عام الغضب في روسيا

ميدفيديف يستعد للرحيل.. والمظاهرات ترفض عودة بوتين

الرئيس الروسي ميدفيديف يتحدث الى رئيس الوزراء بوتين خلال احد الاجتماعات للحكومة في موسكو (رويترز)
TT

كان أبرز مشاهد العام في روسيا الأحداث التي جرت في نهايته وعكست السخط الاجتماعي والمظاهرات الجماهيرية التي عصفت بموسكو وكبرى المدن الروسية احتجاجا ضد سياسات وتوجهات السلطة وفي مقدمتها تزوير الانتخابات البرلمانية وإعلان فلاديمير بوتين عن رغبته في العودة إلى الكرملين.

كان العام يبشر بآمال كبار وإنجازات جسام، رغم أنه كان نسج بداياته من عدد من الانفجارات التي أطاحت ببعض وقار الدولة والكثير من أمن أبنائها في واحد من أكبر مطارات العاصمة. كان الكثيرون يعلقون طموحاتهم نحو بناء الدولة العصرية الديمقراطية بعيدا عن مظاهر الركود والفساد وتنامي العمليات الإرهابية في شمال القوقاز، على الرئيس الشاب ديمتري ميدفيديف وما طرحه من تصورات في مقاله الشهير «روسيا.. إلى الأمام» وهو المقال الذي كشف فيه عن سلبيات الماضي الذي ارتبط في الكثير من مفرداته برمز الدولة فلاديمير بوتين، فيما حدد معالم المستقبل التي أراد ميدفيديف أن يواصل رسم معالمه بعد أن كشف صراحة عن رغبته في الاستمرار لفترة ولاية ثانية. وكانت الرغبة في الاستمرار تتنامى يوما بعد يوم تصاحبها إرادة يشوبها بعض التردد وإن بذل الكثير من الجهد لدعمها من خلال خطوات مؤسسية تجسد بعضها في «معهد التنمية المعاصرة» الذي تولى صياغة أفكاره ومشاريعه، إلى جانب منتداه السنوي في ياروسلافل الذي حاول أن يكون ساحة فكرية لتبادل الآراء والرؤى حول ما يطرحه من مشاريع لتحديث روسيا وبناء مؤسساتها الديمقراطية، على غرار منتدى فالداي الذي أسسه بوتين في عام 2004 ليكون إطارا يجمع فيه كبار رجال السياسة والمهتمين بالشأن الروسي من الداخل والخارج. ورغم تنامي سطوة النظام وهيمنته على كل وسائل الإعلام، ما نال من حرية الكلمة والحركة، فقد كان هناك من وجد في الشبكة الدولية (الإنترنت) ومواقع التواصل الاجتماعي المتنفس والملاذ مثلما فعل الكثيرون في بلدان ربيع الثورات العربية. وفي هذا الشأن شخص قطبا النظام من مواقع متباينة. فبينما واصل ميدفيديف هوايته التي روج لها من خلال الدعوة للتوسع في استخدام التكنولوجيا والإنترنت، كان بوتين يتندر عمليا بهذه الدعوة متفاخرا بأنه لا يستخدم هذه المواقع إلا فيما ندر رغم زعامته لواحدة من أكثر الدول تقدما واستخداما لمواقع الإنترنت إلى جانب سخريته من معارضيه ومناوئيه. ولذا لم يكن غريبا أن تكون هذه المواقع السبيل والخلاص إلى عالم أكثر رحابة واتساعا للقوى التي أعلنت عن نفسها بكل القوة في مظاهرات حاشدة كان آخرها ما تجمع في ديسمبر (كانون الأول) الحالي على مقربة مباشرة من الكرملين تحت شعارات تنادي بـ«روسيا من دون بوتين» لأول مرة منذ جاء الزعيم إلى السلطة مع نهايات عام 1999. وبغض النظر عن تباين مواقف رموز السلطة من زعماء هذه الحركات الاحتجاجية فإن الشواهد تقول بـ«تحول نوعي يكشف عن بوادر ظهور القوى التي صاروا يحسبون حسابها بوصفها القوة المحركة للأقلية المبدعة في نفس الوقت الذي طالما كانوا يتحدثون فيه وخلال الأعوام العشرة الأخيرة عن الأغلبية البوتينية التي تحدد استقرار المنظومة ورسوخ النظام»، على حد قول فلاديسلاف سوركوف، كاردينال الكرملين الذي كان محسوبا على بوتين قبل أن يكشف عن ابتعاده عنه بعدما اتخذ الأخير قراره حول تعيين صديقه ورفيقه منذ سنوات الدراسة والعمل في الكي جي بي سيرجي إيفانوف رئيسا لديوان الكرملين.

لكن ماذا عن حصاد العام؟ وماذا شهده من متغيرات وتعرجات ثمة من يقول إنها تحدد بدرجة كبيرة ملامح العام الجديد؟

كان المؤتمر السنوي للحزب الحاكم الذي كشف عن تراجع ميدفيديف عن حلم الاستمرار لفترة ولاية ثانية في الكرملين وإعلان بوتين عن قراره بخوض الانتخابات الرئاسية المرتقبة في إطار ما هو أشبه بـ«الصفقة» التي تقضي بعودته رئيسا للحكومة في حال فوز بوتين في هذه الانتخابات إيذانا باندلاع موجات جديدة من السخط الاجتماعي والرفض الشعبي لمشروع التوريث على طريقة بوتين. وجاءت مظاهر الرفض والاحتجاج مقرونة بتعرية الكثير من مظاهر الركود في المجتمع الروسي وإدانة سلبيات النظام ومنها عجزه عن توفير الأمن والاستقرار في منطقة شمال القوقاز وانتشار حوادث سقوط الطائرات والصواريخ والأقمار الصناعية وهو ما لم تشهده روسيا طوال العصور الماضية. كما واكب ذلك ظهور بوادر تأثرها بأصداء ربيع الثورات العربية وارتباك سياسات موسكو الخارجية تجاه هذه الثورات وهو ما تجسد في ردود فعل الكرملين تجاه تعرجات الثورات في كل من ليبيا وسوريا وقبلهما مصر وتونس. أما عن متغيرات أوضاع الداخل سلبا وإيجابا فقد أوجزها ميدفيديف في خطابه السنوي إلى الأمة، والذي اختتم به نشاطه هذا العام وأعلن فيه سلسلة من الإجراءات التي قال إنها تستهدف إصلاح النظام السياسي وتجاوز ما يصادف البلاد من عثرات على طريق التنمية الاقتصادية والتطور السياسي. وكان ميدفيديف استهل هذا الخطاب باستعراض ما تحقق من إنجازات ومنها تجاوز تبعات الأزمة الاقتصادية العالمية في عام 2008 وتحقيق نسبة نمو تقدر بأربعة في المائة مقابل أقل نسبة تضخم في تاريخ البلاد بلغت 6 - 7 في المائة مما ساهم في ارتفاع دخول المواطنين ومعاشاتهم التقاعدية. وأضاف ميدفيديف اقتراحاته حول إدخال التعديلات على النظام السياسي ومنها العودة إلى نظام انتخاب المحافظين وتبسيط إجراءات تشكيل الأحزاب السياسية والتخفيف من قيود المركزية الفيدرالية. وكان ميدفيديف اضطر إلى تغيير ما أعده من نقاط رئيسية في خطابه السنوي على ضوء نتائج الانتخابات البرلمانية الأخيرة، والتي كشفت عن تراجع الحزب الحاكم وانتشار الميول المعارضة للسلطة وخروج المظاهرات الجماهيرية إلى شوارع موسكو وكبريات المدن الروسية احتجاجا على نتائج هذه الانتخابات وما شابها من تزوير صارخ. ومن اللافت بهذا الصدد أن ميدفيديف أعلن صراحة عن التراجع عما سبق وأعلنه بوتين من إصلاحات سياسية في ختام ولايته الأولى في عام 2004 ومنها إلغاء الانتخاب المباشر للمحافظين وقيادات الأقاليم، وهو ما كان أشار إلى احتمالاته فلاديمير بوتين رئيس الحكومة الروسية في حديثه التلفزيوني المباشر مع مواطنيه. كما طرح ميدفيديف تبسيط نظام إعلان تشكيل الأحزاب السياسية والتراجع عن قيود الترشيح للكثير من المناصب القيادية ومنها رئاسة الدولة وعضوية المجالس النيابية الإقليمية والفيدرالية إلى جانب العودة إلى النظام المختلط لانتخاب مجلس الدوما بما يجمع بين النظام الفردي لكل من الدوائر الانتخابية إلى جانب القوائم الحزبية. وكان ميدفيديف سبق ورفض في مؤتمره الصحافي الذي عقده في مايو (أيار) الماضي فكرة العودة إلى الانتخاب المباشر للمحافظين، مشيرا إلى أن ذلك قد يكون ممكنا بعد 10 - 15 عاما في حال توفر المقدمات اللازمة على حد قوله آنذاك. وفيما كان استهل فترة ولايته في عام 2008 بإعلان أولوية مكافحة الفساد عاد ميدفيديف في خطابه السنوي ليؤكد أن هذه المشكلة تظل بعيدة عن الحل فيما طرح سلسلة من الإجراءات الرامية إلى مكافحتها ومنها الرقابة على دخول كبار رجال الدولة وإعداد القاعدة التشريعية المناسبة. وكان ميدفيديف سبق وأعرب عن ثقته بأن بناء الديمقراطية يجب ألا يكون بقرار فوقي تسلطي من جانب الكرملين أو الحكومة انطلاقا من أن بناء الديمقراطية مسؤولية مشتركة لا بد أن تتحملها كل القوى السياسية في البلاد. وقال بضرورة ألا تقتصر هذه العملية بما في ذلك عملية التحديث وإشاعة الديمقراطية على مؤسسات الدولة وحدها وأهمية مشاركة المواطنين، مما اعتبره الكثيرون دعوة مباشرة إلى التحرك السياسي المتزن في إطار المؤسسات الدستورية. ولم يخش ميدفيديف تأويل ما يقول حين أشار إلى أن «القدرة على إجراء عملية التحديث تتوقف على المواطنين الأحرار، فالإنسان الخائف من الدولة وأجهزة الأمن والمنافسين لن يقدر على المساهمة في عملية التحديث»، على حد تعبيره.

وكان ميدفيديف صاغ ما يمكن تسميته بمعايير دولة القرن الحادي والعشرين لتحديث الاقتصاد والنظام السياسي في التجسيد القانوني للقيم والمبادئ الإنسانية، وقدرة الدولة على ضمان مستوى عال للنمو في قطاع الابتكارات، إلى جانب قدرتها على حماية مواطنيها من عواقب الجريمة المنظمة والفساد والإرهاب، وكذلك المستوى العالي للثقافة والتعليم ووسائل الاتصال. وعلى صعيد السياسة الخارجية، أكد ميدفيديف استعداد موسكو لمواصلة الحوار بشأن الدرع الصاروخية الأوروبية، مشيرا إلى أن «الجانب الروسي يأمل في تحرك مقابل من جهة الغرب»، معربا عن «استعداد موسكو للحوار البناء والعمل الموضوعي حول الدفاع المضاد للصواريخ إذا تعلموا الاستماع إلينا»، على حد قوله. واستطرد قائلا «إننا نأمل في التوصل إلى حل مقبول للجميع ومواصلة العمل على وضع معاهدة أوروبية جديدة للأمن»، فيما أضاف بقوله إن موسكو تأمل في تحرك مقابل من جهة الدول الغربية من أجل التوصل إلى حل في أسرع وقت والحفاظ على جو الثقة بين الأطراف. وقال ميدفيديف بضرورة أن تنطلق روسيا من تطور الوضع الجيوسياسي وضرورة ضمان أمن البلاد والحفاظ على علاقات الشراكة مع الدول الأخرى بمراعاة مصالح المواطنين الروس فيما أعرب عن ارتياحه لما تحقق من مشاريع للتكامل الجمركي والاقتصادي مع بيلاروس وكازاخستان. وحذر ميدفيديف من مغبة التدخل الخارجي في شؤون بلاده مؤكدا أنه «لن يسمح للمتطرفين والمحرضين بجر المجتمع إلى مغامراتهم ولن نسمح بالتدخل الأجنبي بشؤوننا الداخلية»، وإن اعترف بأن البلاد في حاجة إلى الديمقراطية وليس إلى الفوضى، في إشارة غير مباشرة إلى ردود الفعل المحلية والعالمية التي توالت في أعقاب الإعلان عن نتائج انتخابات مجلس الدوما في وقت سابق من هذا الشهر. وفيما اتسمت سياسات موسكو تجاه الكثير من شركائها في العالم الغربي بالتوتر، ولا سيما مع الولايات المتحدة بسبب عدم حل مشكلة الدرع الصاروخية وإصرار واشنطن على نشرها على مقربة مباشرة من الحدود الروسية، كانت موسكو تحقق الكثير من النجاح مع أصدقاء الأمس في الفضاء السوفياتي السابق إلى جانب تقدمها على طريق التنسيق المتبادل مع الصين وبلدان مجموعة بريكس التي تضم أيضا الهند والبرازيل وجنوب أفريقيا. وقد حرص الكرملين في هذا الصدد على إبراز ما تحقق على صعيد الأمن الجماعي مع بلدان هذه المنظومة التي تضم بين جنباتها كل بلدان الفضاء السوفياتي السابق ما عدا جورجيا وبلدان البلطيق إلى جانب تحقيق أعلى معدل للتكامل مع كازاخستان وبيلاروس في توقيت مواكب لحلول الذكرى العشرين لانفراط عقد الاتحاد السوفياتي السابق. وكان الرؤساء الثلاثة ديمتري ميدفيديف ونور سلطان نزاربايف وألكسندر لوكاشينكو وقعوا وثائق تأسيس الفضاء الاقتصادي الموحد الذي يستند إلى التكامل الاقتصادي لهذه البلدان على غرار الاتحاد الأوروبي وبما يسمح بانضمام بلدان جديدة بما يسمح بتحقيق الحلم الذي طالما راود بوتين وتصوره سبيلا إلى ترسيخ مواقعه كزعيم للبلاد.

ورغم أن بوتين سبق ووصف ما يقال حول حلم استعادة الإمبراطورية بـ«التقديرات الساذجة» فإن ما كان أفصح عنه من أفكار يميط اللثام عن توجهات مماثلة ومنها نيته تجاه إنشاء كيان اقتصادي يتمتع مواطنوه بحرية التنقل والعمل والإقامة وبما يتجاوز ما كان يتمتع به مواطنو الاتحاد السوفياتي السابق الذين طالما عانوا من قيود الحركة واختيار مقر العمل والإقامة. وتلك كلها أوراق يشهرها بوتين في أوجه خصومه ممن يقفون مناهضين لمشروعه نحو الفوز بفترة ولاية ثالثة هي الرابعة عمليا بعد ولايتين في الكرملين وثالثة كرئيس للحكومة في البيت الأبيض وهو ما يفتح الباب أمام ولاية رابعة في الكرملين قد تمتد به حتى عام 2024 حسبما يتوقع الكثيرون من المراقبين وما لا يريده خصومه من أنصار الاحتجاجات الجماهيرية الذين أعلنوا عام 2012 عاما لرحيل الزعيم.. فهل تصدق التنبؤات؟