تجديد المشاعر في دولة التميّز والاستقرار والرخاء

خليل بن عبد الله الخليل

TT

مضى على السعوديين 74 عاما لم يحتفلوا في داخل البلاد باليوم الوطني «رسميا»، الذي يحل في 23 سبتمبر (أيلول) من كل عام، منذ إعلان اسم المملكة العربية السعودية عام 1932م، وذلك يعود لأسباب فرضتها مفاهيم وثقافة المرحلة الماضية. مع ذلك، يدرك السعوديون بعمق قيمة الوحدة الوطنية وقيمة الدولة التي بناها الآباء بمحض إرادتهم.

انضوى الشجعان من المدن والقرى والبوادي، وانبعثوا من السهول والوديان، ونزلوا من الجبال والهضاب لمناصرة مبادرة الإمام والزعيم الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن آل فيصل، عند عودته التاريخية الميمونة للرياض بداية عام 1902 من الكويت.

الشجعان كانوا تحت لواء القائد المظفر جنودا متطوعين مخلصين لأكثر من ثلاثة عقود، إلى أن توحد الكيان ورفرفت رايته الخضراء منتصرة للحق في دولة مستقرة منيعة وفريدة، ما زالت تتمكن وتتطور، وتحقق الإنجازات تلو الإنجازات.

ها هو «اليوم الوطني السعودي» الـ«83» يحل ويحتفي به السعوديون شعبيا ورسميا داخل البلاد، والسعودية تعيش في استقرار ورخاء، مع ما يمر به العالم العربي, كما يحدث في سوريا ومصر وتونس واليمن وليبيا ولبنان، من ضنك وتمزق وحروب وقلاقل وثورات أفقدت «الدولة الوطنية العربية» اعتبارها واستقلاليتها.. مما فرض على كثير من الشعوب العربية - مع الأسف والحزن - حمل السلاح أو الهجرة للشرق أو الغرب.

السعودية دولة متميزة في التكوين التاريخي، وفي التطوير الإداري، وفي التعاطي مع الأزمات الداخلية والخارجية.

ذلك التميز يعود في أساسه لعدة عوامل، لعل من أوضحها الاستقلالية في صنع القرارات المصيرية والاعتماد على مصادر القوة الذاتية، مع الالتزام الكامل بالوضوح والمصداقية مع الساسة والدول في السلم والحرب.

نلمح التميز في التكوين، عندما نعرف أن من غرس أصل الدوحة السعودية هم السعوديون عام 1746، عندما التقى الإمام محمد بن سعود جد الأسرة السعودية الحاكمة والشيخ المصلح المجدد محمد بن عبد الوهاب في الدرعية، فتعاهدا على نصرة الدين وجمع الكلمة على الحق والعدل. منذ ذلك التاريخ والسعوديون يسقون تلك الشجرة بعقولهم ودمائهم ويحمونها بسواعدهم وجيوشهم. سقطت دولة الدرعية عام 1818، ثم عادت الدولة السعودية الثانية للظهور في الرياض على أيدي أحفاد المؤسسين ورجالهم بقيادة الإمام تركي بن عبد الله بن محمد بن سعود عام 1821. سقطت مرة أخرى الدولة الثانية عام 1891.. بعد تاريخ حافل بالبطولات والفتوحات والتعمير. ثم عادت الدولة السعودية الثالثة للحياة والصعود والقوة عام 1902.

لم تتكون الدولة السعودية الحديثة نتيجة ثورة قادها الكولونيل البريطاني لورنس، ولم يُنشئ جيشها أمثال الفريق غلوب باشا، ولم تكن ولادتها نتيجة ثورة عسكرية، كما كانت ثورة 23 يوليو (تموز) في مصر عام 1952، أو الثورة العسكرية بقيادة حسني الزعيم في سوريا عام 1947، أو الحركة التصحيحية المزعومة في سوريا عام 1970، أو عبر الانقلابات المتكررة، أو عبر توافقات زعماء الطوائف وتجار الحروب، كما الحال في لبنان منذ أمد، أو نتيجة قرارات من هيئة الأمم المتحدة، وإنما كانت دولة انبعاث للروح العربية، وتجديد للدين القويم، وإحياء لما اندرس من شريعة رب العالمين. إنها الدولة التي صنعها قادتها الأفذاذ مع رجالهم الأخيار وجيوشهم الموحدة تحت لهيب الشمس الحارة وبرد الشتاء القارس.. مع قلة في السلاح والزاد.

مسيرة الوحدة والتوحيد السعودية تتضمن أنصع صور البطولة والصدق والوفاء، وهي من أعظم المبادرات التاريخية التي صنعت دولة عظيمة بإمكانات محلية وإرادة حديدية تستحق الدراسة والفخر. ولعل من المفيد نقل عبارات من رسالة من المؤسس البطل عبد العزيز للعالم والكاتب اللبناني المعروف (أمين الريحاني)، الذي أصبح فيما بعد من أعز أصدقائه، ردا على إحدى رسائله التي أشار عليه فيها بالتصالح مع بعض المعادين له، وذلك عام 1924.. «إنك تعرفنا يا أمين وتعرف مقدار ثقتنا بالله، كما تعرف حسن بلاء جنودنا. إن عزائمنا لا تفلها إلا إرادة الله، فما معنى تخويفنا بجموع علي وجيوشه؟»، ويقصد بذلك الشريف علي بن الحسين، وذلك أثناء التوجه لضم الحجاز.

هذا هو عبد العزيز الذي في الحقيقة لم يبنِ دولة لشعبه السعودي فقط، وإنما بنى دولة للعرب والمسلمين من خلال صمود «النموذج السعودي» أمام التحديات والتقلبات، ومن خلال عمارة الحرمين الشريفين والحفاظ على أمنها وأمن الحجاج والزوار المعتمرين بعد عقود من الضياع والخوف.

ترعرعت السعودية في قلب صحراء شحيحة الأمطار، عديمة الأنهار، ومرت عليها مجاعات كثيرة قبل اكتشاف النفط وتدفق آبار البترول بالذهب الأسود، وكانت إلى السبعينات من القرن الماضي تعيش حياة متواضعة لا يدرك كثير من الكتّاب العرب حجم المآسي الاقتصادية والمجاعات والأمراض والأوبئة التي فتكت بالناس، وإنما يرون «سعودية الحاضر» وشتان بين الماضي البعيد الشاق والحاضر الزاهر السعيد.

كان الماضي متسما بالشح والفقر والأمراض والجهل والتشدد والعزلة، ولم يكن لدى السعوديين في الماضي سوى الاعتزاز بعقيدتهم ودولتهم وقيادتهم، وسمو أخلاقهم.. صابرين على اللأواء وشظف العيش، بينما كانت البلدان العربية، مثل العراق وسوريا وفلسطين ولبنان ومصر، محط الأنظار للهجرة والعيش الرغيد، عاش السعوديون المجاعات والأمراض في أسوأ حقائقها ونتائجها، وتلك الأيام التي عانوا فيها ما عانوا كانوا مجاهدين تحت لواء المؤسس الملك عبد العزيز (رحمه الله).

من أسوأ المجاعات التي مرت كانت عام 1909، إذ سمي ذلك العام «عام المجاعة»، ومن أسوأ الأمراض المعدية المنتشرة التي مرت كان عام 1918م، انتشر مرض الطاعون في القرى، وفقدت أوساط نجد الآلاف من البشر، وهذا العام أصبح يُؤرخ به، ويطلق عليه «سنة الرحمة».

لم يكن في البلاد أطباء ولا وسائل نقل ولا مدارس، ولم تتقدم دول أو منظمات للإغاثة والمساعدة. كانت المجاعات شبيهة بالمجاعات التي شاهدناها في إثيوبيا والقرن الأفريقي.. ومع ذلك، سعت قيادة الدولة الوليدة لبث روح الحياة والمقاومة والاستعداد للمستقبل الذي أصبح (ولله الحمد) حاضر عز واستقرار وأمن وازدهار. كانت موارد الدولة المالية محدودة، ومعتمدة على الزراعة والزكاة ومواسم الحج بعد ضمّ الحجاز بقوة العقيدة والعزيمة والجيوش للدولة الناشئة عام 1924.

أدارت القيادة السياسية الدولة إدارة بناء وتطوير، من خلال الموارد المحدودة، إلى أن وهب الله البلاد عوائد البترول المالية السخية التي غيرت مجرى الحياة، ومنحت الدولة السعودية الدور القيادي والسيادي والريادي في الداخل، وعلى مستوى العالم.

كان التطور في السعودية منطلقا من الأسس التي ارتكزت عليها الدولة. لم يحصل انفصام بين الحياة والدين، ولم يتم توظيف الموارد المالية في الدخول في صدامات سياسية وعسكرية خاسرة، كما حدث لدول عربية أخرى.

الإدارة في الدولة السعودية ارتبطت بالدين وبالتاريخ وبالمثل العليا، واتجهت للتحديث من دون التفريط في المكتسبات، لذلك نشرت الحكومة التعليم ولم يكن لديها أثناء الوحدة سوى خمس مدارس حديثة في مكة المكرمة وفي جدة, وليس لديها كليات أو جامعات، وكانت نسبة الأمية تقارب 98 في المائة.

في الحاضر لدى السعودية 333 جامعة وكلية ومعهد, منها 25 جامعة حكومية و9 جامعات أهلية، ولديها قرابة 80 ألف مؤسسة تعليمية من مدارس ومعاهد وكليات وجامعات, إضافة إلى قرابة 200 ألف سعودي مبتعث للدراسة خارج البلاد، على حساب الحكومة.

صنع التعليم للدولة الكوادر السعودية المدربة والتقدم الاجتماعي المنشود، مما أتاح للمواطنين العيش الرغيد والمشاركة الفعالة في التنمية. وكان للمرأة (على الرغم من أن موضوعها ما زال في حاجة إلى قرارات سيادية، كما كانت قرارات المؤسس) دور متنامٍ في جميع مجالات الحياة. لقد نالت المرأة أخيرا حظها في الابتعاث، حيث إن نسبة المبتعثات تصل إلى قرابة 30 في المائة من مجموع المبتعثين، ودخلت 30 سيدة لمجلس الشورى في دورته السادسة من مجموع 150 عضوا بالمجلس، ولدى الخارجية السعودية قرابة 200 سعودية دبلوماسية، وهكذا يتنامى دور المرأة في خطوات بطيئة، لكنها متتابعة ومدروسة، والمرأة السعودية اليوم تحظى باهتمام القيادة وقناعة المجتمع.

السعودية محظوظة في مجالات الاقتصاد لما لعائدات البترول من فوائض مالية فلكية تصل إلى تريليونين من الريالات، وتملك المصارف السعودية حسب آخر الإحصائيات ما يقرب من 1.7 تريليون ريال مع محدودية في الديون على الدولة، مما مكّن السعودية من الدخول في نادي الدول الـ20 الأولى اقتصاديا في العالم، ولقد تميز الاقتصاد السعودي بالاستقرار والسياسات النفطية المتزنة، مما منح الدولة مكانة وموثوقية لدى الدول الكبرى، كما أتاح لها أن تكون «دولة محورية» في صناعة السياسات الدولية.. على الرغم من عدم هرولة السياسة السعودية للعب أدوار مهرجانية، كما تحب بعض الدول مع محدودية إمكاناتها. وقد نجحت السياسة السعودية في أن تسير في هدوء وعقلانية.

مما سبق عرضه يمكن القول بثقة إن الدولة السعودية في الزمن الحاضر تعيش عهدا من أفضل عهودها، والمستقبل واعد بالمزيد، والدور السعودي في صعود وتوسع.. على الرغم مما يمر به العالمان العربي والإسلامي من ثورات وحروب.

يحق لنا القول إن احتفاء السعوديين باليوم الوطني في حماسة وتفاعل أمر مشروع وطبيعي. إن الاحتفاء باليوم الوطني السعودي مناسبة عزيزة لتجديد المشاعر وللاعتزاز بالإنجازات الماضية والحاضرة. وكل عام والوطن والسعوديون بألف خير، وأمنياتنا الصادقة للشعوب العربية بالعزة والأمان.

* كاتب وعضو سابق بمجلس الشورى السعودي