هل ندمت المرأة على مطالبتها بالخروج الى العمل؟

تضاعف المسؤوليات وتزايد مشاعر الذنب والتقصير

TT

شكلت المساواة بين المرأة والرجل عنوان مسيرة طويلة وطاحنة من النضال خلال القرن الماضي، وتمكنت النساء عالميا وعربيا من إحراز خطوات متقدمة على هذا الصعيد. فقد خرجن الى العمل وحصلن على حقوق حجَبَها عنهن المجتمع الذكوري طويلا تحت غطاء التقاليد والأعراف، بل وبدأن ينافسنه في الكثير من المجالات، بدليل دراسات أجريت في المجتمعات المتقدمة تشير إلى ان الإناث يحققن نسبا اعلى من الذكور في المدارس والجامعات، مما يخول لهن الحصول على وظائف مهمة بسهولة اكبر. وعلى ضوء هذه النتائج لا حاجة للقول إلى ان الجنس اللطيف اصبح يشكل قوة اقتصادية مهمة في هذه المجتمعات، لا سيما أن نوعية الوظائف، هي الأخرى، شهدت تحولا كبيرا في السنوات الأخيرة، من الأعمال اليدوية التي تتطلب قوة جسدية إلى الوظائف التي تحتاج إلى مرونة في التعامل ودبلوماسية في العلاقات العامة وغيرها. وإذا كانت المرأة اصبحت تشكل تقريبا 50% من القوة العاملة في الولايات المتحدة مثلا، فإنها في الصين تشكل أكثر من ذلك، ما بين 60 إلى 80%، خصوصا في مجالات الصناعات التي تصدر إلى الخارج كصناعة الأقمشة والملابس. كما بينت بعض الدراسات ان الشركات والمؤسسات التي تتبوأ فيها المرأة مراكز تنفيذية تحصل على نسبة أعلى من الأرباح من الشركات والمؤسسات التي توجد بها نسبة اقل في مراكز القرارات. ويعزو البعض السبب إلى قدرتها على التواصل مع الآخر والعمل ضمن فريق وليس بشكل فردي. لكن رغم كل هذه النجاحات والإحساس بالاكتفاء الذاتي والتحرر النفسي والمادي، إلا أن المرأة بدأت ايضا تشعر بان نجاحها كان على حساب اشياء أخرى كثيرة. فخروجها للعمل لم يخدمها في كل شيء والمساواة لم تكن دائما في صالحها، وهذه المشاعر تسري على المرأة في المجتمعات المتقدمة وغيرها من المجتمعات. ففي لبنان، على سبيل المثال لا الحصر، ونتيجة الحاجة الاقتصادية، اصبح لزاما عليها العمل للمساهمة في احتياجات البيت والأسرة، لكن مسؤولياتها خارج البيت لم تلغ مسؤولياتها بداخله، وبالتلاي تضاعفت على حساب راحتها النفسية والجسدية، والمقابل امتيازات لا توازي الجهد المبذول. فالمرأة التي طالبت بالخروج إلى العمل ما زالت المسؤولة الاولى، وفي أغلب الاحيان الوحيدة، عن الواجبات الأسرية، لجهة تربية الاولاد ومتابعتهم والقيام بالاعمال المنزلية، أو على الاقل الاشراف عليها اذا استطاعت الاستعانة بخادمة. وهذا يجعلها تتوق الى بعض الراحة وأن تلعب دور «الزوجة التقليدية» في بعض الأحيان، حتى يقوم زوجها عنها بمعظم المهام الخارجية على الاقل. والملاحظ ان النساء العاملات لم يعدن يشعرن بالحرج من إظهار تبرمهن بهذه «الصفقة الخاسرة» أو الخجل من خذلان بنات جنسهن اللواتي ناضلن لسنوات للحصول على هذا الحق، بما فيهن بعض من وصلن الى مواقع يحسدن عليها. فهن لا ينكرن حاجتهن الى الراحة والاسترخاء بعيدا عن هموم العمل والمسؤوليات الكثيرة الملقاة على عاتقهن، ولو لفترة يشحذن فيها قوتهن وطاقتهن. تقول الاعلامية في المؤسسة اللبنانية للارسال، دوللي غانم، وهي أم لولدين، أنها تتمنى لو كان دوام عملها محددا. فبرنامج «نهاركم سعيد» الذي تقدمه عبارة عن حوار صباحي مع ضيف سياسي «يتطلب متابعة دائمة لإختيار الضيوف وتحضير الأسئلة واطلاع على المستجدات وغيرها من المتابعة الدؤوبة. حبي لعملي لا يلغي حبي لبيتي وعائلتي لكن هذا أيضا لا يمنع أني اصل أحيانا إلى مرحلة من الضغط النفسي والتعب وأحلم ببعض الراحة». وتتابع دوللي ان ما يساعدها على التحمل اكثر، ويخفف عنها وطأة الضغط انها تحرص على الخروج للنزهة كلما تيسر لها الوقت أو مشاهدة فيلم أو السفر لمفردها، في حين يتولى زوجها المسؤولية في غيابها. أما عن مشكلة الشعور بالذنب والتقصير التي تعاني منها معظم النساء العاملات والناجحات فتعلق دوللي غانم أنها لا تفارقها «خصوصا حين أعمل طوال اليوم فيما يمضي ولداي عطلات الاعياد في المنزل او مع أصدقائهما. لقد اعتادا هذا الأمر لكني بعكسهما أشعر بالانزعاج». وتضيف ممازحة «أنا غير مصابة بعقدة الرجل ولا يراودني هاجس التساوي به أو تحديه لأنني أعمل بهدف ارضاء طموحي المهني، لكني اتمنى أن ينقلب الوضع ولو قليلا، ويتساوى الرجل بالمرأة في تحمل هذه المسؤولية المضاعفة». ولا يختلف رأي ريما يوسف، المسؤولة في أحد مصارف العاصمة عن رأي دوللي، فهي ايضا ترى ان حياة المرأة العاملة يشبه الماراثون لانها، حسب قولها، تستيقظ عند السادسة الا ربعا «لأحضّر ابني للمدرسة ثم استعد للتوجه الى عملي، واعود الى البيت نحو الخامسة والنصف أو السادسة مساء لأبدأ في الطبخ. لا أنكر اني أشعر بعقدة ذنب بسبب غيابي المتواصل، هذا عدا أني لا أجد وقتا للاهتمام بنفسي أو للراحة، وهذا ما لا يتفهمه المحيطون بي، خصوصا حين لا اقوم بالواجبات الاجتماعية في الأفراح والاحزان». لكن اللافت ان ريما، عكس بعض النساء اللواتي يكتفين بالتذمر والتحسر، تعمل على تغيير حياتها للأحسن، فهي مصمّمة على متابعة دورة في أصول التغذية حتى تتمكن من تأسيس عملها الخاص وتتخلّص من مشكلة الدوام وتتحكم في وقتها «لن أنتظر سن التقاعد لتحقيق ذلك». وهذا التفرغ شبه الدائم للعمل يفرض نفسه على الأديبة اميلي نصرالله، التي تعتبر ان «التنظيم الداخلي هو الاساس، تليه الارادة والطموح الى تحقيق الذات والوصول بالافكار الى غاياتها. ولبلوغ ذلك كله لا بد من السعي الدؤوب واعتماد خريطة طريق». وتعترف إميلي بفضل احدى السيدات التي ساعدتها على تربية ابنائها الأربعة: «لولاها ما استطعت امتهان الكتابة خصوصا في مراحل طفولة اولادي. كما ان زوجي تفهم خصوصية عملي وحاجتي الى الانفراد في غرفتي الخاصة والى التحرر الاقتصادي لئلا تكون كتابتي مرتهنة، وهذا ما نصحت به الكاتبة البريطانية فيرجينيا وولف. وكانت نصيحتها مفيدة طوال حياتي المهنية. لكن يعود الفضل الأول في التحرر من العبء الاقتصادي الى زوجي، لأن الادب في بلادنا لا يطعم خبزا رغم أن كتبي تباع وتقرأ وتترجم».

وترى نصر الله أن المساواة مطلب المرأة الذي «لن تناله من دون الجد والتضحية فلكل جني ثمنه ولا بأس ان يخرجها سعيها من خدر الازمنة الماضية لتحقيق النجاح لا لمنافسة الرجل». أما الاختصاصية في علم الاجتماع، الدكتورة سهى هاشم، فشددت على ضرورة "تنظيم الوقت والاقتناع بأن العمل أساسي للمرأة «فإذا تكامل الأمران استطيع تأدية واجباتي والا تحولت المساواة عبئا وانعكست توترا علي، لا سيما انه من غير الممكن أن أرضي نفسي من دون ان أكون مساوية للرجل» وتضيف «أؤمن بالاختلاف ايضا ولكن هذا لا يعني أنني ادنى مستوى من زوجي لأنني لا أعامله بصفته «سي السيد» بل اتقاسم معه القرارات والواجبات فلا أقبل ان يمارس سلطته بطريقة تقليدية، ذلك ان سلطة الاسرة هي التي تفرض نفسها».

وترى هاشم أن «المساواة في بلادنا مرهقة لأنها ليست مقرونة بقوانين تحفظ للمرأة حقها ذلك «أننا نحن نعيش في مجتمع ذكوري، ما يرتب عليها مسؤوليات إضافية في توزيع الادوار المنزلية الى جانب عملها.

ولكن هذه المسألة حلّت عبر استقدام خادمة، لكنني أحرص على عدم اشراكها في تربية الاولاد لاسيما في سنواتهم الاولى، ولا أسمح بأن تكون العنصر الاساسي أو المرادف في الاهتمام بشؤونهم، أو الاطلاع على تفاصيل حياتهما لمعرفة كيف يتطوران أولا وكيف يتأثران بالفضاء الخارجي ثانيا ولأوفق بين دوافعهم وميولهم من جهة والضوابط الاجتماعية من جهة أخرى». وتقول ان المعادلة التي توصلت إليها أن تعطي عملها حقه كاملا، لكن ليس على حساب بيتها، الا في الحالات الطارئة. وفي هذه الحالات تحاول أن تعوّض عن تقصيرها في أيام الإجازات «لكن هناك نقطة مهمة وهي انه لا يمكن حماية الاسرة وتوفير رفاهيتها وراحتها على أساس الكمّ في قياس الوقت لأنه لا ينفع، فنوعية الوقت الذي نمضيه مع اسرنا هو المهم».