مارد الفيدرالية يلقي بظلاله على مستقبل العراق كدولة موحدة

الدستور الذي كتب على عجل تحول ليس فقط إلى مشكلة بل أصبح يوصف بأنه «أبو المشاكل»

TT

حتى الآن لم يتم فك الاشتباكات اللغوية والمفاهيمية بين مفردتي «الفيدرالية» و«الاتحادية» في العراق الجديد الذي ولد في أعقاب الاحتلال الأميركي عام 2003. ومع أن الدستور العراقي ينص على مفردة «الاتحادية» رغبة من المشرع العراقي في تخفيف وقع المفردة على الأذن العراقية التي تعودت على مدى عقود نظام الحكم المركزي إلا أن الأزمة التي تعيشها الطبقة السياسية منذ أكثر من شهرين لم يرد فيها سوى ترديد مفردة «الفيدرالية» بوصفها حلا من وجهة نظر ومشكلة من وجهة نظر طرف آخر.

وفي كل الأحوال فإن الدستور، الذي يعترف الجميع بأنه كتب على عجل وخضع لاستفتاء جماهيري بطابع احتفالي، لا يتناسب مع هيبة الدساتير في العادة. المفارقة التي باتت تلفت النظر بقوة أن هذا الدستور تحول ليس فقط إلى أزمة أو مشكلة بل بدا الآن وكأنه «أبو المشاكل» والأزمات في البلاد عندما بدا أن هناك صراع إرادات يتمثل في كيفية الحفاظ على السلطة بوصفها هي الضامنة لوحدة البلد وليس وحدة البلد هي من يمكن أن تضمن استمرار السلطة عبر مفهوم التداول السلمي لها.

فالطبقة السياسية كانت قد استعجلت كتابة الدستور قبل الشروع بكيفية بناء الدولة ومؤسساتها كانت قد سعت نحو تفصيل بناء الدولة ومؤسساتها على الدستور بمواده وفقراته التي بقيت غالبية مواده وفقراته تفتقر إلى القوانين التي يجب أن تنظمها لكي تتحول إلى سياقات عمل في الدوائر والمؤسسات.. يضاف إلى ذلك عدم تشكيل المحكمة الدستورية حتى اليوم. وبالتالي فإن معظم القوانين التي يجري تطبيقها الآن في العراق هي قوانين «مجلس قيادة الثورة» على عهد النظام السابق.

ليس هذا فقط فإنه وبسبب ما احتواه الدستور من نواقص فقد تم الاتفاق على إضافة مادة لتعديله هي المادة 142 وتم تحديد سقف زمني لما بات يسمى التعديلات الدستورية وهي 4 أشهر. ونتيجة للتسرع الذي بدا متعمدا في صياغة الدستور فقد تم تحديد سقف زمني لتنفيذ إحدى مواده (المادة 140 الخاصة بالمناطق المتنازع عليها وفي مقدمتها كركوك) وهي سنتان من تاريخ إقراره وهو ما لم يتحقق حتى الآن. بل إن الذي حصل هو مزيد من الخلافات بشأن هذه المادة بين الحكومة الاتحادية وحكومة إقليم كردستان مرة، وبين الكتل السياسية نفسها مرة أخرى.

مؤيدو الدستور يقولون إنه شرعي تماما بدليل أن المصوتين عليه بـ«نعم» بلغوا أكثر من 80% من العراقيين، وهو ما يعادل آنذاك نحو 12 مليون نسمة من سكان العراق. وبالنظر إلى المحافظات التي صوتت عليه وتلك التي رفضته فإن كل المحافظات ذات الأغلبية الشيعية في الوسط والجنوب أعلنت قبولها به. وكذلك محافظات إقليم كردستان الثلاث (أربيل ودهوك والسليمانية). أما المحافظات التي أعلنت رفضها له بالكامل هي صلاح الدين والأنبار وإلى حد ما الموصل وديالى. كاد الدستور يسقط بالاستفتاء نظرا لاحتوائه على نص يفيد بأنه في حال رفضه من قبل ثلثي المصوتين لثلاث محافظات فإنه لم يعد نافذا.

عند الشروع في عملية بناء مؤسسات الدولة وجد الجميع أنفسهم وبخاصة من كانت له اليد الطولى في كتابة هذا الدستور أن هناك نوعا من تصادم الإرادات، لا سيما على صعيد بناء المؤسسات الحكومية. ولعل أول تصادم كبير حصل عندما بدا شكل الحكومة يميل نحو تمركز السلطة أكثر من بناء الدولة وبالذات على صعيد الصلاحيات الأمنية التي احتكرتها الحكومة المركزية بالاستناد إلى مادة هي واحدة من الألغام الكثيرة التي احتواها وتتعلق بما يسمى «الصلاحيات الحصرية» للحكومة المركزية. والمفارقة اللافتة هنا أن الضحية الأولى لكل ما حصل ويحصل الآن هو الدستور نفسه. فمن ناحية لم يعد بوسع أحد التراجع عنه، لا سيما أن كل الأطراف وبخاصة التي عملت على صياغته حصلت على فوائد منه في مسائل أخرى قبل أن تصطدم بفقرة الفيدرالية. فالمواد الدستورية الخاصة بالفيدرالية تحولت الآن إلى عائق أمام فكرة تمركز السلطة بيد طرف على حساب الدولة كمؤسسات ديمقراطية وآليات عمل بينما كان هذا الطرف الذي يمسك بالسلطة الآن يرى أن الفيدرالية هي الحل الأمثل لدولة تعددية مثل العراق.

في مقابل ذلك فإن المحافظات التي تطالب الآن بالتحول إلى النظام الفيدرالي فإن مطالبها هذه لم تبتعد عن المفهوم الجديد لأسلوب التمسك بالسلطة وبالذات على صعيد الملفات الأمنية بعد أن ظهرت أفكار مثل الإقصاء والتهميش والاعتقالات. يضاف إلى ذلك قضية تنازع الصلاحيات بين الحكومة المركزية والحكومات المحلية ممثلة بمجالس المحافظات. وعلى صعيد هذه النقطة فإن هناك نوعين من الخلاف مع المركز.. نوع يتعلق بتضارب الصلاحيات بين الوزارات الاتحادية والإدارات المحلية وتتعلق بالمسائل ذات الطابع الخدمي العام مثل البلديات والإسكان والتربية والزراعة. والنوع الثاني وهو الأهم هنا هو ما يتعلق بقضايا الأمن وحدوده وهو خلاف جوهري لم تجد له الطبقة السياسية حلولا حتى الآن بسبب المحاصصة السياسية التي قسمت البلاد على أسس عرقية وطائفية.