مستقبل الخياطة الرفيعة على كف عفريت

غابت أسماء وتقاعدت أخرى والباقون يلعبون على وتر العملية والاستثمار

TT

في أواخر التسعينات أعلن إيف سان لوران نهاية الهوت كوتير (الخياطة الرفيعة) وتنحى عن عرشه، كما نعاها مدير أعماله بيير بيرجيه في تصريحات أثارت الكثير من الجدل والتساؤلات آنذاك حول مستقبل هذه الصناعة التي كانت وما زالت تخاطب شريحة معينة من النساء. وزادت حمى هذه التساؤلات عندما أعلن المصمم إيمانويل أونغارو، ودوناتيلا فيرساتشي، في شهر مايو(أيار) من هذا العام، أنهما لن يشاركا في عروض هذه السنة، كما أعلنت دار جيفنشي تغيبها إلى حين إيجاد مصمم آخر يُعوض مصممها السابق، البريطاني جوليان ماكدونالد، الذي انتهى عقده معها منذ بضعة شهور. وقبل ذلك غابت أسماء كبيرة أخرى أمثال، تيري موغلر، لوي فيرو، دار لانفان، نينا ريتشي، وطبعا إيف سان لوران. لذلك لم يكن غريبا أن يتقلص برنامج باريس من خمسة أيام في السابق إلى ثلاثة أيام فقط هذه السنة. البعض يرجع سبب هذا الاحتضار البطيء، إن صح القول، إلى الحالة الاقتصادية التي يعاني منها الاقتصاد العالمي منذ أحداث 11 سبتمبر(ايلول)، ثم الحرب على العراق، أما البعض الآخر، مثل المصمم أونغارو، فيقول إن السبب ببساطة هو تغير إيقاع الحياة، «فأسلوب الحياة الحالي لا يتيح لنا مثل هذه العروض الكبيرة، وما تعنيه بعد ذلك من تحضير رسومات، تقديم طلب بالأقمشة، انتظار وصولها، ثم مقابلة الزبونات ثلاث مرات على الأقل للتأكد من أن الزي على مقاسهن». ما يقصده أونغارو هو أن الخياطة الرفيعة لم تعد تدر أي ربح، وأنها مجرد وسيلة تعطي المجال للمصممين لإظهار قدراتهم الإبداعية! الأمر الذي لم يعد سرا خافيا على المتتبعين هو أن أونغارو وفيرساتشي قد عانيا أكثر من غيرهما من تدهور الاقتصاد الذي أثر عليهما بشكل كبير، ودفعهما لتقليص تكاليفهما، خاصة إذا عرفنا أن عرض الهوت كوتير يُكلف قرابة 3 ملايين دولار. لكن هذا المبلغ لم يُشكل عائقا بالنسبة لدور الأزياء الكبيرة، التي حققت أرباحا طائلة في السنوات الأخيرة بفضل اعتمادها على منتجات أخرى أهمها الاكسسوارات الجلدية والعطور ومستحضرات التجميل، إلى جانب الملابس الجاهزة والهوت كوتير، نذكر منها على وجه الخصوص، دار شانيل ودار كريستيان ديور. فدار كريستيان ديور ، مثلا، تؤكد أن الهوت كوتير ما زالت معافاة بدليل أن شريحة النساء اللواتي يفضلن أن يدفعن آلاف الدولارات مقابل زي مميز بتطريزاته وفريد من حيث قصته، ما زلن موجودات، ومستعدات للانتظار من ثلاثة إلى أربعة أشهر ودفع حوالي 65 ألف جنيه استرليني مقابل الحصول على فستان زفاف بتوقيع جون غاليانو، أو 20 الف جنيه استرليني مقابل فستان سهرة. وكل ذلك في سبيل الحصول على أزياء بحرفية يدوية عالية، وتطريزات رائعة، وتصميم فريد، بحيث لا يتعدى وجودها أكثر من أربعة فساتين في العالم كله، وبالتالي تكون المرأة مطمئنة إلى أنها لن تقابل، في أي مناسبة تحضرها، امرأة اخرى بنفس الفستان والتصميم. بعد هذه المقدمة، من البديهي القول إن جون غاليانو، كارل لاغرفيلد، وفالنتيو ولاكروا وجون بول غوتييه، كانوا المسيطرين على هذه العروض. ورغم تمسكهم بتقاليد هذه الصناعة وفخامتها، إلا أن المتتبع لمسيرة هؤلاء الكبار، لا بد أن يلاحظ أن هناك تغييرا طفيفا، طرأ على ما قدموه لموسمي الخريف والشتاء لعامي 2004-2005. فرغم فخامتها وإبهارها، إلا أنها كانت تتوخى إرضاء الجانب التجاري أيضا. فغاليانو، مثلا الذي لا يمكن أن تتصور الحاضرات ارتداء أي فستان تراه على خشبة العرض إلا إذا رسمت له صورة مخففة في ذهنها، أرسل عارضاتها وهن يرزحن تحت ثقل الطبقات المتعددة لفساتين طويلة، بكورسيهات ضيقة عند الصدر، تتسع عند الخصر لتصل إلى أحجام غريبة، جمعت بين الإبهار والتفصيل المحدد في الوقت ذاته، بحيث يمكن الاستمتاع، إن صح القول لأول مرة، بتفاصيل التصميم الدقيقة، وكأنها لوحات فنية مرسومة بريشة فنان، وليس بمقص مصمم. رسالته كانت أن دار كريستيان ديور ما زالت أحسن من يقدم ازياء كبيرة الحجم، صارخة اللون وجريئة التصميم في كل العالم. كارل لاغرفيلد بدوره انتهج العملية، وحسبها بلغة الأرقام بل واعتمد فيها على الجمْع والطَرْح، فقدم تشكيلة، صحيح أنها احتفظت برؤية كوكو شانيل، إلا أنه جعلها أكثر إغراء للزبونات، من حيث الإبداع والاستثمار في الوقت ذاته، نظرا للخيارات الكثيرة التي يمكنهن بها أن يلبسنها، بحيث تبدو في كل مرة وكأنها تصميم جديد، وذلك بلعبه على طبقتين أو أكثر. فالفستان، مثلا، مكون من قطعتين، الأولى قد تكون من التويد، فوقها قطعة من نفس التصميم والطول من الشيفون، أو تحتها قطعة من التول الذهبي اللامع. الحيلة هي أنه يمكن جمع الطبقتين مع بعض، أو طرْح واحدة والاكتفاء بطبقة واحدة، لمظهر جديد كل مرة. ويفسر لاغرفيلد هذا الأمر بقوله: «هذا هو الوجه الجديد للهوت كوتير، فكرة جميلة يمكن أن تكون استثمارا يخاطب نساء العالم الأنيقات..هذه هي خياطة الواقع، فهي تلعب على وتر الازدواجية»، لذلك لا تستغربي أن تري في مناسبة من المناسبات الكبيرة سيدة تحضر بفستان وتغادر بفستان يبدو مختلفا بعد ان تخلصت من طبقة منه.

كريستيان لاكروا اسم آخر من الأسماء الكبيرة التي ارتبطت بالهوت كوتير والفخامة في أجمل صورها. قدم تشكيلة مستوحاة من العصر الإدواردي بنكهة اسبانية ولمسة من فترة الستينيات. ولم ينس طبعا الاكسسوارات الضخمة التي ارتبطت بعروضه، من بروشات، أو فيونكات وغيرها، ومع ذلك فإنها، وعلى غير عادته لم تكن هي الأهم، كونه ركز هذه المرة على الألوان والاستعمال السخي للأقمشة أكثر. أما المخضرم فالنتينو، الذي قضى 50 سنة في هذا المجال، فلم يُحدث أي إدهاش، ولم يغير أسلوبه الذي يحتفل بالأنوثة وبالثراء في الوقت ذاته. ولم يُفوت أي فرصة لم يستعمل فيها خامات مترفة مثل الفرو بكل انواعه، سواء على الجاكيتات، المعاطف بل حتى مع فساتين السهرة. قد يتساءل البعض من سيلبس هذه الأزياء؟ هو حتما يعرف الجواب فزبوناته مخلصات له ولأسلوبه المتميز، الذي يضج برفاهية العصر الذهبي لهوليوود، التي ما زال يستوحي منه الكثير من افكاره، إضافة إلى شريحة جديدة من نساء المجتمع المخملي والثريات، تقضي وقتا طويلا في البحث عن هذه الأزياء، وانتظار وصولها لتلبسها بفخر، بينما في الماضي كانت نساء المجتمع المخملي يخشين ذلك حتى لا يُنعتن بأنهن «نوفو ريش»، أي حديثات نعمة. لا يمكن الحديث عن أحداث هذه الأيام الثلاثة، من دون الإشارة إلى أن المصممة اليابانية، هانا موري ، 78 سنة ، قد قدمت آخر تشكيلة لها بعد أن أعلنت تقاعدها بعد 50 سنة من العطاء، نجحت فيها في وضع اليابان على خريطة الموضة العالمية. لكنها مثل الكثير من دور الأزياء، أصبحت ترى أن الهوت كوتير خسارة مادية كبيرة في ظل الاقتصاد الحالي وإيقاع الحياة السريع.