إمارة المؤمنين.. ضمانة توازن واستقرار دستوري

عبد الرحيم المنار اسليمي

TT

كان لي خلال الأسبوع الثاني من شهر رمضان الحالي، شرف المشاركة في برنامج «لقاءات تركية»، الذي تبثه القناة التركية الناطقة بالعربية من إسطنبول، برنامج كان موضوع نقاشه يتركز على التحولات الحالية في العالم العربي على ضوء أحداث مصر ودرجة تأثيرها على باقي التجارب العربية التي عرفت تحولات وإصلاحات داخل مناخ ما يسمى بالربيع العربي، ووجدت نفسي أثناء سير البرنامج أناقش التجربة المغربية وأنا محاط بأسئلة كثيرة حول أسباب الاستقرار السياسي والدستوري لهذه التجربة، ولاحظت بأن كثيرا من الخبراء العرب بدأت تثيرهم تجربة المغرب السياسية، وهم يقارنون الأفكار والمبادئ والمقتضيات الدستورية الموجودة اليوم على الساحة العربية لدول إما أنها أنتجت دساتير ولم تستطع تحقيق الاستقرار أو دول عربية ما زالت في طور الجدل والنقاش حول مضمون دساتيرها وشكل المصادقة عليها.

لذلك، فالتجربة الدستورية المغربية المكتوبة التي يصل عمرها اليوم إلى أزيد من نصف قرن، والتي اشتغلت بخمسة دساتير مراجعة بعد التجربة الأولى لسنة 1962 وصولا اليوم إلى دستور أول يوليو (تموز) 2011، هذه التجربة، تحتاج إلى تقديم وتوضيح حول الآليات الدستورية التي ضمنت استقرارها طيلة أزيد من نصف قرن من الممارسة الدستورية والسياسية، وهي آليات يمكن توضيحها كما يلي:

أولا، وجود نوع من التعايش في المرجعيات داخل الدستور المغربي، حيث نجد الإسلام بكل دلالاته إلى جانب مفهوم الديمقراطية كشكل للتنظيم السياسي، ونجد حقل إمارة المؤمنين الذي يقترن بالشورى إلى جانب مفهوم السيادة للأمة تمارسها بواسطة الاستفتاء والانتخابات.

يضاف إلى ذلك، أن تعددية مصادر القانون وأنماط القاعدة القانونية هي ثابت مغربي، نظرا لوجود تعايش أو تساكن بين ثلاثة مستويات من التنظيمات الدستورية السياسية: حضور بناء قانوني ينتمي إلى الفضاء الثقافي الإسلامي، وبناء دستوري ينتمي إلى القانون الدستوري العصري، ومستوى ثالث، عبارة عن أعراف دستورية نابعة من الممارسة التقليدية للبنيات المشكلة للمجتمع المغربي التقليدي الذي تطور طيلة أزيد من أربعة عشر قرنا.

ثانيا، وجود علاقة قوية بين الملكية والإسلام، ترسم دستوريا ما يسمى بحقل إمارة المؤمنين الذي يرتكز على مفهوم البيعة، التي تعد عقدا سياسيا وروحيا يمثل النموذج الذي أقيمت عليه السلطة الإسلامية. فالبيعة هي نقطة الالتقاء بين الحاكم والمحكوم في النظام السياسي المغربي، وهي تعكس لحظة التقليدانية في النظام الدستوري المغربي، إلى جانب علاقة أخرى بين الملكية والتعددية السياسية التي تحيل دستوريا إلى فكرة الملكية الدستورية ورئاسة الدولة في شكلها العصري.

ثالثا، رغم أن كل الوثائق الدستورية المغربية نصت في ديباجتها على الإسلام كدين للدولة، فإنها أضافت إلى ذلك لقب أمير المؤمنين إلى الملك، مما يعني أن أمير المؤمنين له أهمية من وجهة النظر الدينية، ليس فقط لأنه يعطي للملك أو يضيف له مشروعية ثانية دينية إلى جانب المشروعية السياسية، ولكن لأنه يجعل الدين حقلا مركزيا داخل الدستور يكون فيه الملك أمير المؤمنين وحامي حمى الملة والدين، والضامن لحرية ممارسة الشؤون الدينية. فالعنصر الديني، وظف داخل الوثيقة الدستورية المكتوبة بالتنصيص على مفهوم إمارة المؤمنين كإحالة إلى أن الملك في النظام السياسي المغربي يتحرك على الأرضية الدينية، أرضية الخلافة والإمامة وإمارة المؤمنين.

رابعا، أن هذه الصفة الدستورية الجامعة والضامنة للوحدة والاستقرار بنيت وترسخت مع الزمن، فالملك الراحل الحسن الثاني بنى دستوريا هذه الخاصية أو الصفة، حيث استطاع طيلة فترات الستينات والسبعينات والثمانينات من القرن الماضي أن يعيد إلى الأذهان وبطريقة مطولة المبادئ التي تمثل أصالة المغرب، وهي الإسلام والاستخدام المستمر للغة العربية لغة القران، كذلك أسس للنمط الدستوري الداخلي لصفة أمير المؤمنين في دور التحكيم مرتين (1964 و1992)، ولصورة وفكرة أمير المؤمنين التي يظهر بها أمام المخاطبين الغربيين وتركيزه على تجسيد صفة الإسلام، وموقفه من بعض القضايا المرتبطة بالعالم الإسلامي، منها رده على أطروحات الخميني بعد الثورة الإيرانية.

خامسا، استمرار إمارة المؤمنين وإعادة بناء وظائفها الدستورية مع الملك محمد السادس، لتمارس الدور الجامع للأمة في زمن المخاطر الجديدة المرتبطة بظاهرة التطرف والتشيع، وذلك من خلال الحفاظ على وحدة المذهب المالكي والشروع في إصلاح الحقل الديني، وانتقال حقل إمارة المؤمنين إلى إنتاج التحديث المؤسساتي، يضاف إلى ذلك، توجيه حقل إمارة المؤمنين إلى حماية التعددية والاختلاف داخل المغرب، فالملك محمد السادس طرح عقدا جديدا على المغاربة في أول يوليو 2011 يطور بمقتضاه دستوريا حقل إمارة المؤمنين الذي لعب في الممارسة الدستورية المغربية دور التحكيم ومراقبة الحدود بين السلط التشريعية والتنفيذية والقضائية، وبات ينتقل في دستور 2011 ليلعب دور حماية التعددية في الحياة الدستورية والسياسية المغربية. وبذلك، فإمارة المؤمنين تطورت ما بين الملك الحسن الثاني والملك محمد السادس لتنتقل في الهندسة الدستورية المغربية من الفصل 19 في دساتير 1962 مرورا بدستور 1970 ودستور 1972 ودستور 1992 ودستور 1996 إلى الفصلين 41 و42 في دستور 2011، حيث ينص الفصل الـ41 في فقرته الأخيرة على أن «يمارس الملك الصلاحيات الدينية المتعلقة بإمارة المؤمنين، والمخولة له حصريا، بمقتضى هذا الفصل بواسطة ظهائر (مرسوم ملكي)».

هذه العناصر الدستورية، تبين قوة التجربة المغربية من مدخل إمارة المؤمنين كفكرة جامعة ومجموعة آليات ومقتضيات وضوابط حافظت على الاستقرار السياسي للمغرب وتطورت حسب الحاجات الدستورية لكل مرحلة، فالملك في المغرب حافظ على صفتين دستوريتين متكاملتين هما: أمير المؤمنين والملك العصري رئيس الدولة لكل منهما مجال تدخله.

* أستاذ العلوم السياسية ورئيس المركز المغاربي للدراسات الأمنية وتحليل السياسات