ملك «المصالحة والإصلاح»

إدريس لشكر

TT

مما لا شك فيه أن السنوات الأولى لعهد الملك محمد السادس فجرت آمالا عريضة لدى الشعب المغربي وقواه الحية، ونحن لن ننسى في «الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية» أن أول قرار سياسي اتخذه الملك الشاب في هذا الاتجاه كان قرار جلالته بتجديد الثقة في حكومة عبد الرحمن اليوسفي (الوزير الأول الأسبق)، تلته قرارات أخرى مفعمة بالآمال لم يتردد الملك محمد السادس في اتخاذها لتصحيح أخطاء الماضي وتقويم مسار الحاضر، مثل إعفاء وزير الداخلية آنذاك، وإرساء المفهوم الجديد للسلطة واتخاذ تدابير جريئة تعلن القطيعة مع سياسة الاضطهاد والانتقام من الخصوم السياسيين.

في هذا السياق، بدأ العاهل الجديد يؤكد أسلوبه الشخصي في ممارسة الحكم، الذي اتسم عموما بالطابع الإنساني ولطف السلوك، وبإرساء علاقات متفتحة مع المغاربة ليصبح بشهادة الجميع أقرب الملوك العلويين من الشعب المغربي.

لا جدال في أن عهد الملك محمد السادس منذ توليه عرش المملكة قبل أربع عشرة سنة، عهد زاخر بالمنجزات التنموية والمكتسبات السياسية التي لا يسمح المجال هنا باستعراضها وإبراز قيمتها، غير أننا إذا كان لا بد أن نضع لهذه المرحلة التاريخية عنوانا بارزا فلن نجد أبلغ من عنوان «عهد المصالحة والإصلاح».

فعلى امتداد هذه الفترة الزمنية من فجر الألفية الثالثة المثقلة بمخاضات النظام العالمي الجديد وانتفاضات الشعوب العربية، استطاع المغرب بقيادة ملك متصالح ومصلح، وفي تعاقد واضح مع قوى الحركة الوطنية والديمقراطية، أن يصبح من أكثر البلدان استقرارا في المنطقة وجلبا للاستثمار واحتراما لمعايير الديمقراطية وحقوق الإنسان، ناهيك بما حققه المغرب بإرادة ملكية ثابتة من أوراش تنموية هيكلية ومبادرات طموحة لتعزيز التماسك الاجتماعي وضمان العيش الحر الكريم للمواطنين، في دعم قوي للبرامج الإصلاحية لحكومات عبد الرحمن اليوسفي وإدريس جطو وعباس الفاسي، وفي تجاوب عميق مع تطلعات جماهير الشعب المغربي.

لم تقتصر سياسة المصالحة على نهج خيار العدالة الانتقالية لطي صفحة الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان، التي شكل الخطاب الملكي بمدينة أغادير بتاريخ 7 يناير (كانون الثاني) 2004 عند تنصيب هيئة الإنصاف والمصالحة سندا مرجعيا موجها لأعمالها وأساسا مؤصلا لمقاربتها، بل كان هذا المسار التصالحي أشمل وأوسع، باعتباره تصالحا مع الأرض ومع الإنسان، مع الصحراء ومع الشمال، مع النساء والشباب، مع الروافد الثقافية المتنوعة ومع الفئات الشعبية المهمشة.

لقد كان فريق المعارضة الاتحادية ينبه باستمرار إلى ضرورة رد الاعتبار للأقاليم الشمالية، وذلك في ظل إهمال ثابت من لدن الدولة، إلى أن جاء الملك محمد السادس ليخص المنطقة بكامل عنايته ويسهر على إدماجها في نطاق المصالحة الوطنية وعلى تمكينها من منجزات تنموية رائدة، يأتي في مقدمتها ميناء طنجة المتوسط، وتأهيل البنية التحتية والشبكة الطرقية والمرافق العمومية في البوادي والحواضر، حيث يمكن أن نعتبر مصالحة المغرب مع أقاليمه الشمالية ومع واجهته المتوسطية هي مصالحة، يعود فيها الفضل بالأساس إلى رؤية وإرادة الملك محمد السادس.

كما أن مبادرة جلالته سنة 2007 بتخويل الصحراء المغربية حكما ذاتيا في إطار سيادة المملكة ووحدتها الوطنية والترابية شكلت مصالحة متجددة مع أبناء الشعب المغربي في هذه الأقاليم، باعتبارها منعطفا مهما في مسار التسوية النهائية لهذا النزاع الإقليمي المفتعل ينسجم مع الشرعية الدولية ويتيح لسكان المنطقة تدبيرا واسعا لشؤونهم المحلية واحتراما لخصوصياتهم الثقافية.

ثم إن الدور الحاسم لجلالة الملك في إقرار «مدونة الأسرة» سنة 2004 ساهم في إحداث قفزة اجتماعية متقدمة للمصالحة مع المرأة المغربية ودعم تمكينها وتعزيز مكانتها.

كما أن «المبادرة الوطنية للتنمية البشرية» التي أعلنها الملك محمد السادس يوم 18 مايو (أيار) 2005 تشكل مقاربة مبتكرة للمصالحة مع الفئات الاجتماعية المقصية ولمحاربة الهشاشة الاجتماعية، من خلال إشراك الساكنة المستفيدة في إنجاز مشاريع مهيكلة مدرة للدخل ومولدة للنمو، وذلك في إطار رؤية شمولية ومندمجة للتنمية الاجتماعية والبشرية.

وجدير بالذكر أيضا أن الحوار الوطني حول الجهوية أضحى مع محمد السادس من الأوراش الكبرى للإصلاح والمصالحة؛ حيث جاء الخطاب الملكي بتاريخ 3 يناير 2010 بمفهوم وتصور جديد للجهوية؛ ينبني على مجموعة من الأسس المرتبطة بالوحدة وثوابت الدولة والتضامن بين الجهات والتناسق والتوازن في الصلاحيات والإمكانات ثم اللاتمركز الواسع ضمن حكامة ترابية ناجعة.

ولا ننسى أن التعديل الدستوري الأخير الذي دعا إليه جلالة الملك، لم يكن فقط تعديلا إصلاحيا وتصالحيا في مضامينه المتعلقة بفصل السلط وضمان الحريات، بل حتى في طريقة إعداده غير المسبوقة من حيث استشارة القوى السياسية والحزبية والنقابية والأكاديمية والحقوقية.

خلاصة الأمر، أن المصالحة والإصلاح في تقديري الشخصي تشكلان مفردتان أساسيتان في قراءة عهد محمد السادس منذ جلوسه على عرش أسلافه سنة 1999.

* الأمين العام لحزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية المعارض