دراما مشهد النهاية لرؤساء مصر.. عرض مستمر

مبارك يفشل في كتابة نهاية سعيدة لأسوأ حقبة في تاريخ بلاده

متظاهر يمزق صورة للرئيس السابق حسني مبارك (أ.ب)
TT

تعمد المشهد الافتتاحي لحقبة الرئيس المصري السابق حسني مبارك بالدم، مع اغتيال الرئيس الراحل أنور السادات، أثناء احتفاله بالذكرى الثامنة لانتصارات أكتوبر (تشرين الأول) عام 1981، لكن المشهد شديد الإثارة دشن مرحلة رتيبة في تاريخ البلاد، التي دخلت في «حالة سبات» لم يقطعها إلا لحظات دامية أخرى منتصف التسعينات خلال محاولة اغتياله في أديس أبابا، بينما كان السؤال الملح يدور حول إخراج مشهد النهاية لـ«لعهد مبارك».

وبينما كانت الأطراف الفاعلة على الساحة المصرية جميعها، تستشعر أن شيئا ما يحلق في الأفق، ما كان لأشرس المناوئين لنظام مبارك أن يحلم بنهاية دراماتيكية.. وأقصى ما كان يمكن تصوره حتى مطلع يناير (كانون الثاني) الماضي، وقبل تسعة أشهر من موعد الانتخابات الرئاسية، هو إعادة لإنتاج نهاية محمد علي باشا قرب منتصف القرن التاسع عشر، إنما من دون فتوحات مؤسس مصر الحديثة، التي داهمت القسطنطينية.

ففي عام 1846 حين بلغ محمد علي باشا الثمانين من العمر، ولم ير في نفسه أنه مؤهل لتحمل مسؤولية أربعة ملايين ونصف المليون مصري، قام بتشكيل مجلس فوق العادة تحت رئاسة ابنه إبراهيم باشا لتسيير أعمال الحكومة، وبعد نحو عام صدر فرمان من الباب العالي بتقليد إبراهيم باشا ولاية مصر.

كان الصعود المفاجئ لجمال مبارك نجل الرئيس المصري السابق منذ مطلع الألفية الجديدة، وتصدره المشهد السياسي خلال عام 2010، والإطاحة بالمعارضة المصرية من البرلمان، والأزمات الصحية التي ألمت بمبارك، يعطي لمشهد محمد علي معقولية، في غياب أي مؤشرات عن موقف المؤسسة العسكرية في البلاد في تلك الفترة.

وظلت أطراف في مصر تراهن على ممانعة المؤسسة العسكرية لسيناريو التوريث، وهو ما فتح الباب أمام تصور مشهد مختلف ربما أكثر درامية من المشهد السابق.. ومن أجل هذا ذهب البعض لاستعارة نهاية أول رئيس في تاريخ مصر.. محمد نجيب.

كانت نهاية نجيب في عام 1954 مثيرة للشفقة، وتصلح لرسم نهاية حقبة مبارك التي استمرت لثلاثة عقود، في حال ما كانت المؤسسة العسكرية قد بادرت لإفشال مخطط التوريث، وهو ما تكشف لاحقا أنه كان خيارا مطروحا، بعد تصريحات لقيادات بالمجلس العسكري الحاكم في البلاد حاليا، لمحوا فيها إلى أن الجيش كان يدرس خيار التحرك للإطاحة بجمال مبارك إذا ما صعد إلى سدة الحكم.

في يوم 14 نوفمبر (تشرين الثاني) عام 1954 خرج محمد نجيب من مكتبه في قصر عابدين (مقر الحكم)، في هدوء وصمت حاملا مصحفه، دون أن يؤدي له ضباطه وجنوده التحية العسكرية، بعد خسارته فيما عرف بـ«معركة الديمقراطية»، التي خاضها ضد مجلس قيادة ثورة 23 يوليو (تموز) 1952.

كانت هيمنة جمال عبد الناصر على مقاليد الأمور واضحة، فتم تحديد إقامة نجيب في فيلا زينب هانم الوكيل، مع وعد بألا تزيد مدة تحديد حركته على بضعة أيام، يعود بعدها إلى بيته، لكنه لم يخرج من الفيللا طوال الـ30 عاما اللاحقة.

بعد سنوات قارن محمد نجيب بين الطريقة التي خرج بها من السلطة والوداع الذي حظي به الملك فاروق لحظة خروجه من مصر. لم يستطع نجيب رسم مشهد النهاية لمسيرته، لكن مبارك كان قاب قوسين أو أدنى من اختيار نهاية تشبه نهاية الملك فاروق، الذي أجبر على توقيع وثيقة التنازل عن العرش، لكنه على الأقل خرج على متن اليخت الملكي «المحروسة»، مصحوبا بـ21 طلقة تحية من مدفعية الجيش، لكن مبارك لم يستجب مبكرا لمطالب ملايين المصريين الذين خرجوا مطالبين برحيله.

وتبدو المسافة شاسعة بين الرئيس المصري الراحل عبد الناصر، ومبارك، وباستثناء انتهاج سياسة نظام مبارك لخصخصة القطاع العام لا تتقاطع الحقبتان في أي من مظاهرهما، خاصة الحالة الثقافية والاجتماعية التي ميزتهما.

لكن دراما نهاية عبد الناصر التي تجلت رمزيتها قبل موته بأربع سنوات مع نكسة 1967، حيث مني الجيش المصري بهزيمة قاسية أمام إسرائيل، لا تزال تحتفظ ببريق خاص، حيث خرج ملايين المصريين لوداع الزعيم الأكثر شعبية في العالم العربي الأفريقي.. مرتجلين لحنهم الخاص وهم يرددون «الوداع يا جمال يا حبيب الملايين».

وطوي سر نهاية عبد الناصر، بينما لا يزال الكثيرون يعتقدون أنه تعرض لعملية اغتيال بطيئة بالسم. وتشير أصابع الاتهام دائما إلى أحد أطباء التدليك، ذكر بالاسم، قيل إنه استخدم سما بطيء المفعول أثناء جلسات التدليك التي اعتاد أن يقوم بها لعبد الناصر.

وربما نجح مبارك في انتزاع أحد أكثر النهايات دراماتيكية، بعد أن كان مشهد اغتيال الرئيس السادات يحتفظ باللقب دون منازع، حيث تلقى رصاصات قاتليه منتصبا ومؤديا التحية العسكرية بعد أن اعتقد أن ضباطه يحاولون الاقتراب منه لتحيته، أثناء استعراض عسكري، حيث جلس في منصة خصصها للاحتفال بذكرى انتصارات 6 أكتوبر عام 1973، على إسرائيل بينما كان مبارك إلى جواره.

لحظات مقتل السادات التي نقلته شاشات التلفزيون المصري.. تحول مع مبارك لساعات بث متواصلة من ميدان التحرير، حيث احتشد ملايين المصريين على مدار 18 يوما خلبت لب قيادات وشعوب العالم، وألهمت الثوار في أرجاء المعمورة. وقبل هذه الأحداث التي تفجرت بداية من يوم الخامس والعشرين من يناير لم يكن الرئيس السابق ولا أي من المراقبين وكتبة التقارير يتخيل أن تكون هذه هي النهاية لرجل كان نظامه حريصا على جمع خيوط اللعبة بين يديه حتى آخر رمق.

وترك مبارك السلطة تحت ضغط شعبي هائل في 11 فبراير (شباط) 2011، الماضي، وبعد ثورة شعبية شبابية استمرت أكثر من أسبوعين مطالبة بتنحيه. وفي 3 أغسطس (آب) الماضي.. كانت أنظار العالم متعلقة بشاشات الفضائيات التي احتشدت في أكاديمية مبارك للأمن، حيث مقر محاكمة القرن.. وهو ممد على سرير طبي ظهر مبارك للمرة الأولى منذ ظهوره الأخير مطلع فبراير الماضي.. ظهر هذه المرة كمتهم داخل القفص، يحيطه نجلاه علاء وجمال.. وبالقرب منه ستة من قيادات الشرطة التي كانت حجر الزاوية التي اعتمد عليها مبارك في بقائه لعقود ثلاثة على سدة الحكم في مصر.