محمد السادس.. ملك الإصلاح بخطى ثابتة

طبق مساواة مجالية متقدمة غير مسبوقة بين جميع مناطق بلاده

TT

ليس من السهولة بمكان، على أي قلم، مهما بلغت حذاقته وانسياب الحبر فيه ومنه، رسم صورة دقيقة وجامعة للعاهل المغربي الملك محمد السادس، الذي يحتفل غدا الثلاثاء، ومعه الشعب المغربي، بالذكرى الرابعة عشرة لتوليه الحكم، على أثر رحيل والده الملك الحسن الثاني في يوليو (تموز) 1999.

لا تأتي الصعوبة من كون شخصية ملك المغرب محاطة ومسيجة بالكثير من هالات القداسة التي توارى وراءها كثير من الحكام الذين تداولوا على حكم مجتمعات مختلفة على مر التاريخ؛ لا يقتحم أغوار وأسرار ذواتهم إلا المحللون النفسانيون أو العرافون، المالكون لمهارات وكرامات خارقة.

ليس الأمر قطعا كذلك، وإنما لأن شخص ملك المغرب، منذ أن كان فتى وليا للعهد، اختار الظهور أمام المغاربة، بصورة الإنسان العادي التلقائي، المتواضع حد البساطة، في حركاته وسكناته؛ يرتاد الأماكن العامة، يخالط الناس، دون جلبة أمنية أو تهويل في «البروتوكول».

إنه رأي أو توصيف، متقاسم بين كثيرين؛ يشدد عليه الذين اقتربوا من الملك، من مسؤولين وقادة سياسيين ومفكرين وفنانين وفاعلين اقتصاديين وجمعويين وحقوقيين.

يتبنى نفس التشخيص، بقناعة راسخة، أصدقاء الملك الذين رافقوه في أطوار الدراسة، في المدرسة المولوية بالقصر الملكي في الرباط، وفيما بعد في رحاب الجامعة المغربية، حيث سيعايش الملك، وهو ولي للعهد، وطالب في كلية الحقوق، لحظة الشغب الطلابي الذي هيمن على الجامعات المغربية أثناء دراسته فيها.

سلوك لازم الملك، وهو أمير، سار عليه وهو على مقاعد تحصيل العلم والمعرفة بأصول الحكم، استعدادا للدور التاريخي الذي سيؤول إليه بعد حين، بمقتضى تقليد توارث الملك وانتقاله من السلف إلى الخلف، المتبع في الأسرة العلوية الحاكمة بالمغرب، وتلك التي سبقتها.

والحقيقة أن من يحاول الكتابة عن الملك محمد السادس، سيجد نفسه واقعا، لا محالة، بين إغراءين اثنين: مسلك المجاملة، إن لم نقل المحاباة؛ وهذا نهج افترض، بما يشبه اليقين، أن الملك، يرفضه ويأباه، بالأدب الجم المتأصل فيه.

والدلائل على هذا النزوع كثيرة؛ إذ يكفي استحضار بعض القرارات الشخصية الجريئة المتخذة؛ حينما سارع الملك، بمجرد تسلمه قيادة البلاد، إلى إلغاء طقوس المديح والتمجيد والتزلف المبالغ فيه لشخصه بواسطة الأغاني والأناشيد المبثوثة على أمواج الإذاعة وشاشة التلفزيون. تلك «الطقوس» الاحتفالية ظلت حاضرة بقوة خلال عهد والده الراحل الملك الحسن الثاني، إلى أن قطعها نهائيا وارث سره.

ربما استشعر العاهل المغربي، وهو شاب، يصغي إلى نبض المجتمع وأحاسيس الناس العاديين، أن محبة شخص الملك وتوقيره، بل التفاني والتضحية من أجله من طرف الشعب، لا يدل على جانب الصدق فيها، الإفراط في المدائح والتقريظ الخارج عن الأعراف؛ ابتغاء مرضاة أو طمعا في الإغداق من كرمه على من يدغدغون هذا الجانب الضعيف في الشخصية الإنسانية، كيفما كان موقعها ودورها في المجتمع.

وإذا كان الملك محمد السادس، يوصف عن حق بأنه «ملك الأفعال وليس الأقوال»، فإنه أعلن عن هذا التوجه، بقوة، منذ الأسابيع الأولى لتربعه على كرسي السلطة، وثبته بشكل نهائي، جاعلا منه السمة الفارقة لملكه، في التعديل الدستوري الأخير (2011)، حيث جرى التحرر من ثقل المفردات والتعابير المنتمية إلى زمن ولى؛ تلك التي تنضح بتقديس الحاكم وترفيعه إلى درجات السمو المطلق. ترك الملك كل تلك «القشور» وحافظ على «الرباط المتين» بينه وبين المواطنين.

لم يعد شخص الملك، في القانون الأسمى الجديد، مقدسا ولا مهابا، كما نصت على ذلك الدساتير القديمة، بل مصونا ومقرونا بوجوب الاحترام والتوقير، بالمعنى السياسي النبيل والدستوري للكلمة؛ بالنظر إلى رمزية وأبعاد شخصية الملك من خلال موقعه في ذروة هرم السلطة. ومن جهة أخرى، فالملك سليل أسرة كريمة، تمتد إلى الفرع النبوي الشريف؛ حظيت باحترام المغاربة على مدى الحقب المتوالية، واضطلعت بدور ديني محوري. والملك، كما هو معلوم، يحمل صفة ولقب «أمير المؤمنين» المؤتمن على الجانب الروحي والعقدي في حياة المغاربة. هو أيضا، حاكم ورئيس دولة، بالمفهوم الديمقراطي الحديث للصفة، أجمعت عليه مكونات المجتمع من خلال آلية «البيعة»، وهذه في مدلولها العميق ، شكل من أشكال الديمقراطية المباشرة، أثبتت نجاعتها في كثير من الفترات التاريخية الماضية؛ يمارسها من يمكن تسميتهم مجازا «المنتخبين الكبار»؛ أي أهل الحل والعقد، ذوي الرأي السديد المسموع المؤثر في المجتمع. وهي نفس الآلية التي يجري بمقتضاها عزل «الحاكم» إن هو أخل بشروط البيعة أو ثبت عدم أهليته.

إن الملكية في المغرب، في حقيقة الأمر، تنتفي عنها نزعة الحكم المطلق والاستبداد المطلق في ممارسة السلطة. ومن هنا، فإن الملك محمد السادس الميال بفطرته نحو التحديث، أضاف إلى الطابع الفقهي الشرعي للبيعة - كما تتجلى في الإجماع الحاصل بين العلماء وأهل الرأي الوازن - إشراك شخصيات من النخب المدنية والعسكرية، وخاصة تلك التي تضطلع بمسؤوليات سامية في أجهزة الدولة، لم تكن حاضرة في مشهد البيعة قبل اعتلاء الملك محمد السادس سدة الحكم. إنه تطور داخلي طبيعي في بنية النظام الملكي بالمغرب، يزاوج ما بين ما هو ديني متوارث، ويدمج ما هو زمني، وسيفتح الباب لاحقا على مزيد من الإصلاح، والمضي في تأهيل وعصرنة دواليب الحكم.

لم يكن الإجراء المتخذ بخصوص تجديد مضمون البيعة وطقوسها، مجرد توفيق، بين الأصيل والمعاصر، في منظومة الحكم بالمغرب، بل تكاملا متضافرا بين شرعيتين: التقليدية المتوارثة عن الأسلاف بمقاصدها الدينية والدنيوية، إلى جانب رديفتها «المدنية» المعززة للأولى والمنسجمة مع ثقافة العصر، المعبرة عن التوق الديمقراطي لدى المجتمعات الحديثة.

من هنا، يمكن القول، إن وظيفة الملك المتجددة، والأدوار المسندة له، هي البعد الحاضر بقوة في «شخصية» الملك محمد السادس. تستأثر باهتمام الذين كتبوا عن سيرته حتى الآن، وهم ليسوا كثرا على العموم، أو الذين ينوون ذلك في المستقبل، علما بأن الملك يفضل أن تكون إنجازاته الميدانية، ناطقا شاهدا على حكمه، وليس الصحف والمقالات المدبجة، بأساليب المحاباة والمجاملات.

بعبارة أخرى، يخيل للملاحظ المحايد أن الملك، ربما تروقه الكتابة عن المغرب قبل الاهتمام بتتبع أخباره. فقد اختار الانصهار في هموم وطنه والاندماج في انشغالات شعبه. يقطع البلاد طولا وعرضا، شمالا وجنوبا، شرقا وغربا، متفقدا أحوال الرعية، مستجمعا أجزاء الصورة الواقعية، كما تعكسها المشاهدة العينية المباشرة على الطبيعة، وليس تلك التي تزينها له التقارير الرسمية، المزركشة بالعبارات المنتقاة التي يستطيبها بعض الحكام، المعزولين في أبراجهم.

وفي هذا السياق، فإن العاهل المغربي خلخل أعراف الارتخاء والبطء في الانجاز، التي سارت عليها، دهرا، الإدارة الحكومية في المغرب، حتى صارت «البيروقراطية المتكاسلة» مظهرا من مظاهر هيبة الدولة، يخشى المواطن مبرراتها، ويمتثل لها الزائر الأجنبي، ولو كان ضمن الوافدين ممن يحملون معهم مشاريع منفعة اقتصادية للبلاد.

إن المتأمل، على سبيل المثال، في الخطب الرسمية الأولى للملك محمد السادس، يلمس بوضوح، هذا التوجه القائم على القرب من المواطنين، إذ يحث السلطات في كافة المستويات لتكون في خدمتهم، بالإصغاء إلى مشاكلهم والبحث عن حلول مبتكرة لمعاناتهم؛ بعيدا عن أساليب التماطل والتأجيل.

وأسطع نموذج على هذا المنحى في ممارسة المفهوم الجديد للسلطة، ما تعكسه قرارات هامة، لعل أشهرها المبادرة التي أطلقها العاهل المغربي، المسماة «المبادرة الوطنية للتنمية البشرية» وهي في عمقها ومراميها، فلسفة لشحن المواطن بروح التعبئة، مثلما هي التفاتة نحو الهوامش الفقيرة والمعزولة في مناطق المغرب النائية والشاسعة.

كشفت الدينامية الإدارية، التي فجرها تنزيل أهداف «المبادرة» عن الوجه الآخر للمغرب، الفقير، المحروم من بعض مستلزمات الحياة الكريمة. مناطق معزولة في الأرياف لا تتوفر على مراكز العلاج من أمراض بسيطة تتحول إلى فتاكة.

وكلما وقف الملك محمد السادس على أنحاء تعاني مشاكل ندرة الماء النقي الصالح للشرب، فضلا عن المدرسة القريبة لنشر المعرفة والقضاء على آفة الأمية، إلا وتدخل متخذا اجراءات عاجلة.

«مبادرة التنمية البشرية» التي صارت جزءا من ثقافة المجتمع، تكفلت بهذا الجانب كما الأوراش والمشاريع التنموية الكبرى الأخرى التي أطلقها ورعاها الملك محمد السادس، دون كلل. كلها تعكس مفتاح شخصيته العملية، الساعية إلى حل المشاكل على الأرض، بعيدا عن روتين الإدارة المركزية، في سياق حرص على إشراك الإدارة والمنتخبين والنسيج الجمعوي لاقتراح وبلورة الحلول الناجعة للحد من مظاهر التخلف.

في هذا الصدد، قد يستغرب الملاحظ الأجنبي لكثرة «اتفاقيات الشراكة» المعقودة على مدى السنوات الماضية، بين القطاعات الحكومية المغربية نفسها، وفاعلين من القطاع الخاص وشبه العمومي، لإنجاز مشاريع مدرة للدخل في مناطق شتى. لم يعد خافيا أن الهدف من إبرام تلك «الشراكات التعددية» يكمن في توفير أعباء المسؤوليات بين الأطراف، حتى تجري محاسبة الجميع على ما التزموا به ووقعوه أمام الأشهاد، على مرأى ومسمع وسائل الإعلام الناطقة والمكتوبة والمصورة.

ويعرف الملتزمون ببنود الشراكة الموقعة، أن الملك سيظل ساهرا بصفة شخصية، منذ لحظة البدء في مشروع ما، بالمتابعة والسؤال عن المراحل المنجزة، مستفسرا عن الصعوبات الطارئة.

وفي وقت غير معلوم، يفاجأ العاملون في الأوراش، بوقوف الملك بينهم، دون إشعار. هذا الأسلوب المباشر، غير المألوف في المراقبة، زرع روحا جديدة في أوصال الإدارة المغربية.

صار المسؤولون يهابون «غضبة الملك» إن هو وجد مشروعا متعثرا أو لاحظ تقصيرا وتراخيا، لسبب لم يخبر به؛ أو سجل تكاسلا في وتيرة الأشغال. لا يقبل الملك الأعذار الواهية، وربما اضطر إلى اتخاذ إجراءات صارمة، تصل حد العقاب، في حق الذين عرقلوا إنجاز مشروع ينتظره المواطنون في موعده، ويعلقون آمالا عليه. وارتباطا بهذا الجانب، تنتشر روايات في المغرب مفادها أن الملك كلما حل بمدينة أو بلدة، دشن بها أوراشا أثناء زيارة سابقة إلا وعاد يتفقدها نهارا أو ليلا. صار المغاربة أكثر اطمئنانا إلى أن المشاريع الكبرى المعلنة تنجز في موعدها وأحيانا قبله.

لا يوجد في المغرب عموما، من يعتقد أن ما يبذله الملك من جهد موصول لتغيير وجه البلاد، يراد به تلميع صورته، أو الإيحاء بأنه ملك متفان في خدمة شعبه، يزاحم السلطات الحكومية في أدوارها التقليدية.

والواقع أن الملك محمد السادس، قام بثورة على النفس، بالتخلي عن أسلوب عتيق في ممارسة السلطة. لم يعد ينتظر وصول التقارير المنمقة، إلى الديوان الملكي، ليقارن «المكتوب» بالواقع. بمجرد ما يكتشف خللا، بواسطة قنوات اتصاله الخاصة، إلا وسارع إلى إعلان ما يمكن تسميته «حالة طوارئ» تبعا لطبيعة وحجم التقصير المسجل.

لا يمكث الملك طويلا في القصر الملكي، بعاصمة المملكة، على مدار السنة. يوزع وقته متنقلا بين الجهات، متأكدا من تنفيذ الإصلاحات التي أمر بها في أكثر من موقع، مدشنا المشاريع تلو الأخرى.

في هذا السياق، طبق الملك مساواة مجالية متقدمة، غير مسبوقة. لم يعد المغرب مقسما إلى «نافع» و«غير مجدي»، حسب المقولة الاستعمارية المتداولة. كل الجهات نالت نصيبها من المجهود الوطني والثروة القومية. وحيثما اتجه زائر اليوم، يلمس بسهولة إلى أي مدى تغيرت صورة البلاد، خلال السنوات المنقضية من حكم الملك محمد السادس. ربما تخطر ببال ملاحظ فكرة أن انصراف الملك نحو الجانب التنموي في المملكة، يجري على حساب القضايا السياسية الكبرى، التي تقتضي من عاهل البلاد، كرئيس دولة نشطة وفاعلة في السياسة الخارجية، على الصعيد الإقليمي والدولي، أن يكون حاضرا باستمرار في مشهد المؤتمرات والتظاهرات العالمية.

ليس من تبرير لما يراه البعض «غيابا» سوى التأكيد بأن الأمر يتعلق بأسبقيات وأولويات لا تقبل التأجيل، من وجهة نظر الملك محمد السادس. هو مقتنع، بأن الحضور المستمر في الداخل، لا يعني بالضرورة إهمال المجال الخارجي. والمغرب ليس غائبا ألبتة. يوفد الملك من ينوب عنه، متابع للملفات وللقرارات المتخذة الصادرة عن هذه القمة أو ذلك اللقاء الرفيع المستوى، وفي بالالتزامات التي أخذها على عاتقه لا يتوانى عن المشاركة في حفظ السلام ونزع فتيل التوتر في إطار جماعي ترعاه الأمم المتحدة .

يؤمن الملك محمد السادس بأن الوقت لا يرحم، لذا يجب تدبيره واستثماره على الوجه الأمثل في الداخل، لتجاوز التخلف المتراكم والاقتراب بسرعة من أسوار التقدم. والحاصل أن ما تحقق من منجزات وإصلاحات هيكلية في المغرب، اقتصادية ومؤسساتية، ربما تطلبت عقودا من الزمن، لو لم يكن الملك محمد السادس، بجرأته وإقدامه، على رأس الدولة. وهذا لعمري ليس فيه انتقاص من منجزات والده الراحل، بقدر ما هو إشارة إلى أن سرعة العاهل الشاب أقوى، وفق أجندة مغايرة.

المؤكد والثابت أن الملك محمد السادس لا ينزع نحو احتكار السلطة، ولو كان حريصا على تجميع السلطات في يديه، لما تجاوب بصدق مع نداءات الإصلاح، بل تجاوزها إلى حد بعيد. فاجأ الذين رفعوا الشعارات وهتفوا, ليس ضده, في الشوارع. فجاءت الاستجابة الطوعية منه، لأهم وأعمق الإصلاحات، متجاوزا الحقل السياسي في المغرب.

دشن ملك المغرب، ثورته الأولى في مستهل حكمه. ربما اعتقد الناس أنها مجرد«شهر عسل» ستتلوه العودة إلى الأساليب العتيقة لتحكم العلاقة بينهم وبين النظام.

الملك خيب مزاعم المتشككين، وأثبت أن اختياراته لا رجعة فيها. وحينما حل ما يسمى «الربيع العربي» وجد الملك في انتظاره، مرحبا بمقدمه، إذ سيساعده الزخم الشعبي الذي أحدثه على إطلاق جيل جديد من الإصلاحات السياسية، مست بنية الحكم وطبيعة السلطة في المملكة.

كثيرون، في الداخل والخارج، اعتبروا ما قام به الملك «انقلابا حضاريا» في تاريخ المغرب الحديث. ولولا وجود الملك بحضوره الرمزي والاجماع الحاصل حوله لما استقرت عجلة الاصلاح عند المحطة الآمنه.

وماذا بعد؟

من الجائز أن الملك محمد السادس قد يخامره، شعور بالرضا عن حصيلة الإنجازات المحققة في عهده. لكنه بالقطع ليس مرتاحا بل يرغب في المزيد. صحيح أنه قام بأكثر من المطلوب منه بالنظر إلى امكانيات البلاد وطاقاتها، لكنه يدرك أنه مطوق بالتحديات من الداخل والخارج. لا يملك وسيلة سحرية لقهرها ومواجهتها مجتمعة، غير مزيد من الإصرار والإيمان والتفاؤل بالمستقبل.

يعي الملك محمد السادس أيضا أن كسب الرهانات، لا يتيسر بالقوة المادية وحدها. المغرب متواضع الإمكانات في هذا الجانب، لكنه مؤمن بأن الأهداف الوطنية تتحقق بالعزيمة الثابتة والذكاء الخلاق، والالتفاف حول المصلحة العليا، المتجاوزة للنزعات الفئوية كيفما كانت أسبابها ومبرراتها.

كثيرا ما دعا الملك محمد السادس، تصريحا وتلميحا، إلى السير في ذات الاتجاه، ملحا على ضرورة تأهيل الحقل السياسي وعقلنته في المغرب، استرشادا بمبادئ التداول على المسؤولية، وتطبيق معايير الحكامة والمحاسبة والشفافية والاستفادة من الرأي المخالف.هذا ورش كبير تقع مسؤولية انجاحه على الطبقة السياسية وليس من دور فيه للملك غير النصح والتوجيه.

ومن المفارقات التاريخية، أن يتقدم الملك على المحيط السياسي في هذا الشأن. ليس الأمر استثناء، فقد تخطى قادة وزعماء عصرهم، ولم ينصفهم التاريخ إلا بعد حين.

في ظرف أقل من عقد ونصف عقد، طبع الملك محمد السادس خارطة المغرب، بميسمه الخاص، التزم بشروط التعاقد التاريخي، بينه وبين المغاربة. لو سألت مواطنا عاديا، وبالصدفة، عن رأيه في شخص الملك، لأجابك على الفور وبتلقائية: «مزيان»، دون معرفة هوية السائل وخلفية السؤال.كلمة تدل في القاموس الشعبي على الرضا والقناعة. حفظ الله الملك، وهنيئا له ولأسرته الكريمة، وللمغاربة بعيد الجلوس الرابع عشر.