الأسرة والفرن العمومي في الـمغرب: علاقات دافئة تسير نحو الاختفاء

TT

لا يطمئن بال أي أسرة مغربية حتى يكون في بيتها فائض من الخبز، هذه حقيقة تدخل في باب البديهيات بالنسبة لهم. فإذا كان الأرز هو عمود المطبخ الشرقي، فإن الخبز في المغرب أساس لا يستغنى عنه، ولا يمكن تناول اغلبية أطباقه من دونه. لذلك ليس غريبا أن يشكل الفرن العمومي الذي يتولى طهي الخبز التقليدي للمنازل محور الحياة اليومية في المدن العتيقة، الى جانب الـمسجد والحمام العمومي، الذي يبنى عادة إلى جوار الفرن حتى يتم استعمال الحطب لطهو الخبز وتسخين الـماء في الوقت نفسه.

وتبدأ عملية الاستعداد للتوجه الى الفرن التقليدي عندما تستيقظ ربة البيت ويكون ذلك غالبا في الصباح الباكر، حيث تبدأ أشغال البيت بعجن الخبز وتحضيره، قبل وضعه في مكان دافئ لينتفخ تحت تأثير الخميرة، بعد ذلك فقط يأتي دور صبي الفرن العمومي، الذي يحمل لقب «الطراح» الـمشتق من عملية طرح الخبز داخل بيت النار، فيتكلف بنقل «الوصلة» الخشبية المسطحة الشكل، التي تحمل عددا من الخبز موافقا لاحتياجات الأسرة إلى الفرن، ثم عليه أن ينتظرها حتى تنضج ويعيدها إلى أهل البيت، وهنا فقط يقبض أجرة عمله التي لا تؤدى نقدا بل تقتصر فقط على قطعة خبز كبيرة بعض الشيء مـما يذكر بالـمثل العربي: «الجزاء من جنس العمل».

وعلى العموم فقد كانت مهنة «الطراح» التي اختفت الآن بسبب شيوع الوعي بخطورة تشغيل الصغار موكولة لأطفال الأسر الفقيرة الذين يقضون اليوم في حمل الوصلات الخشبية حتى يشتد عودهم فيتحولون إلى «معلم الفران» أي إلى الصانع الـمكلف بعملية الطهي الذي ينزل إلى «الحفرة» ليقضي بها نهاره في استقبال «الوصلات» الخشبية وتنظيمها وطهي الخبز أو الحلوى أو طواجين السمك التي تتوارد عليه من الـمنازل الـمختلفة، لذلك فعليه أن يضعها داخل بيت النار وفق تنظيم محكم ودقيق يجعله لا يخطئ في عملية إخراجها وإرسالها إلى أصحابها من جديد. وحول هذه العملية، يقول أحمد الـمصاوري، الذي يـملك فرنا تقليديا بـمدينة أصيلة الـمغربية، وهو فرن ورثه عن والده الذي كان يـمتهن نفس الحرفة: «لان تنظيم الخبز داخل الفرن يتم على شكل صفوف تبدأ من اليسار إلى اليمين دائما، وكل صف يـمثل خبز أسرة معينة، غير أن ظروف عمل الفرن في الـمناسبات وما يرافقها من ازدحام قد تؤدي أحيانا إلى خلط والتباس وبالتالي إرسال خبز عائلة إلى منزل عائلة أخرى، وتنتج عن ذلك حكايات طريفة مثل إقدام بعض النصابين على استغلال الوضع والقدوم إلى الـمعلم غير الحاذق حيث يسطون على وصلة خبز بادعائهم انهم اصحابها، ويختفون معها، وبعضهم يأتي بطاجين سمك من النوع الرخيص لطهيه وعندما يعود لتسلمه يخطئ متعمدا ويحمل إلى بيته طاجين سمك من نوع آخر أغلى وألذ، وهكذا يجد معلم الفرن نفسه في وضعية لا يحسد عليها أحيانا بين احتجاج الـمتضررين ومكائد بعض ذوي النية السيئة. «غير أن السكان والزبائن يتفهمون ظروفنا في أغلب الحالات»، يقول المصاوري. اضافة الى ذلك فإن الـمعلم الحاذق عليه أن يحفظ أسماء ووجوه زبائنه مهما بلغ عددهم.

وخلال هذه العمليات التي يكررها «الـمعلم» و«الطراح» كل يوم يتمكن كل منهما من التعرف على أدق تفاصيل الحياة اليومية للمنطقة التي يوجد بها الفرن، فمن خلال نوعية الخبز وعدده ونوعية الطواجين والحلويات التي ترسلها الأسرة إلى الفرن يـمكن تحديد مستواها الاقتصادي والاجتماعي. وبـما أن معلم الفرن يصبح شخصا معروفا من قبل جميع أسر الحي فإن هذه الأخيرة لا تتردد في الاستفادة من خدماته كوسيط في عمليات الكراء والشراء. ففي فترات الستينات والسبعينات قبل أن يرتفع ثمن العقارات كان أصحاب الـمنازل نادرا ما يلجأون إلى خدمات وكالات العقار مكتفين بترك مفاتيح منازلهم لدى معلم الفرن الذي يتولى هذه المهمة على أحسن وجه..

وبخصوص الأجر الذي يتقاضاه صاحب الفرن التقليدي مقابل طهي الخبز توجد طريقتان: الأولى تتم باشتراك شهري تدفعه الأسرة مقابل طهي خبزها كل يوم ويبلغ ثمن هذا الاشتراك عادة 50 درهما، أما الاختيار الثاني فيقتضي دفع مقابل عن كل قطعة يتم طهيها ويبلغ هذا الـمقابل عادة في الـمدن الـمغربية نصف درهم عن كل واحدة. وطبعا تختار كل أسرة طريقة الدفع التي تناسبها، فبينما تتجه الأسر الـمحدودة الأفراد إلى الدفع بالقطعة تفضل الأسر التي تطهو الخبز بكثرة تبنى صيغة الاشتراك. غير أن لصاحب الفرن امتيازات عينية أخرى تقع على جميع الأسر وهي «خبزة العيد» التي يأخذها من كل وصلة في جميع الـمناسبات الدينية إضافة إلى أجرة مرتفعة قليلا مقابل طهي الطواجين والحلويات التي يأخذ منها نصيبا معلوما ومتعارفا عليه عندما يتعلق الأمر بحلوى العيد أو الأفراح الـمختلفة، إضافة إلى أن الأسر غالبا ما تـمنحه بقايا الخشب والكراكيب التي ترغب في الاستغناء عنها حتى يقوم باستخدامها كحطب.. ويتعرض قطاع الأفران العمومية اليوم لـمنافسة حادة من طرف الـمخابز العصرية التي تبيع الخبز الجاهز للأسر الـمكونة من زوجين عاملين، والتي غالبا ما تفضل شراء الخبز الجاهز لتوفر على نفسها تعب إعداد عجينة الخبز وإرسالها إلى الفرن واستردادها. تقول لطيفة زاوري، أستاذة بالتعليم الثانوي، حول ذلك: «لي طفل واحد، واحتياجاتي من الخبز قليلة، كما أن الـمنطقة التي أقطنها مكونة من العمارات ولا يوجد بها فرن تقليدي، لذا أفضل الخبز الجاهز رغم حنيني إلى خبز الدار، الذي لا يعادله شيء من الناحية الصحية خاصة إذا كان من القمح الأسمر». فيما تقول رشيدة دارسي ، وهي ربة بيت وأم لخمسة اطفال: «أقوم بعجن الخبز في معظم الحالات لأن إمكانياتي لا تسمح بشراء الخبز من الـمتاجر في كل الأيام، زيادة على أنني أحصل على القمح مجانا لأن زوجي من أصول قروية ويـملك أرضا يزرعها اخوته، ويـمنحونه نصيبه من قمحها، ورغم ذلك أجدني مضطرة لشراء الخبز الجاهز في العديد من الأيام لأن عملية العجين أصبحت متعبة لصحتي بعدما تزايد عدد الأولاد وتزايدت احتياجاتهم، إلا أنني أحرص على تعليم بناتي كيفية عجن وطبخ الخبز التقليدي حتى يصرن ربات بيوت حاذقات في الـمستقبل، رغم أن الأفران العمومية بدأت في الاختفاء من مراكز الـمدن في السنوات الاخيرة».

أما الـمعلم أحمد الـمصاوري فيبدو واثقا من مستقبل الحرفة، حيث يقول: «لن يتخلى الناس عن خبز الدار لأنها مناسبة للجيب وللصحة وتجسد البركة، كما أن الخبز الذي تبيعه الـمخابز «مغدور» لا يتم طهيه جيدا، فأفران الغاز أو الكهرباء لا تمنح الخبز اللذة التي يـوفرها الحطب الطبيعي والطهي الـمتمهل فوق السطح الطيني للفرن التقليدي، لذا فلن يتخلى الناس بسهولة عن خبزنا، وما علينا إلا ملاحظة كيف أن السياح الأجانب يتعمدون البحث عن الأفران التقليدية كلما دخلوا مدننا الـمغربية العتيقة».