الحركة الوطنية دخلت المغرب من باب عيد العرش

د. عبد الهادي التازي يكتب لـ «الشرق الأوسط» عن مجايلته ثلاثة ملوك

الملك الراحل الحسن الثاني وولي عهده الأمير سيدي محمد
TT

* عرفنا الوطنية ببلاد المغرب عن طريق الاحتفال بعيد العرش عندما فرضنا يوم 18 نوفمبر (تشرين الثاني) كيوم للسيادة الوطنية، والكرامة القومية... وكنا نتطلع فيه إلى الخطاب الذي يتوجه به الملك للشعب، يتحدث فيه عن المنجزات وعن التطلعات. خارطة طريق كما نقول بلغة اليوم.

كان في صدر ما أثار انتباهي وقد جايلت ثلاثة ملوك، إن لم أقل أربعة، قضية النبوغ المبكر الذي يلاحظ على الذين يؤهلون لولاية العهد عبر العصور.

كنت أتتبع ظروف انتقال الحكم من والد إلى ولد لأرضي استطلاعي عن فترة هامة في حياة الأمة.

قرأنا عن تاريخ الأفارقة الذين تعاقبوا على الحكم بالمغرب وخاصة منذ أيام القائد الأمازيغي ماسينيسا دفين قسنطينة بالجزائر، أن معظم القادة الذين أخذوا مقاليد الأمر – إن لم أقل جميعهم - ظهر نبوغهم في وقت مبكر من العمر، وكانوا مضرب المثل في سيرتهم وفي سلوكهم وتعاملهم مع محيطهم.

عرفنا من خلال الحديث عن طريقة نشأتهم وتربيتهم طريقة اختصار الطريق أمامهم للوصول إلى منصة الحكم، وتبين أنهم كانوا محل عناية من أوليائهم ومربيهم، وأنهم كانوا فعلا يختصرون الطريق بوسائلهم الخاصة حتى يبلغوا مراكز القيادة.

هكذا كان الأمر في معظم الذين مروا بساحتنا... وقد كان الإمام إدريس الثاني أصدق أمثولة رواها لنا التاريخ الذي تحدث في كلمات قليلة عن دور التربية الحسنة في تكوين الرجال والقادة.

وكان المؤرخ ابن خلدون أبرز من قدم لنا هذا الإدريس الثاني الذي استحق مبايعة البربر (الأمازيغ) بجامع وليلي عام 188 (804م) وهو ابن إحدى عشرة سنة.

ظلت هذه المعلومة تنتصب أمام عيني وأنا – كما قلت – أقرأ عن ماسينيسا، عن يوسف بن تاشفين، وعبد المؤمن (الموحدي)، وأنا أجايل تربية الأمير الحسن (الثاني) من لدن والده الملك محمد الخامس.

كان الأمير الحسن فلتة من الفلتات في ذكائه، وفي تحصيله وفي منافسة رفاقه ومع أساتذته، وفي طموحه كذلك وتطلعه إلى ارتياد المعالي.

كان والده يستعين على تربيته بإحضاره أهم المجالس، يسمعه ما لا يمكن أن يسمعه عامة الناس! يترك التعليق على انطباعات الأمير إلى ما بعد تلك المجالس.

وبطبيعة الحال كان لا يتسامح معه إذا ما اقتضى الحال متابعة أو ملاحظة، وفي هذا الصدد كان يبلغنا عن صرامة الوالد ما قد لا يصدقه أحد. لكن الأمر كان على ما أقول ويقوله كل الذين حظوا بالقرب منهما، كان محمد الخامس على نحو ما قال أبو تمام:

فقسا لتزدجروا ومن يك حازما فليقس أحيانا وحينا يرحم وجدت نفسي ذات مساء بين يدي الملك محمد الخامس يعهد إلي بتخصيص حصة من حصص التشريع الإسلامي لابنه... كنت محظوظا بهذا التشريف الذي كان مصحوبا أيضا بتكليف يقتضي مني أداء مهمتي بصدق وأمانة. ليس هذا فحسب ولكن الملك كان يفاجئنا بالزيارة ويسأل عن مدى الانضباط. ما يعني أن الملك كان دائما وراء الأمير.

وعلى نحو ما رويته عن الملك محمد الخامس حصل بالنسبة لتعليم الأمير سيدي محمد الذي سيصبح الملك محمد السادس.

كنت، ولا أخفي ذلك، أريد أن أعرف عن اختصار الطريق أمام الأمراء لتولي مهامهم على نحو ما قرأنا عن المتقدمين من نبغاء الحاكمين وعباقرة القادة.

حضرت ذات يوم 10 رمضان 1400 الموافق 23 يوليو (تموز) 1980 استقبال الوفد المرافق للأمير سيدي محمد، في أول مهمة دبلوماسية له في القارة الأفريقية حول الوحدة الترابية للمملكة المغربية.

لقد التفت جلالة الملك الحسن الثاني يمينا إلى ولده ليزوده بتعليماته... كنت أشعر بتأثر بالغ وأنا أختلس النظرات في كل من الوالد والولد... إن الملك يتوجه إلى ولي عهده في عبارات دالة عما يريد منه، وكان في نفس الوقت يحنو على فلذة كبده الذي يحمله هذه الأعباء الثقيلة منذ هذا العمر المبكر!! لقد كان يعرض عليه الأمانة ولكنه يشفق في ذات الوقت أن يحملها إياه فهو يقوي منه هذا الجانب ويشد فيه الأزر.

لقد توجه «سيدنا» (الملك الحسن الثاني) إلى «سميت سيدي» (ولي العهد) بهذه الكلمات:

«ستجد نفسك أمام رؤساء دول تربطنا بها شتى الروابط فعليك أن تبلغ الرسالة كما أمرت، وعليك أن تختار من المواقف ما يليق. تكلم حيث ينبغي أن تتكلم، واسمع حيث ينبغي لك أن تسمع، إنك تنوب عن ملك لشعب كالمغرب، فلتسر على ما ينتظر منك. لا تسكن غرفتك حتى تطمئن على سكنى مرافقيك، ولا تتناول لك طعاما حتى تتأكد من أن رفاقك تناولوا طعامهم، هكذا كان يوصيني والدي وهكذا أوصيك أنا..».

لقد عهد الملك الحسن الثاني إلى هذا الأمير الصغير أن يقوم بمهمات خارج الوطن فلقد سبق أن مثل والده في أبريل (نيسان) 1974 في القداس المقام للرئيس الفرنسي الراحل جورج بومبيدو، وحضر إلى جانب «كبار هذا العالم» حيث كان محل اهتمام أجهزة الإعلام الدولية، وشارك قبل هذا في تشييع جنازة الزعيم الوطني الكبير علال الفاسي في مارس (آذار) 1974. وحضر بعد هذا، التجمع العالمي الكشفي (صيف 1974) الذي جرى في النورفيج (النرويج) إلى جانب الملك أولاف الخامس. وناب عن والده (مارس 1975) في تشييع جنازة الملك فيصل رحمه الله، عاهل المملكة العربية السعودية. وترأس يوم المغرب في المعرض الدولي في باريس (أبريل 1975) حيث أجاب عن أسئلة التلفزيون الفرنسي. وقدم إلى دولة الكويت برسم تقديم التعازي في أعقاب وفاة الشيخ صباح السالم الصباح يناير (كانون الثاني) 1978 إلى الشيخ جابر الأحمد الصباح أمير الدولة، وصاحب والده في فبراير (شباط) 1980 إلى الديار السعودية حيث أدى صحبته مناسك العمرة لأول مرة... ثم حضر نيابة عن والده حفلات تتويج الملكة بياتريس، ملكة الأراضي المنخفضة (هولندا)... هذا إلى نيابته عن والده داخل الوطن في عدد من المظاهرات ذات الصبغة السياسية والعسكرية والفنية والرياضية والثقافية. ولكنه هذه المرة ينوب عنه لأول مرة في أمر سياسي له صبغة دولية.

كنت سعيدا ذات مرة أن أستوعب أكثر اختصار الطريق في التثقيف والتخليق، حينما دعيت لحضور مجلس ملكي في قصر الصخيرات بضواحي الرباط، وحضر ولي العهد الأمير سيدي محمد، على رأس عدد من رجال الدولة ورجال الفكر وطلب إلي جلالة الملك الحسن الثاني أن أتحدث عن انطباعاتي عن العراق، مذكرا بأنني عملت في بلاد الرافدين مرتين اثنتين.

طفقت أتحدث، ولا أكتمكم أنني لم أكن أعرف أسباب هذا السؤال بالذات. ما عرفت السبب إلا بعد أن تقدمت للسلام على الملك لتوديعه فقال لي: هيئ نفسك، بكرة ستصحب سميت سيدي (ولي العهد) لبغداد! علمت وقتها بواعث الحديث عن العراق أمام الأمير الفتى. وكانت التعليقات على هوامش المحاضرة على متن الطائرة.تلك كانت طريقة الحصول على السند العالي من غير تبذير الوقت. وأشعر بالمتعة اليوم وأنا أشهد أمامي – كما يشهد الآخرون – كيف أن الأمير الطفل مولاي الحسن (ولي العهد) يتلقى المعلومات ويحرص على أداء واجباته. أرى في ذلك تنبيها لكل الآباء على ضرورة توجيه أبنائهم على نحو يضمنون به وعي ويقظة أبنائهم.

* د. عبد الهادي التازي عضو مؤسس لأكاديمية المملكة المغربية وسفير سابق

* عضو مجمع اللغة العربية في مصر