إيلي صعب يحقق هدفا جديدا في المرمى الباريسي

TT

لم يكن المصمم اللبناني إيلي صعب، يتوقع الأحداث اللبنانية التي اندلعت بعد أسبوع الموضة بباريس بأيام، وإلا كان قد اتبع نهج المصمم جون غاليانو، مصمم دار «كريستيان ديور»، الذي أرسل عارضاته مدرعات وكأنهن متوجهات لحرب، لكنه في المقابل كان يحلم بزمن جميل ومرفه، زمن الإمبراطورات والأميرات، وهو الزمن الذي يميل له ويفهم أدواته جيدا. قد يكون المصمم الفرنسي جون بول غوتييه، أكثر من لعب على فكرة الحلم من خلال عارضات في صورة حوريات يتجولن في غابة مسحورة، في عرضه لخريف وشتاء 2006 ـ 2007، الذي غلبت عليه الفساتين الطويلة المزينة بالريش والفرو بألوان اوراق الشجر والحيوانات المختلفة، لكن إيلي صعب الذي ترجم صورة سيندريلا بإتقان على مسرح بإخراج بسيط لم يلجأ فيه للاستعراض، بل ترك فيه البطولة المطلقة للفساتين الدرامية. فتسريحات الشعر والماكياج كانت في غاية البساطة والعصرية، وتجنب كعادته الشطحات الفانتازية التي يعتمدها البعض لجذب الانتباه، هذا عدا انه استغنى عن أي نوع من الاكسسوارات، على عكس العديد من الباريسيين المخضرمين الذين لم يقاوموا إغراءاتها ولو من خلال قفازات يد أو قبعات رأس.

وربما هذه العصرية «السهلة» هي ما ستجعل أزياءه تحلو اكثر في عيون النجمات العربيات و«الهوليوديات» على حد سواء. فإذا كان هناك مصمم مخلص لصورة الأميرات الساحرات ومصر ان يعيّشنا الحلم الذي راودنا كثيرا ونحن صغيرات، فهو بلا شك المخلص والحريص الدائم. قد يكون هذا الوفاء مترجما بطريقة بريئة إلى حد السذاجة بالنسبة للبعض ممن يعتقدون ان موسم «الهوت كوتير»، هو موسم التفاصيل الدقيقة والمعقدة، لكن صعب ينجح دائما في تفنيد هذا الرأي بحمل كل من يحضر عروضه، من سيدات مجتمع وأميرات، وكل من يرى صور فساتينه الطويلة من الساتان ذات التطريزات اليدوية في تصميمات محسوبة بدقة وعناية تجعل كل جزء منها ينسدل على الجسم بروعة، إلى عالم الف ليلة وليلة.

فقد برهن مع الوقت على انه فنان «الهوت كوتير» ومصمم المرأة الرومانسية التي تريد ان تتألق مثل النجمة بغض النظر عن جنسيتها.

صحيح انه يميل أحيانا إلى الدرامية، لكنها هذه المرة درامية عصرية تتقن لغة امرأة شابة تتمتع بذوق رفيع وإمكانات مادية عالية (فنحن نتكلم عن الهوت كوتير، التي قد تستغرق فيه حياكة فستان واحد وتطريزه وترصيعه بالأحجار أسابيع بل وأشهرا). باستثناء فستان الزفاف الذي جاء يخاطب السوق العربية بتفاصيله الكثيرة وترصيعاته، فإن مجموعته تميزت بنفس جديد، بحيث لا يمكن تجاهل التغيير الذي طرأ على أسلوبه فيها، فقد نضج وتمكن من أدواته أكثر بعد كل هذه السنوات، الأمر الذي اعطاه الثقة بأن يخفف من التفاصيل الكثيرة التي رأيناها في بعض تشكيلاته السابقة، إلى جانب أنها هذه المرة جاءت أكثر اتزانا، إن صح القول، أي أقل جرأة.

فبعد ان كانت الفتحة عند جانب الساق في السابق تصل إلى الخصر، أصبحت بالكاد تجلس فوق الركبة، كذلك قصات الصدر وغيرها، وهو الأمر الذي يتماشى مع الأسلوب الإمبراطوري الغالب على التشكيلة، ومع الاتجاه الحالي في أوساط الموضة، حيث يغلب الجانب «الرزين» على الجانب الجريء. فالمرأة العصرية كما اصبح معظم المصممين يرونها امرأة راقية ورومانسية، تكمن جاذبيتها في غموضها من خلال تصميمات تلتف حول الجسد وتغطيه بالدانتيل والتول والشيفون، وبألوان لا تقل «رزانة» تتباين بين درجات الأسود والأبيض والأزرق النيلي والباذنجاني والأخضر الزمردي وليس بتصميمات والوان مبهرجة. إيلي صعب ركب الموجة بمهارة، من خلال فساتين يغلب عليها السواد تستدعي «غموض الكاتدرائيات»، سواء من حيث الألوان الداكنة أو الأقمشة التي تباينت بين الدانتيل والتافتا المغزولة بالحرير والأروغنزا، أو من حيث التصميمات القوطيّة ذات الياقات العالية وأطراف الأكمام متفاوتة الطّول. الملاحظ انه، ومن خلال هذه التشكيلة، بدأ عهدا جديدا له في باريس، فبعد ان كان دخيلا عليها، وبعد ان شكك بعض المخضرمين في أسلوبه الذي كان «مختلفا» عن التقاليد الباريسية في أولى خطواته بها، تهمته في ذلك تصميماته الجريئة التي تشبه اسلوب بعض الإيطاليين، اصبح الآن بإمكانه ان يرد الصاع صاعين ويعلم بعضهم معنى البساطة الراقية والعصرية التي لا تحتاج إلى أدوات أو اكسسوارات لدعمها أو إبراز جمالياتها، تماشيا مع متطلبات السوق. صحيح انه فنان مبدع، لكنه ايضا رجل أعمال من الدرجة الأولى، مثله في ذلك مثل العديد من المصممين العالميين من أمثال جيورجيو ارماني، الذي يلتقي معه في عدة نقاط أخرى غير مجال المال والأعمال، كالتوجه لنجمات هوليوود بتودد صريح بعيد عن المواربة، بل يمكن القول انه تفوق على الكثيرين منهم في أنه عرف سوقه منذ البداية، وظل وفيا لها وبادلته هي الأخرى نفس الوفاء، وهو الآن يحصد ثمار ما زرعه منذ سنوات. ففي الوقت الذي بدأ فيه بعض المصممين العالميين يتلمسون طريقهم إلى السوق العربي في السنوات الأخيرة بفتح محلات وإقامة عروض خاصة، تبقى مكانة إيلي صعب مترسخة فيها ومضمونة. فزبوناته عديدات ويثقن في أسلوبه، والأهم من هذا مستعدات لدفع مبالغ كبيرة من اجل الحصول عليها، لأنهن بذلك يضمن التألق الذي يحلمن به.

فأسلوبه قد يفتقد إلى فخامة «الهوت كوتير» التقليدية بمعايير «فالنتينو» أو «كارل لاغرفيلد»، كما قد يفتقد إلى فنية «جون غاليانو» و«لاكروا»، إلا انها «هوت كوتير» محسوبة تتوفر على كل الأسس التي يحتاجها وتخاطب السوق التي يتوجه لها، وهنا يكمن ذكاءه العملي والإبداعي. فما الفائدة من ازياء تتمتع بفنية عالية لا تبيع ولا يفهم طلاسيمها إلا صاحبها ولا تحبها سوى وسائل الإعلام لما تقدمه لهم من صور مثيرة؟ ولعل المصمم جيورجيو ارماني، الذي كما نعرف يلتقي مع صعب في نقاط عديدة خير من عبر عن هذا الأمر بقوله: «لا بد من إعادة بعض الواقعية لـ «الهوت كوتير» لأن المبالغة كادت ان تقضي عليها، إذ ليس من المعقول ان يطلق الواحد منا العنان لجموحه من أجل لفت الانتباه وتحقيق الربح في مجال الاكسسوارات ومنتجات التجميل.. «الهوت كوتير»، لا يجب ان تكون مسرحية، فالمرأة لا تريد ان تبدو مضحكة.. أنا مع الأزياء المرحة على شرط ان تكون أنيقة». وهذا ما يبدو أن إيلي صعب يحاول القيام به: إعادة الأناقة الرفيعة إلى الواقع وإلى باريس، وهذا ما أكسبه ثقة زبوناته من امثال المطربة جوليا بطرس التي صرحت بعد انتهاء عرضه بأنه «يجعل كل امرأة تشعر بانها نجمة.. فأنا أشعر بقمة الأناقة عندما ألبس احدى إبداعاته، ولا شك انه واحد من أهم المصممين في العالم حاليا».