الدبلوماسية المغربية في عهد الملك محمد السادس.. الطموحات والتحديات

محمد تاج الدين الحسيني

TT

تمر الآن أربع عشرة سنة على تولي الملك محمد السادس عرش المملكة المغربية. وهي فترة كافية للخروج ببعض الخلاصات بشأن التغيير الذي عرفته إدارة الشأن الدبلوماسي سواء من حيث طبيعة التحديات التي تواجه المملكة في محيطها الجهوي والدولي، أو من حيث تقييم ما تحقق من نجاحات أو إخفاقات على طريق تحقيق الطموحات الهادفة إلى حماية المكتسبات وتخويل المملكة المكانة التي تستحقها ضمن مجتمع الدول.

لقد تميزت الدبلوماسية المغربية في عهد الملك الراحل الحسن الثاني بتموقعها ضمن المجال المحفوظ للمؤسسة الملكية حيث لم يكن وزراء الخارجية يتوفرون على هامش كبير للمناورة على مستوى آلية اتخاذ القرار، وكان دورهم ذا طبيعة تنفيذية محضة، بل إن وزارة الخارجية كانت تعتبر بامتياز من بين وزارات السيادة، حيث تتراجع النكهة الحزبية لصالح التكنوقراط وهو ما كان ينعكس بوضوح على السفارات، وكذلك على تمثيليات المغرب في الأمم المتحدة وباقي المنظمات الدولية.

ورغما عن ذلك، فإن اعتبار الدبلوماسية ضمن المجال المحفوظ للمؤسسة الملكية، لم يكن اختيارا غير محمود العواقب، فقد استطاعت المملكة بفضل الشخصية المتميزة للحسن الثاني أن تتموقع بشكل متميز على رقعة التوازنات الدولية إقليميا وعالميا، بل وأصبحت الدبلوماسية الملكية وسيلة فعالة لتمكين المغرب من ممارسة سياسة المكانة في سائر المنتديات الدولية ابتداء من محيطه الإقليمي، سواء تعلق الأمر ببناء المغرب العربي (معاهدة مراكش 1989) أو دعم الجامعة العربية (استقبال مؤتمرات القمة) أو قيامه بدور الوسيط في تسوية النزاعات الكبرى (النزاع العربي الإسرائيلي)، بل إن تلك الدبلوماسية كانت ذات أبعاد عالمية من خلال المواقف المعبر عنها في قمة مجلس الأمن واستضافة تأسيس منظمة التجارة العالمية والمساهمة الفعالة في عمليات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة. ويعتبر الكثير من الملاحظين أن عهد الملك محمد السادس تميز بتغيير نوعي في الممارسة الدبلوماسية وبالخصوص فيما يتعلق بسياسة المكانة التي كان الحسن الثاني يعطيها الأولوية ضمن الاستراتيجية الوطنية. لقد ظهر هذا التغيير واضحا من خلال إعطاء الأولوية للشأن الداخلي بامتياز إذ أطلق العاهل المغربي مجموعة من الأوراش الكبرى ذات الطبيعة الاقتصادية والاجتماعية مشرفا بصفة شخصية على متابعتها وتنفيذها حتى ولو كان ذلك على حساب الحضور في المؤتمرات واللقاءات الدولية، وبدا ذلك واضحا في الغياب عن كثير من مؤتمرات القمة العربية والإسلامية ناهيك عن تقليص اللقاءات الثنائية مع بلدان الجوار وخاصة في المغرب العربي.

لكن وعلى الرغم من تراجع سياسة المكانة وتقليص الحضور، فإن الدبلوماسية المغربية عرفت تطورا نوعيا على مستوى الأداء ودور الفاعلين. فقد اعتبر الملك محمد السادس أن الدبلوماسية التقليدية بمفهومها الكلاسيكي المتمثل في جهاز وزارة الخارجية باتت تواجه تحديات كبيرة نتيجة تقدم وسائل الاتصال والإعلام والنقل ونتيجة لتداعيات العولمة.

وهكذا اعتبر منذ سنة 2000 أن من حق وزارة الخارجية أن تتوفر على وسائل العمل الكافية وأن يجري دعم قدرتها التنسيقية سواء على مستوى الإدارة المركزية أو البعثات الدبلوماسية. كما أن الملك محمد السادس ركز على الدور الجديد الذي ينبغي أن تلعبه الدبلوماسية الموازية وذلك عن طريق تقوية الدبلوماسية الجمعوية والبرلمانية والاقتصادية والثقافية والإعلامية.

ومن ثم أصبح يظهر واضحا أن تراجع المغرب عن سياسة المكانة جرى تعويضه باستراتيجية جديدة تخرج الدبلوماسية الرسمية تدريجيا من المجال المحفوظ للمؤسسة الملكية، ومن جهة أخرى تفعيل الدبلوماسية الموازية التي أصبحت تفرضها إكراهات العولمة وتحدياتها.

إن استراتيجية العهد الجديد في المجال الدبلوماسي أصبحت تركز على حماية المصالح الحيوية للمغرب من جهة وجعل الدبلوماسية وسيلة لتحقيق التنمية المستدامة بسائر تمظهراتها وبالتالي فلم يكن غريبا أن يتم التركيز على التعاون الاقتصادي والسياسات الاندماجية المتعددة الاتجاهات. ويمكن القول إن وزارة الخارجية لم تتمكن من تحقيق التفعيل المطلوب لهذه الاستراتيجية في المستوى المطلوب، إذ ظل الأداء الدبلوماسي مبعثرا وموسميا وذا صبغة ظرفية، وكان يظهر للكثيرين وكأن الدبلوماسية المغربية تكتفي بالحفاظ على الوضع القائم والمواقف الدفاعية، بل وتمارس أحيانا سياسة الكرسي الفارغ. وهي قد تتفادى الهجوم لكنها في نفس الوقت انفعالية إذ قد تتخذ قرارات دون احتساب مضاعفاتها المستقبلية. وبالتأكيد فإن هذا الخلل في الأداء كان يحتم على المؤسسة الملكية بين حين وآخر أن تتدخل بقوة لإعادة الأمور إلى نصابها أو تفادي انزلاقات خطيرة قد تمس بالمصالح العليا للبلاد.

لا يشك أحد في أن موقع المغرب الاستراتيجي وتموقعه كوسيط بين أوروبا وأفريقيا وكمعني بالشأن العربي الإسلامي ومنفتح على القارة الأميركية بشمالها وجنوبها، كل ذلك يضاعف حجم التحديات التي كتب له أن يواجهها تماما كما يضاعف طموحاته في نسج أوثق الأواصر مع الكثير من الأطراف.

لقد تمكن المغرب على مدى أربع عشرة سنة مضت من أن يتصدى للكثير من التحديات وأن يحقق البعض من طموحاته دون أن تكون الطريق مفروشة دوما بالورود. إذ استطاع أن يبلور مشروعا متكاملا لتطبيق نظام للحكم الذاتي في أقاليمه الجنوبية وأن يحصل على تزكية مجتمع الدول وخاصة مجلس الأمن الذي وصف مشروعه بأنه مطبوع بالجدية والمصداقية، كما تمكن من الاستمرار في الدفاع عن مصالحه العليا متمسكا بالشرعية الدولية وفاعلا أساسيا في رعاية وحفظ السلام الإقليمي والدولي بل ونموذجا يحتذى في المساهمة في أوراش المساعدة الإنسانية.

إن المغرب أصبح نموذجا في نجاح منظومة الإصلاحات الداخلية ابتداء بتطبيق المفهوم الجديد للسلطة وتجاوز تداعيات سنوات الرصاص إلى وضع دستور جديد ينقل المغرب من نظام الملكية التنفيذية إلى ملكية دستورية برلمانية، ويكرس مبادئ احترام حقوق الإنسان وحماية الحريات، كما هو متعارف عليه دوليا مما أصبح يشكل دعما لا غنى عنه للدبلوماسية المغربية في كل المنتديات. وسع المغرب كذلك آفاق دبلوماسيته الاقتصادية لتصبح مردوديتها أكثر مساهمة في تحقيق التنمية إذ استطاع الانخراط في اتفاقيات متعددة للتبادل الحر مع كل من الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي وتركيا وتونس والأردن ومصر، كما أنه أقام علاقات شراكة استراتيجية وازنة مع مجموعات إقليمية مندمجة ومؤثرة بقوة في القرار الدولي.

لقد اعتبر المغرب في محيطه القاري والمتوسطي أن الاندماج المغاربي خيار استراتيجي مما دفع به إلى الاعتذار عن الانضمام الكامل إلى مجلس التعاون الخليجي مقترحا شراكة استراتيجية أصبحت تعطي ثمارها في العلاقات بين طرفين ينتميان إلى العالم العربي والإسلامي وتجمعهما رغم البعد الجغرافي أواصر الأخوة والتضامن ووحدة الآمال في تحقيق السلام والاستقرار والتنمية المستدامة.

كما أن علاقات المغرب مع الاتحاد الأوروبي تطورت بشكل ملحوظ إذ أصبح المغرب فاعلا مركزيا في الاتحاد الأوروبي ضمن حدوده الجديدة وتطبيق سياسة الجوار، وبفضل تطوير علاقات الشراكة ضمن منهج مدروس لعبت فيه الدبلوماسية المغربية دورا أساسيا فقد أصبح المغرب يتمتع بوضع متقدم ضمن منظومة الاتحاد الأوروبي وبعبارة أخرى فرغم أن مركزه أقل من عضو فإنه أكثر من شريك.

لقد أدركت الدبلوماسية المغربية كذلك أن طبيعة التحالفات تغيرت بعد نهاية الحرب الباردة، وأن المصالح الحيوية أصبحت هي المؤطر الأساسي لسلوك الدول الكبرى وهكذا وعلى الرغم من تطوير العلاقات مع الولايات المتحدة من خلال اعتبار المغرب شريكا استراتيجيا خارج الحلف الأطلسي وتوقيع اتفاقية التبادل الحر ودخولها حيز التنفيذ والشروع في لقاءات التعاون الاستراتيجي فإن المغرب ما فتئ ينوع شراكته متفتحا على الفاعلين الجدد مثل روسيا والصين أو على البلدان الصاعدة في آسيا وأميركا اللاتينية.

وعلى الرغم من أن المغرب لا يزال بعيدا عن الاتحاد الأفريقي بعد انسحابه من منظمة الوحدة الأفريقية على أثر تنكر أمينها العام آدم كودجو للشرعية الدولية، فإن الدبلوماسية المغربية في أفريقيا أصبحت أكثر نشاطا على مستوى العلاقات الثنائية التي أطرتها الزيارات الملكية المتوالية للكثير من بلدان القارة.

إن مهمة الدبلوماسية أصبحت اليوم أكثر تعقيدا من أي وقت مضى، وبقدر ما تتزايد التحديات وتتعاظم فإن طريق استكمال كل الطموحات شاق وطويل ويتطلب المزيد من التضحيات، كما أنه يرتكز قبل كل شيء على دعم الجبهة الداخلية وتحقيق التضامن الوطني بعيدا عن الأنانيات الذاتية والحسابات السياسوية الضيقة.

* أستاذ بكلية الحقوق، جامعة محمد الخامس أكدال - الرباط، رئيس منتدى 21 للحوار والتنمية.