المصريون يحتفلون بإحياء الحضارة اليونانية في مكتبة الإسكندرية

TT

هل كانت مكتبة الاسكندرية القديمة ـ التي احرقها الرومان عام 391 قبل الميلاد ـ مركزا للحضارة الشرقية، ام انها تمثل تراث اليونان وبداية الحضارة الغربية في بلادنا؟ كانت الاجابة على هذا السؤال حتى القرن التاسع عشر، تؤكد الطبيعة الشرقية لمكتبة الاسكندرية التي جمعت تراث الامة العربية في مصر وبابل وسورية وبلاد الفرس وتبلورت في بوتقة ثقافية واحدة. ومنذ عصر التنوير الاوروبي وبداية استعمار الرجل الابيض للعالم الثالث، تغيرت الاجابة على هذا السؤال ـ حيث صارت الاسكندرية ومكتبتها تراثا يونانيا غربيا، زرع في ارض مصر بعدما ماتت حضارة المصريين ولم يعد لها وجود. ولم يكن تغير الاجابة بناء على اكتشاف حقائق لم تكن معروفة من قبل، بل بناء على عقيدة عنصرية ظهرت في اوروبا تقول بتفوق الرجل الابيض، وعجز الشرقيين على انتاج الفكر الفلسفي او البحث العملي.

وعملت السلطات اليونانية منذ فترة طويلة على تأكيد اعتقادها بأن مدينة الاسكندرية القديمة ـ ومكتبتها ـ كانت يونانية. فقد اصدرت الحكومة اليونانية مجلدا يحتوي على اسماء المدن اليونانية القديمة بمناسبة بداية الالف الثالثة للميلاد، جرى فيه توثيق مدينة الاسكندرية باعتبارها احدى مدن اليونان، وطالبت الحكومة بوضع تماثيل لشعراء اليونان، عند مدخل مكتبة الاسكندرية الجديدة، تأكيدا للطبيعة اليونانية لهذا المركز الحضاري المصري. ويبدو ان المشرفين على مشروع المكتبة الجديدة في مصر يوافقون السلطات اليونانية في اعتقادها هذا، اذ احضر تمثال صنعه اليونانيون يمثل الاسكندر الاكبر على شكل بطل يوناني جاء مصر غازيا. ووضع في ميدان عبد المنعم رياض عند المدخل الشرقي للمدينة القديمة. كما بنيت بوابة على الطراز اليوناني عند المدخل الغربي للمدينة القديمة كتب عليها اسم الاسكندرية باليونانية، واعدت حدائق الاسكندرية على الطريقة اليونانية، لكي يشعر الزوار الذين يحضرون افتتاح المكتبة بطبيعتها اليونانية. ولا شك ان الحكومة اليونانية بذلت مجهودات كبيرة حتى تحول احتفال المصريين بافتتاح مكتبة الاسكندرية الجديدة، الى احتفال عالمي باحياء حضارة الاغريق. وسوف يشارك اربعة آلاف يوناني من مختلف انحاء العالم في الاحتفالات التي تقيمها مصر بمناسبة افتتاح مكتبة الاسكندرية، وعلى رأسهم قسطنطين ستيفانوبولوس رئيس اليونان ومعه وفد من اعضاء البرلمان وشخصيات ثقافية وفنية يونانية. كما الف احد كبار الموسيقيين اليونانيين الحانا خاصة لتعزفها الفرق الموسيقية في احتفالات المكتبة. وفي احتفال خاص يضع عمدة عاصمة اليونان في الاسكندرية تمثالا من البرونز لأثينا، ويقدم تمثالا لديميريوس فاليرون ـ اليوناني الذين يصرون على انه انشأ المكتبة القديمة ـ ليحتل مركز الصدارة في المكتبة الجديدة.

* تزوير التاريخ

* قد نعذر اليونان عندما يزورون التاريخ حتى ينسبوا ما انتجناه نحن من حضارة الى انفسهم، الا ان الموقف الذي لا يمكن تفسيره هو ما يجري الآن في الاسكندرية، حيث يقبل الباحثون المصريون تزوير التاريخ حتى يمكن نسبة حضارتهم هم الى اليونان. فقد انشأت مصر موقعا خاصا على الانترنت بمناسبة قرب افتتاح مكتبة الاسكندرية في 23 ابريل (نيسان) القادم، يؤكد ان ديميتريوس الفاليري هو الذي انشأ المكتبة القديمة، في ما اطلق عليه اسم «العصر اليوناني» مع التاريخ المصري، ويشرف على البرنامج الذي انشئ بالتعاون بين المجلس الاعلى للآثار والمركز القومي لتوثيق التراث الحضاري وشركة «آي. تي. ام»، الدكتور فكري حسن المحاضر بجامعة لندن في علوم المصريات. وقد سألت الدكتور فكري ـ وهو عالم موضوعي متخصص في عصور ما قبل التاريخ ـ عن السبب في نسبة مكتبة الاسكندرية الى اليونان، فقال ان الدكتور مصطفى العبادي هو الذي قدم المعلومات عن المكتبة. والدكتور مصطفى العبادي استاذ متفرغ بقسم الآثار والدراسات اليونانية بكلية الآداب في جامعة الاسكندرية، ومقرر لجنة الآثار بالمجلس الاعلى للثقافة في مصر. وعندما اتصلت بالدكتور العبادي لسؤاله عن المصادر التي استند اليها لنسبة مكتبة الاسكندرية الى اليونان، رفض الحديث في الموضوع، وجوهر ما يقوله الدكتور العبادي هو ان القرون الثلاثة الاخيرة قبل الميلاد، عندما حكمت مصر اسرة الملوك البطالمة (البطالسة) وآخرهم كليوباترا، يمثل عصرا للحكم اليوناني.

كما يذهب العبادي الى القول ان ديميتريوس فاليرون هو الذي انشأ مكتبة الاسكندرية واقامها على اساس من المراجع اليونانية عندما احضر مكتبة الفيلسوف ارسطو من اثينا، وهو الذي تولى مشروع ترجمة كتب التوراة من العبرية الى اليونانية، لتكون جزءا من المكتبة.

ولكن بينما يصر العبادي على اعتبار البطالمة عصرا لحكم اليونان، لم تكن هناك دولة لليونان عند بناء مدينة الاسكندرية ومكتبتها منذ ثلاثة وعشرين قرنا، بل كانت الاقوام اليونانية موزعة في مدن شبه الجزيرة اليونانية وجزر بحر ايجة وساحل الاناضول. وكلها كانت خاضعة لسيطرة المقدونيين ومن بعدهم لسيطرة الرومان. كما لم يكن الاسكندر الاكبر يونانيا بل كان مقدونيا، اذ تمكن ابوه فيليب الثاني من توحيد بلاده ثم اخضع بلاد اليونان لسلطته. ولا كان اليونان شركاء الاسكندر في حروبه وامبراطوريته فجميع قادته من المقدونيين، وانما عمل اليونان مرتزقة في جيش الاسكندر ـ كما عملوا في جيوش اعدائه من الفرس ـ الى جانب مرتزقة آخرين من الفرس واليهود والسوريين. ولم يكن الملوك البطالمة حكاما اجانب يحكمون مصر لصالح بلادهم، بل كانوا حكاما مصريين من اصل مقدوني، تماما كما كانت اسرة محمد علي في مصر من اصل الباني، وكما هو حال اسرة وندسور في بريطانيا التي تنتمي الى اصل الماني.

* ديميتريوس

* اما عن ديميتريوس فقد تبين الآن بشكل قاطع انه لم يحضر مكتبة ارسطو الى مصر، بل ثبت وصولها الى مكتبة برغامون بآسيا الصغرى. وليس هناك مصدر واحد بين الكتابات الكلاسيكية القديمة يقول انه كان مسؤولا عن المكتبة، كما لم يرد اسمه في قائمة المديرين الذين اشرفوا علىها. والمصدر الوحيد الذي اعتمد عليه العبادي ليربط بين ديميتريوس والمكتبة، هو خطاب اجمع الباحثون على انه مزوّر منحول. فقد عثر على خطاب لشخص يهودي ـ لا يعرف احد اين عاش ولا أين وجد خطابه ـ اطلق عليه الباحثون اسم ارستيس، وحددوا له عصرا لا يقل عن مائة عام بعد بناء المكتبة، ويتحدث خطاب ارستيس ـ الذي انتحل صفة واحد من رجال البلاط البطلمي ـ عن الطريقة التي ترجمت الكتب التوراتية الى اليونانية في الاسكندرية، فيقول ان ديميتريوس حصل على اموال كثيرة من بطليموس الثاني، لشراء الكتب، وخلاصة ما جاء بخطاب ارستيس كما يلي: «امر بطليموس فلاديلفيوس (الثاني)، بناء على نصيحة من رجلي البلاط الملكي «ديميتريوس فاليرون»، و«ارستيس»، بترجمة كتب اليهودية المقدسة لوضعها في مكتبة الاسكندرية. فكتب الملك الى العازر الكاهن الاكبر للقدس، طالبا منه ان يرسل اليه مترجمون خبراء، وبعث مع خطابه بهدية ثمينة للمعبد اليهودي. فبعث العازر باثنين وسبعين من كبار السن الى بطليموس الثاني، من المتبحرين في العلوم التوراتية واللغة اليونانية. ووضعهم الملك في جزيرة فاروس بالاسكندرية، فقاموا بترجمة كتب التوراة من العبرية الى اليونانية في 72 يوما».

ورغم اجماع الباحثين على ان خطاب ارستيس هذا مزور، فان اصحاب نظرية الاصل اليوناني لمكتبة الاسكندرية وجدوه فرصتهم الوحيدة لدعم وجهة نظرهم. ذلك انه المصدر الوحيد الذي يتحدث عن ديميتريوس باعتباره مسؤولا عن المكتبة. بل انهم اعتمدوا على هذا الخطاب المزور، لانكار الحقائق الثابتة التي اجمعت عليها المصادر المعاصرة للمكتبة ذاتها. فجميع المصادر القديمة تؤكد ان بطليموس فلاديلفيوس (الثاني) هو الذي انشأ مكتبة الاسكندرية وجرى ترجمة التوراة في عهده، بما في ذلك خطاب ارستيس نفسه. وهذه المصادر نفسها تجمع كذلك على ان ديميتريوس مات في بداية حكم هذا الملك، مما ينفي مسؤوليته عن المكتبة. فقد وصل ديميتريوس الى الاسكندرية حوالي عام 297 قبل الميلاد، فضمه بطليموس الاول الى جماعة مستشاريه، التي تضمنت كذلك الكاهن المصري مانيتون. ورغم ان ديو جينز لارتيوس الذي كتب قصة حياة ديميتريوس تحدث عن دوره كمستشار سياسي للملك، فانه لم يذكر شيئا عن علاقته بالمكتب او المكتبة. وبمجرد ان خلف بطليموس الثاني والده على العرش عام 283 قبل الميلاد، قام بطرد ديميتريوس من الاسكندرية الى الصعيد، حيث قيل انه دبر هناك حادثا لقتله، ويرجع سبب كراهية بطليموس الثاني لديميتريوس الى ان هذا الاخير كان قد نصح اباه بعدم تعيينه خليفة له.

ولما كانت جميع المراجع القديمة تؤكد ان بطليموس الثاني هو الذي انشأ المكتبة، لجأ التنويريون الى القول ان بطليموس الاول «لا بد انه هو الذي انشأ المكتبة»، وليس بطليموس الثاني، والسبب الذي جعلهم يخالفون نصوص تاريخية صريحة بخصوص المكتبة، هو رغبتهم في نسبتها الى ديميتريوس اليوناني. ورغم عدم وجود مصدر كلاسيكي واحد ينسب المكتبة الى ديميتريوس، فقد اصر الاوروبيون على ان ديميتريوس «لا بد انه هو الذي اقنع الملك ببناء المكتبة، واحضر لها الكتب من اثينا».

وهكذا ليس فقط بدون دليل بل بالتعارض مع جميع الادلة التي لدينا، اثبت التنويريون ـ ومعهم الدكتور العبادي ـ ان مكتبة الاسكندرية كانت يونانية وان كتبها جاءت من اثينا. وهذا هو ذات السبب الذي جعلهم يصرون على تغيير موقع المكتبة، فجعلوه جزءا من مبنى المرسيون (المتحف) بالحي الملكي، بدلا من معبد السرابيوم بالحي المصري. وبالفعل جرى بناء المكتبة الجديدة بمنطقة السلسلة في حي الشاطبي، وهو موقع المتحف القديم بالقرب من قصر البطالمة، بينما كانت المكتبة التي حرقها الرومان عام 391 داخل معبد السرابيوم في حي راخوتس المصري، اسفل عمود السواري بالقرب من كوم الشقافة الحالي. فقد عثر البريطاني آلان رو اثناء الحرب العالمية الثانية، على عدة نسخ من حجر الاساس الذي وضعه بطليموس الثالث عند توسعة السرابيوم، مدونا بالهيروغليفية واليونانية، كما يؤكد الاثري الفرنسي جان ـ ايف امبيرور ان المكتبة التي احرقها المسيحيون، كانت في هذا الموقع (الصفحة 96 من كتابه عن «الاسكندرية» الصادر عن المتحف البريطاني عام 1998، وعندما وصل الكاتب الجغرافي سترابو الى الاسكندرية، بعد خمسة اعوام من موت كليوباترا ودخول اغسطس الى العاصمة المصرية، كتب في الفقرة 8 من كتابه الثامن، وصفا للمتحف في معرض حديثه عن الحي الملكي، قائلا «والمتحف هو ايضا جزء من القصور الملكية، له طريق عام ورواق به مقاعد، ومنزل كبير به القاعة العامة لتناول الطعام للدارسين الذين يتشاركون في المتحف. وهذه المجموعة من الرجال ليس فقط تشترك في الملكية (شيوعا) بل لديهم كذلك كاهن مسؤول عن المتحف، كان الملوك يعينونه من قبل والآن يعينه قيصر». لا ذكر هنا لكتب ولا لمكتبة او امين مكتبة، وانما لعدد من الرجال يعيشون في المتحف. للتفرغ للدراسة، ومنذ بداية التاريخ، كانت المكتبة المصرية تشكل جزءا من المعبد وهذا هو نفس ما حدث في الاسكندرية.

=