فتش عن البيئة والسياسة في «صراع» المطابخ العالمية

TT

هل ارتكبت في يوم من الأيام «خطيئة» طلب فنجان «قهوة تركي»، بعد تناولك الغداء أو العشاء في مطعم يوناني؟. كثيرون وقعوا في هذا الخطأ اللفظي غير المقصود، في غفلة تامة عن خطورة «الصراع» الدولي على هوية المأكل والمشرب، بالرغم من دبيب «العولمة» في كل أنحاء العالم.

الحقيقة أن أبناء المشرق العربي، ومنطقة شرق المتوسط، اصطلحوا على التمييز بين أصناف القهوة مستخدمين كلمة «عربي»، دلالة على القهوة البدوية العربية الأصيلة مع الهيل ومن دون سكر، وكلمة «تركي» على القهوة المغلية التي تشرب في المقاهي والمطاعم في معظم مدن المنطقة، و«أميركي» أو «إفرنجي» على القهوة سريعة التحضير التي تشرب بفناجين كبيرة عموما مع الحليب. ولكن عند جيراننا اليونانيين، الذين بينهم وبين الأتراك «ما صنع الحدّاد»... فلا وجود لكلمة «تركي» في قاموسهم المذاقي والضيافي، بل قهوتهم قهوة «يونانية»... والويل ثم الويل إذا حصل الخطأ.

مع هذا، مسألة القهوة مجرد غيض من فيض، كما يقال. وفي كل حضارة أطباق ومشروبات متنازع على هويتها بسبب التداخل الحضاري والسياسي، تماما كما هناك أطباق ومشروبات ارتبطت بمكان بعينه نتيجة ارتباط أصله بها وشهرة إنتاجه لها.

فحتى اليوم، في كل مكان من أوروبا أشهر أنواع البرتقال (المستورد طبعا) هو الـ«جافا» Jaffa Orange ، أي «اليافاوي»، وأشهر أنواع البن هو الـ«موكا» Mocha، أي المخا اليمني، حتى لو كان مصدره المعاصر البرازيل، أما ما يعرف بالثوم المعمّر، (أو البصل الأندلسي) في قاموسنا العربي، فيباع في الدول الناطقة بالانجليزية باسم «سكاليون» Scallion، وأصل هذه الكلمة مدينة عسقلان الفلسطينية القديمة. وعلى مستوى أشمل، كان تفاعل العرب مع الأرز والسكر. فلقد كان تعرف العالم العربي على الأرز، مفصلا مهما في تطور مطابخ العديد من الدول العربية، وللعرب الفضل في نقل الأرز والسكر مع اسميهما ـ الهنديي الأصل ـ إلى أوروبا. فبالنسبة للأرز، وأصل اسمه «أريسي» بلغة التاميل، فإن العرب حملوه إلى أوروبا وافريقيا، اعتبارا من القرن الثامن الميلادي، وتحولت كلمة «أريسي» إلى «أرز» أو «رز» بالعربية، وعنهم أخذها الأوروبيون بمختلف دولهم فحورّوها إلى «أروز» Arroz (بالإسبانية) و«ري» Riz (بالفرنسية) و«ريزو» Riso (بالإيطالية) و«رايس» Rice (بالانجليزية). أما السكر، الذي أكمل هو الآخر مسيرة طويلة على خريطة العالم، فأصل اسمه هندي سنسكريتي هو «شركارا». ومن الهند انتقلت هذه الكلمة إلى ايران (بلاد فارس) لتصبح «شكر»، ومن إيران إلى العالم العربي فصارت «سكر»، ومن العالم العربي انتقلت إلى أوروبا فباتت في الإسبانية «أثوكار» وفي الفرنسية «سوكر» والإيطالية «زوكيرو» والإنجليزية «شوغر». اليوم لكل منطقة من العالم قصص ترويها مع تاريخ مطبخها وما استوردته وهضمته وادعت ملكيته من أصناف المأكل والمشرب. ولكن لا شك في أن نشوء الامبراطوريات العظمى ـ كالدولة الإسلامية العربية والامبراطورية الإسبانية والدولة العثمانية والأمبراطورية النمساوية المجرية وغيرها، كان عاملا أساسيا في التلاقح الحضاري أو الثقافي بين الشعوب المتعددة المختلطة داخل الكيان السياسي الواحد الكبير. كذلك أسهم ازدهار التجارة وتطور التقنية في تلاقي أوجه التعددية البيئية وتسهيل التنقل بين مختلف أرجاء هذه الامبراطوريات أو الكتل البشرية الاجتماعية. وهكذا أخذت المنتجات والأطباق المحلية تنتشر ويتسع نطاق متذوقيها والمعجبين بها، وأحياناً، مقتبسيها والمطالبين بها. ومع نمو المدن الكبرى وتعدد جالياتها الإثنية بات متيسرا على الذواقة اختيار ما يطيب لهم من أطباق إثنية من مختلف أرجاء العالم عبر شارعين أو ثلاثة في المدن الكبرى كباريس ولندن ونيويورك. بل تبلورت في هذه الحواضر وصفات حديثة مهجنة و«كوزمو بوليتانية» مستوحاة من أطباق بلاد المنشأ، لكنها متأثرة بالبيئات الغريبة الجديدة، ولعل من أشهر هذه الوصفات الـ«تشوب سوي» الصينية التي أبصرت النور فعليا في الغرب لا في الصين.

البيئة، إذا، تشكل نقطة البداية في تشكل قوت الإنسان ومن ثم تبلور عاداته الغذائية وتنوع مطبخه. ذلك ان المصدر الأول للغذاء هو حيوان المنطقة التي يعيش فيها ونباتاتها، وفي يومنا هذا يمكن النظر إلى شعب الإينويت (الإسكيمو) في أميركا الشمالية والقبائل والأقوام التي تعيش في مناطق منعزلة في باطن أفريقيا والبرازيل وغينيا الجديدة وفيافي شمال سيبيريا ووسط آسيا وبعض جزر المحيط الهادئ على أنها ما زالت الأقرب إلى نمط مصدر الطعام المحلي المحدود في تنوعه. وفي مرحلة لاحقة، بدأ يظهر في المجتمعات الأخرى التأثر والاقتباس بين المطبخ المحلي والمنتجات والوصفات الأجنبية. وهذا ما بدأ يحصل في بيئات نائية مثل اسكندنافيا (في أوروبا الشمالية) وجزر غرب أوروبا، التي كانت معتمدة أصلا على اللحوم والأسماك والقلة القليلة من الأصناف النباتية. في حين ازداد التنوع في البيئات الموجودة في قلب حركة المواصلات والنقل والتجارة كحوض البحر الأبيض المتوسط وشمال الهند وشرق الصين. وتسارع إيقاع التنوع وسقطت الأسوار بعد اكتشاف أميركا. ومن أميركا تعرّف العالم لأول مرة على البطاطس والتبغ. وفي المقابل، أخذ المهاجرون الأوروبيون معهم لغاتهم وديانتهم وعاداتهم إلى «العالم الجديد». ونمت القارة الأميركية، شمالها ووسطها وجنوبها، وتكاثرت أعداد المهاجرين إليها، كل فئة تحمل معها أطباقها المألوفة والمفضلة. وحتى اليوم لا ينازع أحد الإيطاليين على البراعة في إعداد «البيتزا» والسباغيتي وأصناف المعكرونة العديدة، ولا شك في أن لواء البرياني والتيكا معقود للهنود، والسوشي والساشيمي لليابانيين، والأرز المقلي والـ«ديم سوم» للصينيين، والكسكس واللحم المطهو بالطاجن و«الحريرة» لأبناء المغرب العربي، والفلافل والحمص بالطحينة والتبولة لأبناء بلاد الشام.

وتبقى أميركا إحدى أبرز ميادين «الثورة المذاقية» في العصر الحديث، ومثلما أدخل الأوروبيون إلى نيويورك وبوسطن والساحل الشرقي للولايات المتحدة وكندا وأجزاء واسعة من أميركا الجنوبية والوسطى، أصناف المطابخ الألمانية والإنجليزية والفرنسية والإيطالية والإسبانية والبرتغالية، حمل المهاجرون الصينيون واليابانيون إلى الساحل الغربي، وبخاصة ولاية كاليفورنيا، أطباقهم المميزة اعتبارا من النصف الثاني من القرن الـ19.ونجد اليوم بين أشهر مأكولات الوجبات السريعة في أميركا «الهامبورغر» ـ مع أنه لا صلة مباشرة بين مدينة هامبورغ الألمانية والهامبورغر التي تباع اليوم في كل أنحاء العالم ـ والفرنكفورتر (أصل ألماني)، و«البيتزا» وأنواع المعجنات «الباستا» (أصل إيطالي)، و«الكايجون» وهو المطبخ ذي الأصول الفرنسية الذي تطوّر واشتهر في ولاية لويزيانا بجنوب الولايات المتحدة وداخلته الصلصات الحارة والمحتويات المحلية. أما اسم «كايجون» فتحريف لـ«أكاديان» الذي يشير إلى منطقة أكاديا التي استقر بها المهاجرون الفرنسيون في شرق كندا قبل أن يهاجروا إلى لويزيانا. كذلك تطوّر في الولايات مطبخ محلي آخر له طابعه وأصوله الأوروبية والهندية الحمراء هو الـ«تكس مكس»، المشتق اسمه من اسمي «تكساس والمكسيك»، وفيه أيضا تزاوج مذاقات بين أوروبا والقارة الأميركية.وعلى جانب آخر من العالم، كانت القوى الأوروبية المستعمرة (بكسر الميم) تتفاعل مع مستعمراتها ومحمياتها في آسيا وأفريقيا. وبينما حمل البريطانيون والفرنسيون ـ تحديدا ـ مؤسساتهم وعلومهم ومفاهيمهم إلى شبه القارة الهندية وجنوب شرقي آسيا والعالم العربي والقارة الأفريقية، بدأت تتكون في أوروبا جاليات متنامية من أبناء المستعمرات والمحميات، حاملين معهم وجوها متعددة من ثقافتهم، منها ثقافتهم الغذائية ومطابخهم المميزة. وهنا لا بد من التذكير، بأن التفاعل بين عدد من الأجزاء المتجاورة في «العالم القديم» سابق بفترة بعيدة للتأثير الاستعماري الأوروبي. إذ تنازع الهيمنة على عموم منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، الفرس والبيزنطيون قبل الفتح الإسلامي، وبعد ذلك سيطرت الدول الإسلامية المتعاقبة العربية وغير العربية على كل هذه البلاد الشاسعة بين الأندلس وشرق آسيا.واليوم، إذا أجرينا، على سبيل المثال، عرضا سريعا لأسماء الأسماك المرغوبة على موائد العالم العربي، نلحظ في منطقة الخليج أسماء إيرانية كـ«روبيان» (يقابلها الجمبري في مصر، والقريدس في بلاد الشام)، بينما في شرق المتوسط، وبالذات في مصر، أسماء يونانية أو إيطالية مثل الـ«بربوني» (السمك المعروف في بلاد الشام بـ«السلطان ابراهيم»)، والـ«إستاكوزا». والشيء نفسه ينطبق على الخضار والفواكه الطازجة أو المأكولات المطبوخة، حيث تتعدد مصادر الأسماء التي تبادلتها في ما بينها شعوب المنطقة على مر العصور وتحت سلطات الدول المتعاقبة التي تعرضت حدودها للمد والجزر. ولعل أحدا منا لا يتوقف طويلا عند كلمات استوردناها من حضارات أخرى كإيران والهند وتركيا واعتدنا على استخدامها، مثل: «باذنجان» و«سبانخ» و«بندورة» (أصل الكلمة إيطالي هو «بومو دورو» ومعناه «التفاح الذهبي»)، و«بقلاوة» (الحلوى الشهيرة)، و«ضولمة» (المحاشي على أنواعها)، و«يبرق» (ورق العنب الملفوف)، و«كفتة»، و«كشري»، و«شاورما»، و«مرزيبان» (مرصبان). كما تشتهر دول المغرب العربي بـ«البسطيلة» Pastilla، والواضح أن الوصفة الأصلية، كما يدل الاسم، من أوروبا. ودخلت إلى المطبخ الخليجي والمطبخ العماني والمطبخ اليمني، أطباق ووصفات هندية وشرق افريقية وجنوب شرق آسيوية. وتعددت في بلد ضخم المساحة كالسودان مصادر التأثر بالمطبخين المصري والشامي في الشمال ووادي النيل، وبالمطبخ الأثيوبي في الشرق، وبقي للغرب هويته الصحراوية، وللجنوب هويته الاستوائية.

وفي المقابل، دخلت إلى مفردات المطابخ في تركيا واليونان، كلمات ومصطلحات عربية من بلاد الشام وغيرها مثل «المهلبيّة»، و«اللحم بعجين» (تلفظ بالتركية «لاهماجون»)، و«القطائف» (تلفظ بالتركية «كدايف»)، و«المسقّعة» ـ أو بالأصح «المصقّعة» ـ (التي تعرف في اليونان بـ«موساكا»)، كما أخذ الإسبان عن العرب منذ القدم أسماء أخرى منها «أزايتي»/«أثايتي» (الزيت)، و«أزيتونا»/«أثايتونا» (الزيتون) والطبق الشهير الـ«باييّا»... وأصل الكلمة «بقيّة» أو «بقايا» الطعام. وحتى داخل كل بلد عربي، ثمة تمايز وتداخل، فمثلا لا تؤكل «الكبة النيئة» إلا على ساحل شمال سورية ولبنان وأقصى شمال فلسطين، بينما في الداخل السوري والأردن وجنوب فلسطين لـ«المنسف» صدر قاعة الطعام أو المضافة. وفي مصر، يطلق على أكلة واحدة اسم «طعمية» في القاهرة، وكذلك في السودان واسم «فلافل» في الإسكندرية ومدن أخرى. وتتعدد المكونات تبعا للانتاج المحلي في الأكلة الواحدة كـ«الكبسة» و«المفروكة» و«صيّادية السمك» و«الملوخية» وغيرها. وبينما تشتهر بعض دول المشرق العربي بالحلويات المشتملة على الفستق والجوز والتمر، تشتهر دول المغرب العربي بحلويات اللوز والعسل. هل تعلم

* أن المهاجرين الإيطاليين هم الذين أدخلوا الطماطم (البندورة) إلى الولايات المتحدة الأميركية في منتصف القرن التاسع عشر؟.

* أن الإيرلنديين وغيرهم من الشعوب الأوروبية التي تعد البطاطس جزءا أساسيا من مطبخها لم يعرفوا البطاطس إلا بعد اكتشاف كولومبوس القارة الأميركية عام 1492؟.

* أن اسم «كيتشاب» Ketchup ، الجزء المكمل لـ«الهامبورغر»، ليس أميركي المنشأ، بل أصله ماليزي؟