ميلانو تبتعد عن الاتجاه السريالي وتتبنى أيديولوجيا الواقع لموسمي الخريف والشتاء المقبلين

TT

في العام الماضي، أبّن بعض المتشائمين الموضة المترفة في ميلانو، بعد أن غادر المصمم توم فورد دار غوتشي، وبرروا ذلك بأنه من الصعب تعويضه أو بأن يقدم أي مصمم آخر ما تحتاجه الموضة من إبهار وجمال. لكنهم أخطأوا في تقديراتهم، ورحى الإبداع لم تتوقف، وها هي ميلانو فعلا تودع مرحلة توم فورد، التي تميزت بالإثارة لتشهد ولادة ايديولوجيا جديدة تستمد أفكارها وتصاميمها من الواقع، وتخاطب شريحة من النساء في مقتبل العمر تعرف ماذا تريد. وما تريده هذه الفئة أزياء مترفة وعملية في الوقت ذاته. مشكلة الموضة في وقت من الأوقات أن مصمميها تجردوا من الواقع، بعد أن اصبحوا نجوما يشار لهم بالبنان، تتصدر صورهم صفحات المجلات، الأمر الذي جعلهم يشعرون، تدريجيا، بأنهم ينتمون إلى عالم آخر وعال. عالم يغلب عليه الخيال والفانتازيا، وكان من البديهي أن يتسلل أسلوب حياتهم وتفكيرهم هذا إلى تصاميمهم، التي ابتعدت هي الأخرى عن الواقع الذي تعيشه أغلب النساء. عكس الخياطة الراقية (الهوت كوتير)، الفكرة الاساسية من الملابس الجاهزة، أن تكون للأيام العادية، وأن توجه لشريحة أكبر من النساء، لكنها لم تكن دائما كذلك، وهذا ما انتبه له، أخيرا، المصممون الذين عرضوا في ميلانو في الأسبوع الماضي، والذين عانقوا أيديولوجيا جديدة على الموضة، تعتمد على الواقع.

أكثر مصمم عانق هذه الأيديولوجيا، البريطاني كريستوفر بايلي، مصمم دار بيربيري العريقة. فهذا المصمم ينتمي إلى شريحة الشباب، 33عاما، كما عمل مع توم فورد، قبل أن ينتقل إلى دار بيربيري، وبالتالي فهو يعرف تماما خبايا الموضة وما يجري وراء كواليسها، ويعرف أن الموضة في وقت من الأوقات فقدت طريقها وأصبحت سريالية اكثر منها موضة معقولة. وأسلوب بايلي جاء واضحا، فهو لم يشطح بأفكاره بعيدا، بل ركز على الامور التي يعرفها ويفهمها جيدا، وبالتالي جاءت تشكيلته بريطانية بكل معنى الكلمة، يغلب عليها قماش «التارتان» الأوسكتلندي، والقطع البسيطة بخامات مترفة وقصات بسيطة لكن متقنة، سوءا كانت عى شكل كنزات مفتوحة بألوان الزيتون والفضة، أو قمصان من الكاشمير أو الجيرسيه بياقات مبتكرة. لكن التشكيلة التي أثارت ضجة كبيرة في أوساط الموضة، هي لميوشيا برادا، المرأة التي لا تتوقف على إدهاش عالم الموضة. فهي، منذ أكثر من عشر سنوات، تعتبر البوصلة التي تحدد اتجاهات الموضة: ما إذا كانت ستتجه نحو الإثارة أو الاحتشام، وغير ذلك. وما تقدمه هذه السنة، يترجمه باقي المصممين في السنوات القادمة، كلا حسب هواه، لكن الفكرة تكون في الغالب مأخوذة منها. فهي التي يعود لها الفضل في إنعاش الموضة الرومانسية المحتشمة بعد سنوات من الملابس المثيرة، التي ركزت على إظهار مفاتن الجسد، عوض مفاتن تصميم الزي، كما أنها هي التي أعادت موضة البروش. لخريف وشتاء 2005 ـ 2006، وجَهت برادا انتباهها للمرأة الناضجة فكريا، من خلال تصاميم جميلة مفصلة بإتقان وحرفية، تحدد مفاتن الجسد من دون كشفه، وتعتمد فكرة القليل كثير، من حيث تخليها عن التفاصيل الكثيرة في الزي الواحد، مع إضافة جرعة من الأنوثة الكلاسيكية. فبعد سنوات من التفاصيل والتطريزات الكثيرة، ارتأت برادا أن تعود إلى الأساسي، وهذا يعني في قاموسها الأناقة الهادئة، والأزياء المفعمة بالحداثة والثقة وتبتعد عن الإثارة الجنسية والغرابة، وهذا ما عبَرت عنه بقولها «أردت أن اقدم ازياء مثيرة من دون مبالغة في التفاصيل، وجدية لكن بلمسات رومانسية» وهذا ما نجحت في تحقيقه فعلا. المخضرم جيورجيو ارماني، في المقابل، تاه بعض الشيء. ففي الثمانينات والتسعينات كان أهم من تبنى أيديولوجيا الواقع، وفهمها جيدا، وليس أدل على ذلك من الجاكيتات الناعمة والتايورات الرائعة، التي لم تخل خزانة أي امرأة أنيقة في تلك الفترة من واحدة منها، لأنها جاءت تعبيرا عن احترامه لذكائها واحتفالا بقدرتها على مشاركة الرجل في بناء المجتمع، لكنه على ما يبدو تاه بعض الشيء في مجموعته الأخيرة التي قدمها في ميلانو، رغم حرفيته الواضحة، والتي جاءت أقرب إلى الهوت كوتير منها إلى الملابس الجاهزة، بفساتينه المرصعة بالأحجار، والبروشات المتألقة واكسسواراته الرائعة، التي اعطت عرضه نكهة باريسية مصطنعة بعض الشيء. المشكلة أنه في غمرة حماسه لإعطاء الجديد، وإظهار إمكانياته الفنية، تبنى سريالية بعيدة تماما عما عوّد المرأة عليه، وقدم قطعا لا ترقى إلى أسلوبه القديم، وأعني بذلك البنطلونات القصيرة، المنفوخة والمزمومة عند الركبة، التي لا أتصور أي نوع من النساء ستقبل عليها، أولا لغرابتها، وثانيا وهذا هو الأهم، افتقادها الأناقة التي تتوخاها اي امرأة، خصوصا وأنها لن تضيف إلى شكلها أي شيء، باستثناء انها ستضفي عليها البدانة وقصر القامة. لكن لا تستغربي إن رأيت مثيلات كايلي مينوغ وكايت موس يلبسنها، فهي قد تكون موجهة لهذه الشريحة بالذات. فمما لا شك فيه أن نجاح عرضه في أسبوع الهوت كوتير بباريس، الذي قدم خلاله فساتين سهرة لنجمات الأوسكار، قد أثر عليه، لأن هذه التشكيلة موجهة أيضا للنجمات، لكن الصغيرات السن. الجديد فعلا في تشكيلته، تركيزه على التنورة بدل البنطلون، حيث قدم عدة اشكال منها، بدءا من المستقيمة، إلى المنسابة، القاسم المشترك بينها أنها قصيرة. الملاحظ في معظم عروض ميلانو، عودة روح الثمانينات، من خلال عودة الأسود، والابتعاد عن الألوان الصارخة التي سادت في الآونة الاخيرة، حتى بوتشي المعروف بنقوشاته الهندسية التي تضج بالألوان المتضاربة، أدخل الأسود، وكأن المصمم لاكروا، مصمم هذه الدار منذ ست سنوات، وبعد أن بيعت داره الخاصة، يريد أن يعبر عن حزنه أو حالة الكآبة التي يعيشها هذه الأيام نتيجة ذلك. صحيح أن هذه الأزياء (المطبوعة بالأسود) قد لا تجد طريقها إلى محلات بوتشي، إلا انها تسجل مرحلة من مراحل حياة المصمم الخاصة، إضافة إلى غرفة من أصول الدار الفلورنسية العريقة، التي تعود إلى عصر النهضة، وهذا ما عبَر عنه بقوله «أردت أن أبرهن أن اسم بوتشي يعني اكثر من ألوان قوس قزح، وبأن عصر النهضة بنقوشاتها الهندسية وخطوطها يمكن ان تكون عصرية وجزءا من الحاضر».

لكن إذا كانت هناك تشكيلة يجب أن تقتنيها، أو على الأقل تتفرجي عليها وانت مستمتعة، فهي تشكيلة فينيتا بوتيغا، الدار التي ارتبط اسمها بصناعة الاكسسوارات الجلدية، وتوجهت هذا العام، ولأول مرة، إلى تصميم الأزياء النسائية، بعد أن أصبحت جزءا من مجموعة غوتشي، انطلاقا من قناعتها بأن «الدار يجب أن تتطور، وأن تقدم مظهرا متكاملا بين الأزياء والاكسسوارات»، حسب تعبير مديرها الفني توماس مايير. لكن رغم الأزياء الرومانسية التي صممت بحرفية عالية، إلا أنها جاءت مكملة للاكسسوارات الأكثر روعة. فالجلد امتد إلى الجاكيتات، وتم مزجه بالحرير والمخمل والجيرسيه لإعطاء بعض الدفء للخريف والشتاء المقبلين.