمكانية عودة الحريري إلى الحكومة مجددا، وهذا لم يحصل، فقد أرجأ رئيس الجمهورية العماد ميشال سليمان الاستشارات نحو أسبوعين كانا كافيين لإحداث خرق نوعي في عملية الانقلاب على الحريري. خرج من حيث لم يكن أحد يتوقعه مرشح «وسطي» هو الرئيس السابق للحكومة، نجيب ميقاتي، الذي أصبح في 25 يناير رئيسا مكلفا تشكيل الحكومة، بعد أن انضم إليه نائبان من السنة أيضا، فكان اختياره بمثابة «ضربة معلم»، لأن كرامي كان «قضية خاسرة» للمعارضة في رئاسة الحكومة، كما قال أحد قيادييها في وقت لاحق.

وقال ميقاتي للصحافيين في القصر الرئاسي إنه سيسعى لتشكيل حكومة تحفظ وحدة اللبنانيين ووحدة بلدهم وسيادته وتحمي التعايش المشترك على حد قوله. واعتبر أن نتيجة الاستشارات هي انتصار للاعتدال على التطرف، مشددا على أنه لن تكون هناك كيدية في ممارسته للحكم وأنه سيكون وسطيا، داعيا إلى وقف الإخلال بالأمن واحترام القانون.

اتهمت الولايات المتحدة حزب الله باستخدام القسر والترهيب والتهديد بالعنف لتحقيق مآربه السياسية في لبنان، مطالبة الحكومة المقبلة باحترام تعهداتها الدولية، وقالت وزيرة الخارجية الأميركية إن الإدارة الأميركية ستتعامل مع الحكومة اللبنانية المقبلة على أساس تصرفاتها.

انتفض أنصار الحريري، ونزلوا إلى الشارع معبرين عن الغضب لاستبعاده، قطعت الطرقات وأحرقت الدواليب، قبل أن يعود الأمن ليستتب وينطلق ميقاتي في عملية تأليف الحكومة، على طريقته.. ترحيب بكل الطروحات، وتصلب في الموقف عند «الثوابت». كان ميقاتي يعمل على أساس الحصول على الممكن من شرعية الشارع السني المجروح من طريقة استبعاد الحريري. تمسك برموز مرحلة الحريري ورفض إقصاءهم، كما لم يمكن حزب الله وحليفه النائب ميشال عون من السيطرة الكاملة على الحكومة، كما كان الأخير يعمل ويأمل. فقد كانت الفرصة مواتية لميقاتي للبدء بعمل شعبيته الخاصة في الشارع السني.

في 13 يونيو (حزيران) استطاع ميقاتي أن يخرج إلى النور حكومته العتيدة بعد نحو 5 أشهر من الأخذ والرد مع حلفائه الجدد في الحكم، لم تبصر النور إلا بعد أن أخرج «الساحر» رئيس مجلس النواب، نبيه بري، من كمه مخرجا جديدا قضى بإعطاء السنة وزيرا إضافيا على حساب الشيعة لأول مرة في تاريخ لبنان بعد الاستقلال، وهي خطوة كانت تهدف إلى تسهيل مهمة الرئيس المكلف وإعطائه المزيد من «الشرعية السنية»، التي يفوقه فيها الحريري. وضمت الحكومة 30 وزيرا، 18 منهم من قوى «8 آذار»، إضافة إلى 12 وزيرا مقربا من كل من رئيس الجمهورية ميشال سليمان وميقاتي والزعيم الدرزي وليد جنبلاط. لكن وزارات أساسية أصبحت في عهدة حزب الله وحلفائه، منها وزارتا العدل والدفاع.

الملف السوري في لبنان مأزق لأنصار النظام.. وبارقة أمل لمعارضيه

* كان الخامس عشر من مارس (آذار) علامة فارقة في الملف الداخلي اللبناني، فبعد أن اندلعت الاحتجاجات في سوريا بدأ الوضع اللبناني يتأثر بشكل واضح. الفرز السياسي بين حلفاء سوريا وخصومها عاد ليرتفع بشكل كبير مع انضمام الحريري وفريق «14 آذار» إلى التأييد العلني لـ«الثورة السورية»، لكن هذا لم يمر من دون انعكاسات. الحريري سافر إلى فرنسا في 23 أبريل (نيسان) بسبب «القلق الأمني» وتكشفت المعلومات عن وجود «تحذيرات أوروبية وعربية للحريري من البقاء في لبنان في ظل الوضع القائم». فقد كشف الأمين العام لتيار المستقبل اللبناني أحمد الحريري عن إشارات أمنية وصلت إلى زعيم التيار سعد الحريري دفعته إلى مغادرة البلاد لحماية نفسه، واعتبر أحمد الحريري أن هناك أيادي كثيرة في البلاد نتيجة الخلافات السياسية تجعلها ساحة فاقدة للمناعة، فضلا عن التطورات المتعلقة بالمحكمة الدولية.

حزب الله، الذي يرى في سوريا ممرا استراتيجيا، التزم الصمت حيال الأزمة أكثر من شهرين قبل أن يتحدث أمينه العام، السيد حسن نصر الله، إلى السوريين داعيا إياهم إلى «الحفاظ على بلدهم ونظامهم المقاوم والممانع». وأشار إلى أن الفارق بين سوريا والدول العربية الأخرى التي تشهد تحركات شعبية هو أن الأنظمة الأخرى، مثل البحرين، حيث يدعم الحزب الانتفاضة الشعبية «لم تقتنع بالإصلاح»، بينما «الرئيس بشار الأسد مؤمن بالإصلاح وجاد ومصمم ومستعد للذهاب إلى خطوات إصلاحية كبيرة جدا، لكن بالهدوء والتأني والمسؤولية».

كما دعا نصر الله لبنان إلى «رفض أي عقوبات تسوقها أميركا والغرب ويريدان من لبنان الالتزام بها ضد سوريا». وقد تسبب موقف لبنان الداعم لسوريا في مأزق داخلي وخارجي لحكومة ميقاتي. فرغم أن لبنان «نأى بنفسه» عن بيان رئاسي لمجلس الأمن الذي يرأسه، حول الأزمة السورية، فإنه عاد وصوت في اجتماعات الجامعة العربية ضد العقوبات على سوريا، قبل أن يعود لينأى بنفسه مجددا. وسط تحذيرات للبنان من أن يلحق بسوريا في أي عقوبات دولية قد تفرض عليها.

المحكمة الدولية: استحقاق أمني.. ومالي

* في حين كان ميقاتي يقوم بعملية تفاوض شاقة، أنهكت الجميع إلا هو، برزت مجددا قضية اغتيال الحريري عبر إرسال المدعي العام في المحكمة الدولية القاضي دانيال بلمار «لائحة الاتهام» إلى قاضي التحقيقات دانيال فرانسين، لتأكيدها وسط تكهنات واسعة بأن المحققين في المحكمة الخاصة بلبنان سيوجهون اتهامات لأعضاء في حزب الله.

وقد أثار هذا التوقع الكثير من المخاوف عن اهتزاز أمني كبير في لبنان يعقب إعلان اتهام حزب الله عبر بعض قياديه باغتيال الرجل السني الأبرز في لبنان. غير أن هذه المخاوف تم تجاوزها بعد ظهور توافق على ضبط الأمن في الشارع الذي تجاوز الأزمة بأقل الأضرار الممكنة.

في 30 يونيو، كان السباق محموما، بين تصديق مجلس الوزراء على البيان الوزاري الذي حمل جملة مبهمة تتعلق بتأييد المحكمة الدولية «التي أنشئت مبدئيا لإحقاق الحق والعدالة وبعيدا عن أي تسييس أو انتقام وبما لا ينعكس سلبا على استقرار لبنان ووحدته وسلمه الأهلي».

فبينما كان مجلس الوزراء مجتمعا، كان وفد من المحكمة الدولية يزور المدعي العام اللبناني طالبا إصدار مذكرات توقيف بحق 4 أشخاص تحفظ الطرفان على إعلان أسمائهم، لكنها أذيعت في مطلق الأحوال، وهي عائدة لـ4 أشخص من حزب الله. وفي 18 أغسطس (آب) نشرت المحكمة الخاصة بلبنان الأربعاء الجزء الأكبر من نص القرار الاتهامي في جريمة اغتيال رئيس الوزراء اللبناني الأسبق، رفيق الحريري. والمتهمون بحسب القرار هم سليم جميل عياش ومصطفى أمين بدر الدين وحسين حسن عنيسي وأسد حسن صبرا، وقد صدرت بحقهم جميعا مذكرات توقيف غيابية في 30 يونيو. ومصطفى بدر الدين هو قائد العمليات الخارجية في حزب الله كما أن سليم عياش وأسد صبرا وحسن عنيسي ينتمون أيضا إلى حزب الله. وجاء في القرار أن «الأشخاص الذين دربهم الجناح العسكري (لحزب الله) لديهم القدرة على تنفيذ اعتداء إرهابي بغض النظر عما إذا كان هذا الاعتداء لحسابه أم لا».

وأوجز القرار الاتهامي دور كل من المتهمين في العملية، فاتهم مصطفى بدر الدين بأنه «المشرف العام على الاعتداء»، وسليم جميل عياش بالقيام بـ«تنسيق مجموعة الاغتيال المسؤولة عن التنفيذ الفعلي»، وحسن عنيسي وأسد صبرا بـ«إعداد وتسليم شريط الفيديو الذي أعلنت فيه المسؤولية زورا، بهدف توجيه التحقيق إلى أشخاص لا علاقة لهم بالاعتداء، وذلك حماية للمتآمرين من الملاحقة القضائية».

رفض حزب الله التعاون مع المحكمة التي اتهمها بأنها «مسيسة» و«أداة أميركية - إسرائيلية».. وطبعا لم يجدهم القضاء اللبناني في أماكن سكنهم لتسليمهم مذكرات التوقيف، وقدمت السلطات اللبنانية تقريرا إلى المحكمة الدولية في 9 أغسطس ذكرت فيه أن «أيا من الأشخاص الأربعة المتهمين لم يعتقل حتى الآن»، بينما دعا رئيس الحكومة اللبنانية السابق سعد الحريري حزب الله إلى الإعلان عن «التعاون التام مع المحكمة الدولية بما يؤدي إلى تسليم المتهمين» والكف عن سياسة «الهروب إلى الأمام».

وكان الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله أعلن أن أي حكومة لن تتمكن من توقيف المتهمين. كما أعلن رفضه المحكمة «واتهاماتها وأحكامها الباطلة».

انتقل حزب الله من حملته على المحكمة الدولية إلى الشق المالي برفض دفع لبنان حصته من التمويل العائد لها للعام 2011. وأصر وزراء الحزب وحليفه ميشال عون على عدم تمرير المشروع في الحكومة، لكن ميقاتي وجنبلاط أصرا على التمويل، حتى إن الأول ربط بقاءه في الحكومة بموضوع التمويل. ولما وصلت الأمور إلى الحائط المسدود بعد إسقاط عون حزب الله جلسة حكومية مخصصة لدراسة الموضوع، عاد «الساحر» مرة جديدة لابتكار حل «وسط» لا يسقط حكومة ميقاتي المطلوب بقاؤها من قبل حزب الله وسوريا، ولا يحرج الحزب بالموافقة المباشرة على تمويل محكمة يقول إنها إسرائيلية - أميركية، فابتدع بري وميقاتي «حيلة شرعية» تقضي بأن يتم دفع حصة لبنان من التمويل من حساب «هيئة الإغاثة» التي يعود قرار الصرف فيها لميقاتي. وسرعان ما دخلت المصارف على الخط بإعلانها دفعها المبلغ لتغطية العجز في حساب هيئة الإغاثة.

وفي الأول من ديسمبر، أصدرت المحكمة الدولية بيانا توجهت فيه بالشكر إلى الحكومة اللبنانية لتسديدها مبلغ مساهمتها كاملا لعام 2011. وقال البيان: «بهذه المساهمة البالغة 32184635 دولارا أميركيا، أثبت ممثلو الشعب اللبناني التزامهم العمل في سبيل تحقيق سيادة القانون والاستقرار طويل الأمد. وإننا نتطلع إلى المضي قدما في التعاون مع لبنان في سعينا إلى إنجاز ولايتنا القضائية».

كلام المحكمة عن «الولاية» كان يؤشر إلى معركة جديدة سيخوضها حزب الله ضد المحكمة في فبراير (شباط) 2012 يتعلق ببرتوكول التعاون بين المحكمة ولبنان. ففي حين يرى فريق «14 آذار» أن تمديد البرتوكول بين الطرفين هو مسألة إجرائية، يتخوف هذا الفريق من محاولة الحزب وحلفائه إسقاط المحكمة أو إفراغها من مضمونها، عبر السعي إلى تعديل البرتوكول.. على أي حال هذه قضية خاصة بعام 2012.