حينما وظف الملك النبوغ المغربي للحفاظ على ريادة بلاده في أفريقيا

عبد الله ولد محمدي

TT

شكلت المحافظة على مكانة المغرب كدولة رائدة في القارة الأفريقية من بين التحديات الكثيرة التي واجهت الملك محمد السادس بعيد اعتلائه عرش المملكة المغربية، وهو تحد لم تكن الاستجابة له بالأمر الهين في ظل منافسة شرسة بين دول كثيرة للحصول علي مراكز للنفوذ في هذه القارة الواعدة.

حين بدأ الملك محمد السادس أسس سياسته الأفريقية لم تكن القارة تحظى بالاهتمام الذي تحاط به اليوم بوصفها المناطق التي تنمو في محيط عالمي تغلب عليه الأزمة الاقتصادية الخانقة.

بطبيعة الحال لم يكن للمغرب الإمكانيات المادية الهائلة التي تمتلكها الدول الأخرى المنافسة، ومع ذلك استطاع أن ينجح في ذلك التحدي، وأن يحافظ على مكانته، ويعزز دوره في القارة, ويعود الفضل في ذلك إلى قدرة الملك الشاب على استنهاض النبوغ المغربي، وتوظيف قدرات بلاده وطاقاتها المختلفة لتحقيق هذا الهدف الاستراتيجي الذي يحافظ على مكانة المغرب في خريطة القرن الواحد والعشرين.

كانت نظرة العاهل المغربي إلى القارة السمراء مختلفة عن تلك التي وضعها راسمو السياسات في بلدان شمال القارة فقد كان توجهه مبنيا على خلق آلية رابحة للتعاون تسمح له بالاستمرار ولا تفرغه من محتواه.

ولكن قبل أن نتعرض للأسباب التي مكنت الملك محمد السادس من تحقيق مهمته بنجاح رغم محدودية الإمكانيات المادية المتاحة مقارنة بالطموح القاري للمغرب، نشير إلى أن نجاحه في توطيد مواقع المغرب في القارة الأفريقية، ما كان له أن يتحقق لولا نجاحه في المهمة الأصعب وهي معركة البناء الداخلي التي استطاع أن يكسبها بعد أن حقق اختراقات كبرى على أربع جبهات رئيسة: التعليم، الصحة، البنى التحتية، السياسة والثقافة.

وتشكل هذه الجبهات الأربع أدوات القوة الناعمة المغربية التي استطاع الملك الشاب أن يوظفها بكفاءة في دبلوماسيته الأفريقية، بعد أن جربها بنجاح في بلاده.

فعلى مستوى التعليم، تعتبر الجامعات المغربية من بين أكثر الجامعات جذبا للطلاب الأفارقة ولا يعود ذلك فقط إلى جودة المادة التعليمية التي تقدمها تلك الجامعات للطلاب، والذي يماثل في كثير من الأحيان ما تقدمه أكثر الجامعات الغربية تطورا، بل يعود أيضا إلى التسهيلات التي تقدمها المملكة المغربية للطلاب الأفارقة وهي تسهيلات لا تختلف عن تلك التي تقدمها الدولة المغربية للطلاب المغاربة أنفسهم. ويعتبر الخريجون الأفارقة من الجامعات المغربية من بين أكثر الخريجين كفاءة، وتتنافس الشركات العالمية العاملة في دولهم على اكتسابهم.

أما على مستوى الصحة فتقوم الدولة المغربية بتقديم الدعم للكثير من الدول الأفريقية لدعم القطاع الصحي فيها على جميع المستويات سواء من حيث التخطيط أو التكوين أو الإشراف. ويوجد الأطباء المغاربة في الكثير من المستشفيات الأفريقية إما لعلاج المرضى أو الإشراف على تكوين أطر طبية محلية، كما تجول الفرق الطبية المغربية المتخصصة دول القارة طولا وعرضا لتقديم العلاج المجاني للمرضى. ودشن العاهل المغربي في جولته الأفريقية الأخيرة، على نفقته الخاصة، مستشفى لأمراض العيون في العاصمة السنغالية داكار يقدم العلاج المجاني للمرضى. وشهد ملك المغرب بنفسه فرحة عشرات النسوة السنغاليات اللواتي استعدن البصر بعدما أظلمت الحياة في عيونهن، وتستقبل المستشفيات المغربية مرضى الدول الأفريقية من أصحاب الأمراض المستعصية، وتقدم لهم العلاج الملائم. أما على مستوى البنى التحتية مثل الطرق والمواصلات فقد أصبحت الشركات المغربية العاملة في المجال تنافس الشركات الصينية والأوروبية والأميركية بل وتتفوق عليها وتفوز بالكثير من المناقصات الدولية، وذلك نظرا لما تتمتع به الشركات المغربية من ميزات تنافسية مثل القرب الجغرافي ومعرفتها بتاريخ المجتمعات الأفريقية وثقافاتها.

ولا ينحصر الحضور المغربي في أفريقيا في هذه المجالات بل يتعداه إلى مجالات أخرى ليس أقلها مجال العون الإنساني، حيث كانت المملكة المغربية من بين الدول السباقة إلى إرسال المعونات والمساعدات الغذائية للدول المتضررة من كوارث الجفاف والمجاعات. ولا يزال الكثير من الأفارقة في دول الساحل يتذكرون المشهد الذي حفر في ذاكرتهم حين شاهدوا الملك محمد السادس وهو يشرف على عملية الإغاثة الكبرى التي قامت بها بلده لصالح دولة النيجر التي كانت تتعرض لمجاعة قاتلة. فقد وقف الملك شخصيا، وهو في بداية ملكه، في مطار بلدة مرادي، متوليا الإشراف المباشر على عملية الإغاثة من دون أن يحيطها باستعراض إعلامي، وكان يمكنه أن يفعل ذلك.

إضافة إلى الجوانب الاجتماعية والاقتصادية، تتحرك المملكة المغربية أيضا على الجبهة الثقافية خدمة للتقارب بين الشعوب الأفريقية، ونشر قيم السلام بينها، والحيلولة دون انتشار ثقافة الحقد والكراهية والتكفير، التي تفتك بالكثير من المجتمعات المعاصرة، وتملك المملكة المغربية رصيدا ثقافيا ضخما من هذا التاريخ المشترك الذي ربطها بالقارة الأفريقية قل نظيره يتمثل في الطرق الصوفية التي نبعت من المغرب، ونشرت الإسلام وثقافة التسامح في أدغال أفريقيا، ولقد استطاعت المملكة المغربية، خصوصا في عهد الملك محمد السادس، أن توظف هذا البعد الصوفي الذي جعل الكثير من أفئدة الأفارقة، وحتى من غير الأفارقة، تفيء إلى المغرب بحثا عن الاستقرار والسكينة الصوفيين.

* كاتب صحافي موريتاني