هاورد ويب.. شرطي الملاعب

أبرز حكام إنجلترا.. من رجل «بوليس» يطبق العدالة إلى دبلوماسي يطبق قانون كرة القدم

TT

تم اختيار الحكم الإنجليزي هاورد ويب، الذي أدار المباراة النهائية لكأس العالم الأخيرة بجنوب أفريقيا التي سجل خلالها رقما قياسيا بإشهار 14 بطاقة صفراء، ضمن قائمة من 12 حكما لإدارة نهائيات كأس الأمم الأوروبية التي تحتضنها بولندا وأوكرانيا بداية من 8 يونيو (حزيران) المقبل.

ويتمتع ويب بشخصية قوية لكن غير منفرة، ولا يلجأ لاستعراض قوته بإشهار بطاقات الطرد والإنذار إلا في حالات الضرورة القصوى إيمانا منه بمتعة لعبة كرة القدم التي قد تفسدها كثرة تدخل الحكام.

ولأول مرة في تاريخ بطولة كأس الأمم الأوروبية، سيستعين الحكام بمساعدين على خط المرمى، عقب قرار مجلس إدارة الاتحاد الدولي لكرة القدم بالسماح باستمرار التجربة التي تم اعتمادها لأول مرة في مباريات الأندية في المسابقات الأوروبية، لذا سيكون بإمكان هاورد ويب تفادي الوقوع في أخطاء جسيمة.

ويصنف هاورد ويب بين أفضل ثلاثة حكام حاليا بالعالم بجانب السويسري ماسيمو بوساكا والإسباني ميخينتو غونزاليس، وهو الحائز على جائزة أفضل حكم في إنجلترا موسم 2009 - 2010.

هاورد ويب شرطي سابق ونجل أحد عمال المناجم، نشأ وترعرع بالقرب من واحد من أكثر مشاهد الصراعات الصناعية مرارة في تاريخ بريطانيا الحديث. ومن الإنصاف أن نقول إنه قد تعلم الكثير خلال عمره الذي بلغ الأربعين واختار طريقه بعناية فائقة، ولكن لن يكون من الإنصاف أن نقارن بين عمله حكما عالميا في كرة قدم، والأحداث التي شهدها عندما كان شابا التي من شأنها أن تشكل المجتمع الذي نشأ وترعرع فيه.

وقد أثبت ويب في مونديال جنوب أفريقيا أن اللباقة والدبلوماسية جزء من المهارات الكثيرة التي يملكها والتي لا تقل بأي حال من الأحوال عن فهمه العميق لقواعد وقوانين كرة القدم.

في عام 1984، اشتبك 14 ألف شخص من الشرطة وعمال المناجم في مصنع فحم الكوك التابع لشركة «بريتش ستيل» في أورجريف بمقاطعة جنوب يوركشير. وصعد ويب وأحد أصدقائه إلى أعلى جبل لكي يمكنهما رؤية ما يحدث بشكل أفضل.

وبعد ذلك بأعوام قليلة، قام ويب بإدارة أول مباراة كرة قدم على الأرض نفسها، عندما شارك في تحكيم مباراة للناشئين تحت 11 عاما، بعدما تيقن وهو في سن السادسة عشرة من عمره أن حلمه بأن يكون لاعب كرة قدم محترفا لن يتحقق أبدا.

وفي كأس العالم 2010 بجنوب أفريقيا، أخطأ الحكم الأوروغوياني جورج لاريوندا بعدم احتساب هدف النجم الإنجليزي فرانك لامبارد الذي تخطى خط مرمى المنتخب الألماني عندما كانت النتيجة تشير إلى تقدم الماكينات الألمانية بهدفين مقابل هدف، خلال المباراة التي انتهت بفوز المنتخب الألماني بأربعة أهداف مقابل هدف وحيد وأدت إلى خروج المنتخب الإنجليزي من المونديال. بعدها قدم رئيس الاتحاد الدولي لكرة القدم سيب بلاتر اعتذارا للشعب الإنجليزي، وأشار إلى أنه سيعيد النظر في إمكانية استخدام التكنولوجيا الحديثة في كرة القدم.

ونتيجة لخروج المنتخب الإنجليزي من البطولة، زادت فرصة ويب وطاقم تحكيمه الإنجليزي في إدارة المباراة النهائية للمونديال، وهو ما حدث بالفعل. وعن ذلك يقول ويب: «بصفتنا حكاما إنجليزا، فنحن فخورون بانتمائنا إلى إنجلترا، كنا نشعر بالإحباط عندما تم إقصاء المنتخب الإنجليزي، ولكن عزاءنا الوحيد هو أننا خسرنا من المنتخب الألماني القوي. كان نجلي جاك غير سعيد بالمرة. كان جاك يرتدي قميص المنتخب الإنجليزي ويلعب في الحديقة وشعر بإحباط شديد لعدم تمكن المنتخب الإنجليزي من التقدم إلى الأدوار التالية في البطولة».

واستطرد ويب قائلا: «نتحدث مع جميع الحكام بعد المباريات، وقد تحدثت بالفعل مع الأوروغوياني جورج عقب المباراة. وأنا متأكد من أنه شعر بإحباط شديد عندما شاهد إعادة للكرة التي تخطت المرمى بعد المباراة. أي شيء يتم رؤيته على أنه خطأ دائما ما يتسبب في إحباط كبير لحكم اللقاء، ولذا نبذل قصارى جهدنا حتى نكون على المستوى المطلوب. وعندما أرتكب خطأ، أشعر بإحباط كبير لمدة عدة أيام. ولو كان الفريق فائزا بنتيجة خمسة أهداف مقابل لا شيء وارتكبت خطأ يمنعه من تسجيل الهدف السادس، أشعر أيضا بإحباط كبير، ولكننا بالتأكيد نشعر بإحباط أكبر عندما نرتكب خطأ يغير من نتيجة المباراة».

ولا يتخذ ويب موقفا معاديا للاعتماد على التكنولوجيا في إدارة المباريات من حيث المبدأ، ما دامت لن تؤثر على مجريات اللعب، وأضاف: «قبل عملي حكما في مباريات كرة القدم، كنت أعمل شرطيا، وكنت أتصرف في حدود القوانين التي تنظم عملي، والأمر نفسه ينطبق على عملي الآن في عالم كرة القدم، فليس من عملي أن أسن أو أشرع القوانين، ولكن علي أن أطبقها. إنني متفتح للغاية لتقبل أي شيء يزيد من مصداقيتنا بصفتنا حكاما لمباريات كرة القدم، ودعونا نرى ما سيحدث بعد ذلك».

وأضاف الحكم القدير في تصريحات سبق أن نشرتها صحيفتا «ديلي تلغراف» و«غارديان»: «يتعين علينا أن نكون حذرين حتى لا يؤدي ذلك إلى تغيير طبيعة كرة القدم. ومع ذلك، أتمنى أن نحاول دائما تطوير لعبة كرة القدم. إنني واثق تماما في أن الشكل الحالي لكرة القدم يجعلنا نشاهد مباريات رائعة وجميلة. لعبة كرة القدم تتميز بالمرونة والسلاسة، ويجب أن نكون حذرين حتى لا نغير ذلك. يمكنني أن أتذكر بعض المباريات خلال الموسم الماضي التي تم إحراز أهداف خلالها في مدة لا تتجاوز 8 ثوان من وجود الكرة في النصف الثاني من الملعب، وهو ما يظهر سلاسة وسرعة كرة القدم، ولذا يجب أن نكون حذرين حتى لا نعتمد على أدوات تؤثر على تلك السرعة. إننا بحاجة إلى حماية الطريقة الأساسية التي تعتمد عليها لعبة كرة القدم».

ويدافع ويب عن أسلوب إدارته للمباراة النهائية لكأس العالم في جنوب أفريقيا التي فازت فيها إسبانيا على هولندا بهدف وتوجت باللقب قائلا: «أشعر بالرضا عما حققناه أنا وطاقم التحكيم (دارين كان ومايكل مولاركي حاملي الراية) في النهائي، أدينا مهمة شاقة في ظروف صعبة وبذلنا قصارى جهدنا».

وكان ويب قد تعرض لانتقادات شديدة خاصة من جانب لاعبي ومدرب المنتخب الهولندي، وقد تجمع عدد من اللاعبين الهولنديين حول الحكم الإنجليزي بعد نهاية المباراة للاحتجاج على قراراته التي تركزت حول قيامه بإنذار 14 لاعبا، منهم ثمانية من هولندا التي دفعت ثمنا غاليا بطرد لاعبها جون هيتينجا لحصوله على البطاقة الصفراء الثانية. كما احتج الهولنديون على عدم احتساب خطأ لصالحهم في الشوط الإضافي الثاني لترتد الكرة إلى هجمة إسبانية جاء منها هدف المباراة الوحيد.

لكن ويب وجد في إشادة الفيفا بأدائه خير دفاع عن نفسه لأن أي حكم آخر لم يكن ليتصف بالهدوء والمرونة اللتين أظهرهما الحكم الإنجليزي وكان سيفسد اللقاء وسيطرد أكثر من لاعب. لكن ما أخذ على ويب عدم طرده المباشر الاعب الهولندي دي يونغ في الشوط الأول إثر ضربه بطريقة لاعبي الكاراتيه منافسة الإسباني تشافي ألونسو واكتفى فقط بإنذاره.

بدأ ويب التحكيم عام 1989 على مستوى الهواة، وفي 1993 تمت ترقيته حكما مساعدا بدوري الدرجة الثانية، ثم حكما أولا بالدرجة نفسها بعدها بسنتين. في عام 1996 تم تعيينه حكما مساعدا في دوري الدرجة الأولى والثانية ثم صعد للدوري الممتاز في عام 2003 وكانت أول مباراة قادها بين فولهام وولفرهامبتون.

ومن أهم المباريات المحلية التي قادها ويب مباراة الدرع الخيرية بين تشيلسي وآرسنال في 7 أغسطس (آب) 2005 عندما فاز تشيلسي 2 - 1، وأيضا نهائي كأس المحترفين بين تشيلسي وآرسنال أيضا وفاز تشيلسي 2 - 1 التي شهدت طرد ويب لاعب تشيلسي جون أوبي ميكيل وكولو توريه من آرسنال وإظهار بطاقات صفراء لفرانك لامبارد وسيسك فابريغاس ثم طرد لاعب آرسنال إيمانويل آديبايور.

أما دوليا، فكانت مباراته الأولى بين المنتخبين الآيرلندي الشمالي والبرتغالي وانتهت بالتعادل 1 - 1 في 15 نوفمبر (تشرين الثاني) 2005، وأولى مبارياته في دوري أبطال أوروبا جمعت بين ستيوا بوخارست الروماني وليون الفرنسي وفاز فيها الأخير 3 - صفر في 26 نوفمبر 2006.

ومن حينها لم يغب ويب عن المناسبات الكبرى سواء في بطولات العالم للشباب أو الكبار أو بطولات أمم أوروبا، وكان هو قائد مباراة نهائي دوري أبطال أوروبا لموسم 2009 - 2010 بين إنتر ميلان وبايرن ميونيخ في سانتياغو برنابيو الذي انتهى بتتويج إنتر ميلان باللقب بعد فوزه 2 - صفر.

ولأنه الحكم الإنجليزي الأكثر تميزا في هذه الحقبة، فقد كان هو الاسم الأبرز في الفيلم الوثائقي الذي تم إنتاجه عن الحكام المشاركين في بطولة كأس الأمم الأوروبية عام 2008، والذي يحمل اسم «اقتل الحكم». وتم إلقاء الضوء على هاورد ويب، الذي أدار مباراة النمسا وبولندا في البطولة حيث كانت بولندا متقدمة فيها بفارق هدف، إلى أن أعطى ويب ثلاث دقائق وقتا بدلا من الضائع واحتسب خلالها ركلة جزاء لمنتخب النمسا ليسجل منها إيفكا فاستيتش هدف التعادل في الوقت القاتل من المباراة وتشتعل حالة من الاحتقان ضد ويب في العاصمة البولندية وارسو التي أصبح ويب شخصا غير مرغوب به فيها، رغم أنه سيكون أحد حكام البطولة الأوروبية التي تستضيفها البلاد بالمشاركة مع أوكرانيا الشهر المقبل.

وعقب انتهاء المباراة، ركل المدير الفني لمنتخب بولندا ليو بينهاكر باب غرفة خلع الملابس وسمع وهو يقول «العار على الحكم الإنجليزي»، واعترف رئيس وزراء بولندا دونالد توسك بأنه يريد أن «يقتل» الحكم. وثمة مقطع فيديو على موقع «يوتيوب» يتوقع مقتل ويب، ويضعه بجانب لافتات مكتوب عليه «اللص» و«المهرج».

وقام مخرج الفيلم البلجيكي إيف هينانت بإبداع حبكة درامية رائعة ونسج حولها الأحداث ببراعة، وركز على مشاعر ويب مثل الشعور بالأسف واللوم والخوف على سلامته وسلامة أسرته. والشيء الرائع في هذا الفيلم هو أن صورة ويب، الذي يعد أنجح الحكام الإنجليز في هذا الجيل، قد تم نسجها أيضا من خلال الاعتماد على رؤية والده بيلي، الذي كان يعمل في المناجم. وقال بيلي، الذي عمل حكما لكرة القدم للهواة لمدة 35 عاما، إنه يعشق نجله، مضيفا: «أنا عامل، والناس يطلبون من نجلي التوقيع على أوتوغرافات». وعقب وصوله إلى النمسا، قال بيلي: «أنا أعشقه للغاية».

وقد ركز هينانت، الذي عرض هذا الفيلم في مهرجان لوكارنو السينمائي، على هذا الحب الأبوي، واصفا ويب بأنه يمكن أن يكون شخصية بارزة في أحد أفلام المخرج الإنجليزي الكبير كين لوتش. وأضاف هينانت: «إنه رجل رائع وصارم وحازم». وقد تجلت المشاعر النبيلة في شخصية ويب عندما أوقف مباراة النمسا وبولندا للاطمئنان على مساعده مايك مولاركي عقب قرار مشكوك في صحته في احتساب هدف من تسلل لمهاجم منتخب بولندا روجر جيريرو.

وتوجه ويب إلى مولاركي بين شوطي المباراة وقال له: «هل أنت على ما يرام يا صديقي؟»، ورد مولاركي قائلا: «أعتقد أنه كان متسللا، ولكني لم أرفع الراية وأشعر أنني مخطأ». وهدأ ويب من روع مولاركي وساعده على الاستمرار في إدارة المباراة.

ويلقي هذا الفيلم الضوء على نظرة العالم للحكام في عالم الساحرة المستديرة. وقد حظي هذا الفيلم بدعم الاتحاد الأوروبي لكرة القدم، ويركز على كل التفاصيل في حياة الحكام، بدءا من الكواليس التي تدور قبل بداية المباريات وحتى ما يحدث بين شوطي المباراة وبعد المباراة، وحتى التحقيق الذي يخضع له الحكام من قبل المسؤولين عن اللعبة. وتتابع الكاميرا ويب وهو يذهب إلى الغرفة المقيم بها في أحد الفنادق، وحتى وهو يتجول بطريقة رشيقة لا تختلف كثيرا عن أدائه الرائع داخل المستطيل الأخضر.

وعن ذلك، يقول ويب الذي وصل لعامه الأربعين: «انتابني شعور بالدهشة من الطريقة الرائعة التي تمت بها معالجة الأمور في الفيلم. لقد اعتمد المخرج على الصور الحقيقية التي تم التقاطها للحكام. إنني أحاول تجنب الجدل والدخول في خلافات في أي مكان، ولكن قد يحدث هذا في بعض الأحيان. ويصل الأمر في بعض الأحيان لما يدفع والدتي للتساؤل: (هل تفكر في اعتزال التحكيم بعد كل ما حدث؟)، ولكن هذا لم يخطر ببالي مطلقا».

وفي الحقيقة، لا يمكن رؤية ويب في هذا الفيلم دون أن تعود بك الذاكرة إلى العديد من الإنجازات التي حققها هذا الحكم القدير، ومن بينها بالطبع نجاحه في تحكيم المباراة النهائية لدوري أبطال أوروبا ونهائي كأس العالم في جنوب أفريقيا عام 2010. والشيء المؤكد هو حالة العشق التي تجمع بينه وبين والده التي تجلت في مشهد العناق الحار عقب عودة ويب من نهائيات كأس الأمم الأوروبية.

وما إن تشاهد الفيلم، حتى تشعر وكأن هؤلاء الحكام قد أصبحوا نجوما بارزين في عالم السينما، حيث لم يصورهم المخرج على أنهم مجرد أشخاص اتجهوا لمجال التحكيم عقب فشلهم الذريع في احتراف كرة القدم لاعبين، ولكنه صورهم شخصيات شريفة غير معصومة من الخطأ يتميزون بالصرامة والحزم والبراعة التي تتجلى في أبهي صورها في صافرة ويب داخل الملعب.. فهو من شرطي بالبوليس الإنجليزي إلى شرطي يطبق قانون كرة القدم.