عندما تتحول الازدواجية إلى ميزة وجمال

باريس ربيع وصيف 2007 تتمرن على خوض المستقبل

TT

عكس أسبوع ميلانو للموضة الذي اتجه فيه المصممون إلى الماضي، فإن مصممي باريس كانت اعينهم على المستقبل أولا وأخيرا، فيما مثل لهم الماضي مجرد عكاز يعتمدون عليه لبناء هذا المستقبل. وهو أمر رائع إذا أخذنا بعين الاعتبار ان معظمهم من المخضرمين في دور أزياء لها تاريخ عريق وأرشيف ضخم يخول لهم الغرف منه بقدر ما يشاؤون. لكن باستثناء جون بول غوتييه الذي كان له حق الاحتفال بتاريخه، بمناسبة مرور ثلاثين سنة على بدايته كمصمم، فإن الباقين عادوا إليه بخفر مشوب بالتحدي والحسرة. التحدي لإبقاء إرثهم مستمرا والتأكيد على أن معينهم لم ينضب بعد رغم مرور السنين، بدليل ما قدمه فالنتينو، السبعيني، من ازياء تخاطب زبوناته الوفيات وحفيداتهن الشابات بلغة سلسة وعصرية للغاية أو ما قدمه كارل لاغرفيلد، 68 سنة، من فساتين ستجد لها مكانا في خزانات الصغيرات لسنوات عديدة مقبلة. أما الحسرة فهي على مستقبل بيوتهم التي بنوها برؤية واضحة وكلهم آمال ان يرتقوا بالموضة إلى مستوى فني عوض المتاجرة بها، ليتفاجأوا بأن الأولوية الآن تعطى للعطور والحقائب التي اصبحت الدجاجة التي تبيض ذهبا للمجموعات المالكة لبيوتهم. بالإضافة إلى هذا، هناك بحثهم عمن يمكن ان يسلموه المشعل ليحمل بيوتهم إلى هذا المستقبل من دون مطبات؟. إيف سان لوران توفق في خليفته الجديد ستيفانو بيلاتي ونفس الأمر يمكن ان يقال عن دار سيلين ومصممتها الشابة إيفانا أوماجيك، فيما ما زال البعض الآخر يبحث ويجرب، مثل إيمانويل أونغارو الذي توقف عن التصميم في عام 2004.

في عام 2002 اختار إيف سان لوران التقاعد طواعية، معلنا خيبة امله في ما آلت إليه أحوال الموضة، وغضبه من توجهها التجاري. بعد ذلك تابعنا صراعه المرير مع خليفته، توم فورد، الذي لم يفهم روح الدار «قبل ان يغادرها ويتسلم ستيفانو بلاتي قيادتها». لكن إذا كان لوران هو من قرر الابتعاد، فإن بعض المصممين قد يضطرون إلى التقاعد بسبب السن، أو فقط لأن الزمن ليس هو الزمن، خصوصا أن الرغبة في تقديم قطعا فريدة، بمثابة تحف في تصميمها، اكثر منها ملابس للمناسبات، قد تجد تهليلا من قبل وسائل الإعلام لكنها لا تبيع أو تشبع، لا سيما أن العديد منهم لم يعد يمتلك سوى بضعة أسهم ووظيفة شرفية في البيوت التي أسسوها، اي عليهم ان يتقبلوا الواقع. بيد أن ما يحسب لباريس أنها لبيبة عندما يتعلق الأمر بالموضة، فقد أدركت سريعا أنها لا يمكن ان تعتمد على الفن الذي لا يبيع، وفي الوقت ذاته تعتز بكونها مهد الأناقة، مما جعلها تتدارك الأمر وتتوصل إلى الحل الوسط على أمل العودة إلى قواعدها سالمة. وهذا ما حصل تماما خلال هذا الأسبوع الحافل الذي كان عبارة عن كوكتيل بمذاق حلو ومالح. لحسن حظنا أن الحلاوة كانت الغالبة، والفضل يعود إلى اتفاق المصممين المخضرمين والشباب، إعطاء دور البطولة إلى الفستان الذي يبتعد عن الرومانسية ويتسم بالحداثة والحيوية والحرص على التفاصيل الفنية في ازياء عملية تتكلم لغة فرنسية واضحة. المشكلة فيه انه جاء قصيرا جدا في الكثير من الحالات، لكن كارل لاغرفيلد، مصمم دار شانيل، حل هذه المشكلة ببساطة واقتضاب: «يمكن ارتداؤه فوق بنطلون». حل بسيط وعملي لمشكلة لا اساس لها فعلا. الجدير بالذكر ان هذا الأخير، وإن عاد إلى إرث الآنسة كوكو شانيل، الفستان القصير والناعم، إلا انه أضفى عليه لمسات عصرية ومستقبلية، تناسب كل زمان ومكان، بحيث لا يمكن لأي امرأة ان تراه من دون ان تتمنى ان تحصل عليه، أو على الأقل تتصور نفسها تختال بواحد منه، فهنا ثنية إضافية وهناك طيات متعددة إلى آخره من التفاصيل الرائعة. أكثر ما يحسب لشانيل هنا انها قدمت تشكيلة برؤية واضحة وبترف لا يمكن تجاهله، والمقصود هنا ليس الترف المادي فقط، وإن كان هذا أساسيا، لكنه أيضا ترف في الذوق. مما ساعد على مضاعفة أناقتها الاكسسوارات المكملة لها، بدءا من حقائب اليد إلى الأحزمة التي يمكن ان تقوم لوحدها بدور مبضع جراح لاي زي. اللافت ايضا انه عكس العديد من المصممين ظل وفيا للونيه المفضلين: الأبيض والأسود. غير أن الحديث عن باريس لا يكتمل من دون الحديث عن المايسترو جون غاليانو، مصمم دار كريستيان ديور. فإذا كان هناك شيء يترقبه عالم الموضة منه، فهو بلا شك عرض يضج بالفانتازيا أو السريالية. صحيح انه قد يصدم لكنه حتما يثير الإعجاب لما يبرهن عليه من خيال خصب وجرأة فنية يحسد عليها، كما أنه قد يتعرض لبعض الانتقادات لكنها سرعان ما تتبخر ليحل محلها تهليل وتصفيق. صحيح انه فاجأنا هذه المرة أيضا، لكنها مفاجأة من نوع آخر، تمثلت في عرض هادئ جدا بمقاييسه. عرض افتقد تماما إلى الفانتازيا التي أخذتنا سابقا إلى عوالم بعيدة مثل البيرو أو مصر القديمة أو روسيا القيصرية أو فقط فرنسا في قرون غابرة، كعصر جان دارك او ماري أنطوانيت وما شابه واكتفى فيه بأرشيف الدار. صحيح ان جان دارك كانت حاضرة هنا ايضا، لكن شتان بينها في تشكيلته للهوت كوتير بقوتها وعنفوانها، وبينها في هذه التشكيلة، التي جاءت فيها مكسورة وباردة. افتقادها إلى الدرامية افقدها الكثير من سحرها بلا شك، هذا عدا ان تسريحات الشعر الغريبة لم تساعد كثيرا على تحسين الصورة، ولا تفسيره لتوجهه الهادئ بأنه رغبة في الابتعاد عن العاطفة وتبني العقلانية. التايورات التي افتتح بها عرضه كانت إعادة صياغة للجاكيت الذي تتميز به دار ديور، مع اختلاف بسيط انه أكثر اتساعا ولا شك سيلقى قبولا من طرف المرأة الناضجة. الفساتين في المقابل كانت رائعة وتحمل كل بصمات غاليانو بتفاصيلها التي تجعلها تنسدل على الجسم بانسيابية يتقنها جيدا. لأنه إذا كان هناك شيء يميزه فهي التفاصيل الدقيقة. ما زاد الأمر سوءا اننا كنا نتوقع منه ان يتحفنا هذه المرة، على وجه الخصوص، بعرض مسرحي مميز لانه في غضون أسابيع سيحتفل بعشر سنوات على بداية تعاونه مع دار ديور، وهو التعاون الذي نتج عنه الكثير من الإبداعات الفنية والنجاحات التجارية التي لن تتأثر بالنظر إلى الحقائب التي أرسل عارضاته بها هذا الاسبوع، والتي حرص فيها على استعمال الخامات المترفة والتصميمات العملية التي ابتعد فيها عن «اللوغوات» الكثيرة.

في المقابل لم يبدُ أن الزمن استطاع أن ينال من جون بول غوتييه، ولا الانتقادات قد أثرت عليه فهو ما زال المصمم المشاغب، كما يطلق عليه. هذه السنة يحتفل بمرور ثلاثين سنة على بدايته كمصمم. ثلاثون عاما مرت وما زال في نفس الشقاوة ونفس الحماس والاندفاع، الأمر الذي انعكس على عرضه الحافل بقطع من الماضي أضاف عليها لمسات عصرية لتناسب الحاضر، بدءا من الكورسيهات المبتكرة التي ظهرت بها مادونا في الثمانينات إلى تلاعبه بالملابس الرجالية المؤنثة أو النسائية المذكرة مرورا بالمعطف الممطر الذي قالت عنه النجمة كاثرين دونوف «إذا كان اسم إيف سان لوران يرتبط بالتوكسيدو، فإن اسم جون بول غوتييه يرتبط بالمعطف الممطر». الغالب على تشكيلته هاته التصميمات الرياضية لكن ليس بالمفهوم الكلاسيكي، فالياقات جاءت مفتوحة «ديكولتيه» والفساتين مطرزة بالأحجار والسلاسل، والبنطلونات ضيقة من قماش اللاميه والأحذية الرياضية مذهبة وهكذا. أما استعانته بعارضة سمينة، فلم يكن ردا على الجدل الدائر حول استعمال العارضات النحيفات بشكل مرضٍ، الذي لم تصب شظاياه باريس إذا كان العدد الكبير لعارضات تبدو عظامهن نافرة، هو المقياس، لكنه تقليد يتبعه غوتييه ويدخل في خانة جنوحه لإحداث الصدمة أو المفاجأة، إذ انه كان أول من استعمل فتيات من الشارع منذ عدة سنوات عوضا عن عارضات محترفات، وهو الذي يعشق إلباس الحيوانات أيضا تصميماته وهلم جرا من الغرائب والعجائب. عند «اكريس» كان الجو السائد مختلفا، ابتعد عن الإثارة وركز على الأناقة العملية التي تبيع. فقد تميزت تشكيلته بخدع بصرية تبدو فيها الياقات من بعيد مفتوحة جدا لكن عند الاقتراب منها نجد ان المصمم ألبير كريملر قد استعمل قماشا بلون البشرة، هذا عدا عن تلاعبه بالحجم، فما قد يبدو بالونيا من الأمام يتحول إلى مستقيم يعانق الجسم من الخلف والعكس. الحجم أيضا كان «التيمة» الغالبة في عرض دار «لويفي» الإسبانية التي بدأت، مثل غوتشي الإيطالية وهيرميس الفرنسية في مجال الجلود والاكسسوارات الجلدية قبل ان تتحول إلى مجال الأزياء لتحقق فيه نجاحا كبيرا في اوساط العارفين من الطبقات المالكة والمخملية. مصممها جوزيه انريكيه أونا سيلفا تفوق على نفسه هذه المرة وقدم تصميمات جد عصرية بلمسات مستقبلية بدت واضحة في الأسلوب المبتكر الذي تبناه في التلاعب بالحجم والتوازن. بعض الأكمام، مثلا جاءت واسعة وفضفاضة بشكل جديد ومثير بعضها ببليسيهات وبعضها شفاف، كما قص الفساتين بأسلوب ينسدل على الجسم من الأكتاف إلى الركبة بطريقة تجعل الجسم يبدو اكثر رشاقة، لانه كما قال لنا ركز على «بناء كل زي بطريقة هندسية». وإذا كان جوزيه انريكيه قد توخى البقاء وفيا لاسلوب «لويفي» العريقة، فإن المصممة صوفيا كوكوسالاكي ابتعدت عن جذورها اليونانية والتأثيرات الإغريقية التي غلبت على تشكيلاتها في السنوات الماضية، خصوصا استعمالها للدرابيه والثنيات السخية، التي أثرت بها الموضة بصفة عامة منذ أولمبياد أثينا الأخير، وتبنت أسلوبا جديدا علينا وعليها، بدت فيه متعثرة بعض الشيء. البعض يعيد هذا التحول إلى اقتراب موعد تسلمها قيادة دار «فيونيه» العريقة ومحاولتها فهم روح الدار. هذه المشكلة كانت بعيدة كل البعد عن دار «سيلين» التي قدمت عرضا مميزا أكدت فيه المصممة الشابة إيفانا أوماجيك، أن المرأة اكثر من تفهم بنات جنسها بتقديمها ازياء عصرية للغاية تجمع بين الأناقة الكلاسيكية والروح الرياضية الشابة. إلا انها مثلها مثل غيرها، لعبت على مفهوم الإزدواجية بين الواسع البالوني والضيق، تماما مثل «لويفي» و«أكريس» و«كاشأرييل» وكريستيان لاكروا، وبين الأنوثة والرجولة مثل ما فعل جون بول غوتييه، لكن على طريقتها وحسب فلسفتها الخاصة. فقد ركزت على الازدواجية بين الخفيف والثقيل، وبين السميك والشفاف في استعمالها الاقمشة، وهو الأمر الذي لم يكن سوى ترجمة لفكرتها عن الازدواجية بين القوة والأنوثة «فالمرأة حاليا تريد ان تكون قوية وناعمة في الوقت ذاته.

بمعنى ان لا تأتي قوتها على حساب انوثتها» وهو ما صرحت به أوماجيك للشرق الأوسط مضيفة: «إنها بالنسبة لسيلين امرأة تعرف إمكاناتها جيدا وواثقة من نفسها، سواء في حياتها الاجتماعية أو العملية، وهذا يجعلها لا تحتاج إلى ان تتشبه بغيرها أو أن تتبنى شخصية غير شخصيتها، أي من دون ان تتنكر لنعومتها أو أنوثتها.. انها تشكيلة تحتفل بجمال المرأة». وهذا تماما ما فعله المصمم كريستيان لاكروا الذي أهدى المرأة باقة من الفساتين المتنوعة بالوان تباينت بين الهادئ الكلاسيكي، والمتوهج بألوان الطبيعة والبحر، حتى يتيح لها المجال للاختيار.