السدود التركية تهدد بدمار آثار الأكراد في أعالي نهر دجلة

TT

قررت الحكومة التركية في سبعينات القرن الماضي تشييد عدة سدود مائية في منطقة أعالي الفرات ودجلة، ونظمت مشروعاً أطلقت عليه اسم «مشروع جنوب الأناضول»، لزراعة المناطق الجدباء بالجنوب الشرقي للبلاد وتوليد الطاقة الكهربائية. إلا أن هذا المشروع سيؤدي الى دمار العديد من البقايا الأثرية أو غرقها، وضياع بقايا التراث الحضاري القديم للأكراد إلى الأبد.

تقول اسطورة الخلق البابلية القديمة، ان عيني المعبودة تيامات تفجرتا فخرج نهر دجلة من احداهما وخرج نهر الفرات من الاخرى. ويعتبر نهر دجلة واحداً من اهم الانهار في العالم، وتقع منابعه في جبال غرب جبل ارارات، ويتجه جنوب شرقي الاناضول ليفصل بين تركيا وسورية في مجرى يتسع احياناً مما يبطئ سرعته، ويضيق احياناً اخرى فتسرع حركته. ويتجه دجلة بعد ذلك الى العراق، ويسير جنوباً عبر بغداد ليلتقي اخيرا مع نهر الفرات الآتي من الغرب، وتسير مياه النهرين معاً في شط العرب الذي يصب في شمال الخليج شرق دولة الكويت. وكانت المنطقة التي يمر بها دجلة والفرات والتي تعرف باسم «الهلال الخصيب»، موطنا لحضارات قديمة منذ آلاف السنين، بسبب خصوبة الأرض وتوفر الغذاء. وكان أول من حاول تنظيم مياه دجلة السومريون الذين حفروا قناة منذ 44 قرنا لتوصيل مياه هذا النهر الى مدينتهم لاغاش.

والواقع ان هناك نقصاً عالمياً في المياه العذبة الصالحة لاستعمال البشر، نتيجة للانفجار السكاني الذي يحدث الآن، خاصة في بلدان العالم الثالث، وتحاول الحكومات سد النقص المائي عن طريق اللجوء الى مشاريع حفر الآبار وبناء السدود وتحلية مياه البحار. الا ان هذه المشاريع ـ رغم الفوائد الاقتصادية والاجتماعية التي تحققها ـ باتت تهدد بتدمير البقايا الاثرية القديمة، والقضاء على تراث الاجداد. لذا لما قررت الحكومة التركية بناء عدد من السدود المائية في منطقة أعالي نهر دجلة الجبلية، بقصد اتاحة الفرصة لزيادة مساحة الأرض المزروعة هناك، وتوفير مياه الشرب للسكان، ثارت ثائرة الدوائر الاثرية العالمية التي اقلقها ما ستفعله سدود الفرات ودجلة، بالأراضي التي ستغطيها مياه بحيراتها.

ويهدف مشروع سدود نهر دجلة وحده الى بناء 22 سدا واقامة 19 محطة لتوليد الطاقة الكهربائية، الى جانب زراعة 17 مليار متر مربع من الأرض. ومن المؤكد ان تنفيذ هذا المشروع سيؤدي الى تعريض البقايا الاثرية القديمة للخطر، اذ ستغطيها مياه البحيرات المتجمعة خلف السدود، كما ستتعرض للتدمير نتيجة لبناء الطرق والمرافق الضرورية لتنفيذ المشروع.

ومع ان احدا لا يستطيع الوقوف امام المشاريع الانمائية التي تراها الحكومات ضرورة لخدمة مواطنيها، اثار المعترضون اهمية العمل على صيانة البقايا الاثرية في ذات الوقت. وللعلم ثمة حالات مشابهة لمشروع اعالي دجلة شهدتها مناطق اخرى من العالم، نفذت فيها مشاريع مائية ولكن مع الحفاظ على البقايا الاثرية عن طريق نقلها الى مواقع اخرى. فعندما شيدت مصر السد العالي في اوائل ستينات القرن الماضي، الذي ادى الى اغراق ارض النوبة، نقل معبد رمسيس الثاني الى موقع آخر أكثر ارتفاعاً في ابو سنبل، كما نقل معبد ايزيس في فيلة الى جزيرة آخرى وسط نهر النيل.

< اعتراضات الأثريين < وقد اثار مشروع سدود دجلة اعتراضات ليس فقط من جانب الجمعيات الاثرية في العالم، بل كذلك من قبل جماعات حقوق الانسان، اذ يهدد المشروع بالقضاء على التراث الحضاري لفئة عرقية معينة من السكان، هم الأكراد الذين يسكنون مناطق اعالي دجلة والفرات منذ آلاف السنين.

وفي يوليو (تموز) من العام الماضي، عبرت الحكومة البريطانية عن قلقها مما سيؤدي اليه تنفيذ مشروع السدود، خاصة سدي اليسو وسيزري، من اعتداء على حقوق الاقليات الكردية في تركيا. وحاولت الجمعيات الاثرية ايقاف مشروع الحكومة التركية لبناء سدود دجلة بكل الوسائل، مما اضطر بعض شركات المقاولة المساهمة في تنفيذ المشروع الى التوقف عن العمل، كما ترددت جهات التمويل في منح القروض والتسهيلات لبناء السدود.

وقبل بضعة أشهر اضطرت الشركة السويدية «سكانزا» الى الانسحاب من تنفيذ المشروع، وتبعتها الشركة البريطانية «بالفوربيتي» ثم الشركة الايطالية «امبريجيلو». وما اثار الجمعيات الاثرية الخاصة، هو أن المسؤولين عن المشروع لم يحصنوا المواقع الاثرية التي ستتعرض للدمار بسبب هذا المشروع، أو نقل ما يمكن نقله منها الى مناطق اخرى. بل انهم حتى الآن لم ينظموا عملية مسح اثري، للتعرف على ما يمكن ان يكون مخبئاً من بقايا قديمة رغم انتشار التلال بكثرة في وادي اعالي الفرات ودجلة مما يدل على وجود بقايا مدن قديمة مدفونة منذ آلاف السنين.

ومن المواقع المعروفة ديار بكر ذات الاسوار السوداء الواقعة في هذه المناطق، وقلعة حصن كيفا، التي بنيت فوق جبل عال، يطل على نهر دجلة في منطقة يضيق فيها ممر المياه الى حد يسمح بعبوره بسهولة. وهناك بنى الرومان قلعة لتحمي حدودهم الشرقية مع الفرس، اطلقوا عليها اسم «سيفا». وتحولت المنطقة الى مركز للمسيحيين ايام الدولة البيزنطية، وعندما وصل اليها العرب حوالي سنة 640، صارت حصن كيفا مركزاً اسلاميا مهماً، ثم خضعت للأيوبيين في القرن الثالث عشر، فقاموا ببناء العديد من المساجد المهمة، والتي ما زالت مناراتها قائمة حتى الآن. الا ان حصن كيفا بقلعتها ومساجدها الاثرية، بدأت تتدهور منذ عام 1260 عندما وصل اليها المغول وتحولت بعد ذلك الى خرابة في العصور الحديثة. وكان سكان المنطقة يحفرون مساكنهم في صخور الجبال بدلا من بنائها بالطوب او الحجارة، فبنت الحكومة التركية سنة 1967 مدينة جديدة بالطوب نقلت اليها السكان، ولكن يتوقع غرق المدينة القديمة بكاملها بسبب مشروع السدود، فلا يبقى ظاهرا سوى القلعة المقامة فوق الجبل.

=