نظام «الاستثمار الأجنبي».. رحلة الأطوار الأربعة في السعودية

شهدت مسيرة تطور من اقتصاد مغلق وغير متنوع إلى بيئة استثمار مفتوحة ومرنة

جانب من مدينة الجبيل
TT

شكلت مسيرة تطور نظام الاستثمار الأجنبي في السعودية رحلة مثيرة من التطور وسط تطلع السعودية لاستيعاب مجالات الاقتصاد الحديث بما يحويه من إمكانات وقدرات وتصنيع وتنمية مستفيدة من تجارب الأمم ومستجدات خبراتهم.

ومرت السعودية بأربعة أطوار من أنظمة الاستثمار الأجنبي، قبل أن تقّر الدولة نظاما متطورا قبل 14 عاما، لتكشف تلك المسيرة أن السعودية شهدت نقلة نوعية حيث بدأت باقتصاد مغلق غير متنوع ثم تحولت إلى اقتصاد مفتوح متنوع ومرن.

وساهمت تلك الأنظمة مع تطوراتها في تدفق رؤوس الأموال الأجنبية إلى المملكة، جعلت السعودية في المرتبة الـ22 عالميا من حيث سهولة أداء الأعمال بحسب تقرير التنافسية الصادر عن المنتدى الاقتصادي العالمي.

ويرصد هذا التقرير تطور الأنظمة المتعلقة بالاستثمار الأجنبي في السعودية:

أربعة أنظمة للاستثمار النظام الأول للاستثمار الأجنبي في السعودية صدر في منتصف الخمسينات ميلادية في عام 1957 (1376هـ)، ولم يكن جاذبا لرؤوس الأموال الأجنبية في حينه، ليصدر نظام آخر بعد سبع سنوات في عام 1963 (1383هـ) يتميز بحوافر تشجيعية للمستثمر الأجنبي، مشترطا ألا تقل نسبة رأس المال السعودي في إجمالي المشروع عن 25 في المائة، وهو ما اعتبر قفزة كبيرة في القوانين المنظمة لعمل الاستثمار الأجنبي في السعودية آنذاك.

إلا أن مسيرة التطوير والنهضة في المملكة وتحديات المرحلة فرضت إصدار نظام ثالث للاستثمار الأجنبي تحت مظلة وزارة الصناعة والكهرباء في عام 1978 (1399هـ) كان أكثر انفتاحا وتنظيما، واستمر العمل به نحو 22 عاما، وصولا إلى نظام الاستثمار الحالي، والذي اقترن بقرار تأسيس الهيئة العامة للاستثمار.

والنظام الجديد الذي صدر في عام 2000 اشتمل على عدد من المحفزات النوعية للاستثمار، فقد نص في مادته الرابعة على أن منشآت الاستثمار الأجنبي تتمتع بالمزايا والحوافز والضمانات التي تتمتع بها المنشآت الوطنية، وفقا للأنظمة المعمول بها في المملكة، ومنها حرية تدفق الأموال من المملكة وإليها واحترام الملكية الخاصة، بما في ذلك عدم جواز مصادرة الاستثمارات إلا بحكم قضائي أو نزع ملكيتها إلا للمصلحة العامة مقابل تعويض عادل، والحصول على القروض الميسرة والإعفاءات الجمركية المتاحة.

بالإضافة إلى ذلك، يحق لهذه المنشآت تملك العقارات اللازمة لمزاولة النشاط المرخص أو لسكن العاملين بها وفقا لأحكام نظام تملك غير السعوديين للعقار، كما يحق لها استقدام وكفالة المستثمر الأجنبي وموظفيه غير السعوديين. كما أن للاستثمار في المملكة مزايا وحوافز نوعية أخرى جعلت من المملكة بيئة جاذبة للاستثمار، أبرز هذه المزايا انخفاض أسعار الطاقة وتوفرها، واستقرار الريال السعودي، والهامش الربحي الكبير للاستثمارات، ونسبة المخاطرة المنخفضة، وموقع المملكة الجغرافي، والامتيازات الضريبية، وتوفر الأيدي العاملة، وانخفاض المصاريف التشغيلية، وسهولة الإجراءات وغيرها.

ويمكن القول إن المملكة خلال المراحل الأربعة لنظام الاستثمار الأجنبي بدأت باقتصاد مغلق غير متنوع، ثم تحولت إلى اقتصاد مفتوح متنوع ومرن، ويفسر هذا إيمان الدولة بأهمية الاستثمار وفوائده، وهو حل لمشكلات أيضا غير مباشرة، مثل ارتفاع بند الرواتب والأجور في الميزانية، كون الحكومة هي صاحب العمل الرئيس للمواطنين بنسبة تقارب 90 في المائة، مما يزيد من أعباء التضخم، لذا؛ فالحل يكمن في خلق وظائف جديدة عبر جلب الاستثمارات، وزيادة إيرادات الدولة غير النفطية، وكذلك تحفيز المستثمر المحلي، وتسهيل الإجراءات لممارسة العمل الحر سواءً كان على مستوى المشاريع الكبرى أو المشاريع الصغيرة، وإنشاء الحاضنات المتخصصة.

* الأرقام تتحدث

* ككل دول العالم تسعى المملكة لجذب الاستثمار الأجنبي إليها، لأن ما يميز هذا النوع من الاستثمار نقله للتقنية والتكنولوجيا الحديثة إلى داخل البلاد، فضلا عن توفير فرص عمل للشباب السعودي وإكسابهم المهارات والخبرات التي تؤهلهم لفتح استثماراتهم الخاصة، وإدخال مفاهيم إدارية حديثة، ناهيك عن المزايا الأخرى كتنويع القاعدة الإنتاجية وانعكاسه على خزانة الدولة والاقتصاد الوطني، ودفع عجلة الحراك الاقتصادي، والأرقام التي تخرج بها الهيئات والمؤسسات الحكومية تعكس مدى استفادة اقتصاد المملكة من هذه الاستثمارات، ففي تقرير للهيئة العامة للاستثمار - الجهة المخولة بتنظيم الاستثمار الأجنبي - يظهر أن المملكة تحتضن 11 ألف شركة أجنبية، وأن التدفقات الاستثمارية الأجنبية تجاوزت مائتي مليار دولار سنويا، وفي تقارير اقتصادية أخرى تضاعف حجم الاقتصاد السعودي أربع مرات خلال العشر سنوات الماضية، ليصبح في المركز الأول بين دول المنطقة، وفي المركز التاسع عشر عالميا.

وتقول الأرقام أيضا إن المملكة استحوذت على 38 في المائة من الاستثمارات الأجنبية المتجهة إلى دول غرب آسيا خلال الخمس سنوات الماضية، كما سجل الاقتصاد السعودي نموا بلغت نسبته 6.8 في المائة. كما بلغ حجم هذا الاقتصاد 2.7 تريليون ريال في عام 1433هـ، وهو ما يدل على تكامل الاستثمارات الأجنبية مع النمو الاقتصادي والنهضة الشاملة التي تشهدها الدولة.

أما عالميا، فتحتل المملكة المرتبة الـ23 ضمن الاقتصادات الخمسة والعشرين الأكبر في العالم، ما يعني أن الاستثمار المحلي فاعل وحاضر بقوة في المشهد الاقتصادي، وربما عزز ذلك ما ينعم به المستثمرون السعوديون من مزايا تمويلية، كبرامج الإقراض من الصناديق التمويلية الصناعية والزراعية والعقارية وصندوق المئوية والبنوك المحلية، وبرامج تمويل المنشآت الصغيرة والمتوسطة.

يضاف لذلك وجود أراض ببنية تحتية وخدمات لوجستية مهيأة للاستثمار في المدن الاقتصادية وعشرات المدن الصناعية بإيجارات تحفيزية سنوية تبدأ من ريال واحد للمتر المربع، والحصول على الخدمات بأسعار مخفضة (مياه، كهرباء، غاز، ديزل، بنزين)، وكذلك الإعفاء الجمركي وينقسم إلى ثلاثة أنواع رئيسة تشمل مواد أولية، ومكائن وآلات ومعدات، وقطع غيار المكائن والمعدات والآلات، وفق نظام لحماية وتشجيع الصناعات الوطنية.

القيمة المضافة والعمالة الوطنية يتوفر الاستثمار في المملكة على الكثير من عناصر القيمة المضافة التي تجعل من هذا الاستثمار أكثر نجاحا وربحية، والتي تشكل بحد ذاتها مزايا رئيسة تضاف إلى مزايا الاستثمار في المملكة.

فعلى صعيد توفر المواد الخام اللازمة للصناعات المستهدفة، تأتي الصناعات البتروكيماوية كأكبر المستفيدين من وضع المملكة كأكبر بلد منتج ومصدر للبترول الذي يصل إلى المستهلك بأسعار تشجيعية تفيد هذا القطاع الصناعي الأكبر في المملكة بشكل خاص، إلى جانب توفر الغاز الطبيعي أو المصاحب كمصدر إضافي للطاقة النظيفة، إلى جانب كونه كمادة لقيم للكثير من الصناعات. كما أن من الممكن القول إن السوق السعودية التيتمتاز بارتفاع القوة الشرائية فيها تعد من عناصر القيمة المضافة للاستثمار في المملكة.

غير أن الأكثر أهمية مما سبق، هو الجهود الحثيثة التي تبذل حاليا لتوفير كوادر وطنية قادرة على المشاركة بقوة في قطاع الإنتاج الصناعي الذي توفره الاستثمارات الجديدة. فالأيدي العاملة الوطنية تعد من أهم عناصر القيمة المضافة في أي اقتصاد.

إن تطور البحث العلمي الذي تجسده جامعة الملك عبد الله للعلوم والتقنية (كاوست)، وانتشار الجامعات في مختلف مناطق المملكة، سيسهم بلا شك في تطوير صناعات جديدة، وتوفير كوادر سعودية شابة وكفؤة قادرة على تحدي غيرها من الكفاءات.

كما أن السياسات والبرامج التي تتبعها الدولة في توسيع مجالات الاستثمار، والاستفادة من المعادن الأخرى التي تختزنها أراضي المملكة، ستوفر بدورها مجالات جديدة رحبة للاستثمار الذي سيعزز من متانة الاقتصاد السعودي.

البحث عن حل المعوقات في مواجهة ذلك تبقى هناك بعض معوقات الاستثمار التي قد تحد من تنافسية المملكة باعتبارها بيئة جاذبة للاستثمار، ولا شك أن المعنيين بقطاع الاستثمار يدركون هذه المعوقات التي تتطلب البحث عن حلول لها. ويشكل منتدى التنافسية الذي يعقد اليوم في الرياض منبرا للمكاشفة والبحث عن الحلول اللازمة لهذه المعوقات.