ملك الاستقرار والقرب

محمد أبيض

TT

من المؤكد أن الذكرى الرابعة عشرة لاعتلاء الملك محمد السادس عرش المملكة المغربية، تحتاج إلى قراءة خاصة، ذلك أنها تأتي أولا في سياق سيرورة ملك استمر لقرون متتالية فوق هذه البقعة من العالم العربي والإسلامي، متشبثا بالقيم الروحية السامية للإسلام، ومتطلعا إلى التطور والحضارة والرقي، ومنفتحا على العوالم الأخرى مؤثرا فيها ومتأثرا بها في حدود حماية شخصيته وهويته وانتماءاته المتأصلة.

ثانيا: لأن هذه الذكرى تأتي أيضا في سياق استمرار تفاعل بعض الساحات العربية مع مخلفات الحراك الذي عرفته إثر ما سمي الربيع العربي، والذي أنتج في مجمل البلاد العربية ردود فعل متعقلة أحيانا واستباقية أحيانا أخرى، ولكنه أنتج أيضا ردود فعل متصلبة كما هو الشأن في سوريا الجريحة اليوم.

وهذا السياق أنتج بالنسبة للمغرب تسريعا في وتيرة الإصلاحات السياسية العميقة التي كان قد بدأها منذ مدة، وهو التسريع الذي أنتج قفزة دستورية نوعية، وحكومة باختصاصات واسعة، ومسؤوليات أكبر، علاوة على مؤسسات أوضح اختصاصات وأكثر استقلالية.

والواقع أن كل هذه السياسات، وغيرها من السياسات التي لم نأت على ذكرها، تحتاج من المتتبع للشأن المغرب خصوصا أن يخضعها لقراءة لا تغفل الدور الأساسي الذي تلعبه المؤسسة الملكية، سواء في حمايتها للملة والدين أو في ضمان دوام الدولة واستمرارها، أو في السهر على حسن سير المؤسسات الدستورية أو في صيانة الاختيار الديمقراطي وحماية حرية المواطنين وحقوقهم.

ومن ثم، ظلت مناسبة عيد العرش على الدوام، بمثابة المحطة التي تتوقف عندها كل القوى الحية في البلاد وسائر المواطنين، من أجل تقييم العمل المنجز، والتخطيط لما سيأتي من أدوار.

وشكل الخطاب الملكي بمناسبة عيد العرش دائما منهاجا للسير والعمل، ومخططا وطنيا يشمل جميع مناحي التدبير والتقييم والاستشراف. ولعل هذا هو الدرس البليغ الذي استخلصته الأجيال المتعاقبة من ذكرى عيد العرش ودلالتها التواصلية المشبعة بروح المسؤولية الجماعية، والمسكونة بهاجس الإشراك الذي شكل أحد الأركان الأساسية في أسلوب ملك جلالة الملك محمد السادس.

وبالرجوع إلى حصيلة سنة من العمل الوطني، تجدر الإشارة إلى أن أهم ما ميز هذه السنة سيظل من دون منازع، الدور الكبير ومتعدد الأبعاد الذي لعبه ملك البلاد في مجال الدبلوماسية الملكية، وستظل العلاقات المتينة والمثمرة التي تجمع بين المغرب ودول الخليج العربي على رأس الإنجازات جميعها، إذ أصبحت بحمد الله تأخذ صبغة انسيابية طبيعية، تتحقق بفضلها النتائج الكبيرة بالجهود القليلة.

ويظل إنجاز جلالة الملك بخصوص القضية الوطنية (قضية الصحراء) المحطة الأبرز حينما استطاع بتدخله الموفق لدى الرئيس الأميركي باراك أوباما أن يحل إشكالا كان سيعصف بسنوات طويلة من العلاقات المتجذرة بين المملكة المغربية والولايات المتحدة، فكان لهذا التدخل أن أنهى مسار مشروع كان يهيأ من أجل تحويل اختصاصات مهمة الـ«مينورسو»، والزج بقضية الصحراء المغربية في متاهات، الله وحده يعلم منتهاها، والتي كانت بالتأكيد ستخرج المنطقة إلى وضع من الأزمات والاضطرابات.

يضاف إلى هذا كله، ذلك الحس الإنساني الطبيعي الذي حباه الله للملك محمد السادس والذي يجعل منه أقرب إلى مواطنيه من سائر المتعهدين الآخرين بتدبير الشأن العام. فالقرب كفلسفة وكسلوك يظل هو الروح التي تطبع نموذج الملك عند جلالته.

فلا غرابة إذن، أن يدعو الملك محمد السادس بإلحاح إلى سياسة القرب، وأن يجعل من التنمية البشرية «ورشة ملك»، وأن يسهر على تطبيق الجهوية المتقدمة بمنهج تشاوري قل نظيره، وأن يؤسس للديمقراطية التشاركية، بما يجعل من المواطن في مجتمع الغد، المواطن المؤهل والشريك، والفاعل وبالتالي المواطن المسؤول بكل ما تحمله المسؤولية من معنى.

* الأمين العام لحزب الاتحاد الدستوري المعارض