القاعدة: طول البنطلون يحدد عرضه

تختاره واسعا أم ضيقا .. هذا هو السؤال

TT

في العقود الأخيرة، أتحفنا المصممون بتوليفة مشكّلة من البنطلونات الخاصة بالرجال، وكأنهم لم يصدقوا حظهم بالاستعداد الذي أبداه الرجل لمعانقة الموضة. في البداية اقتصرت جرأتهم على الألوان أو الاكسسوارات، لكنهم بعد أن تأكدوا تماما من أنه أيضا اصبح يريد ان يلعب بالأزياء وان يغيرها حسب المواسم، مثله في ذلك مثل المرأة، بدأوا يجربون شطحاتهم في القصات ايضا. ولم ينج البنطلون من شطحاتهم هاته. فهو لم يعد يعترف بالحل الوسط، أي بقصة مستقيمة كلاسيكية، بل اصبح الرجل المسكين فجأة يواجه زخما من التصميمات التي تتباين بين الواسع بشكل لا يصدق، والضيق بشكل يبدو للناظر مؤلما، وفي كلتا الحالتين فإنها في أحسن الحالات تصميمات تخاطب الرجل الرشيق والطويل أو الشاب العصري والجريء، وفي أسوأ الحالات ضحية الموضة الذي لا يعرف ما يناسبه. الحقيقة ان هذين الإبداعين (الضيق والواسع) ليسا جديدين بالمعنى الحرفي، إذ لو رجعنا لصور قديمة لوجدنا ان البنطلونات الواسعة كانت حاضرة في الأربعينات من القرن الماضي بخصرها العالي الذي يغطي الكرش تماما ويكاد يلامس الصدر (إذا لم تتوفر صور الأقرباء فهناك الافلام السينمائية القديمة طبعا)، ثم ظهرت مرة أخرى في منتصف السبعينات مع الهيبيز واستمرت إلى الثمانينات وإن اختلفت خاماتها وتغير خط الخصر فيها. أما بالنسبة للضيقة فقد كانت قوية في الخمسينات والستينات، وظهرت هي الأخرى في السبعينات مع ولادة موجة «البانكس» التي غزت أوروبا عموما وبريطانيا خصوصا، كون عرابتها المصممة البريطانية فيفيان ويستوود. الفرق في هذين التصميمين بين الأمس واليوم، ان البنطلونات كانت آنذاك ترتبط باعتقادات وانتماءات خاصة، سواء كانت موسيقية أو سياسية أو ثقافية بينما هي اليوم «موضة» بحتة. ومما يذكر انها كانت في بريطانيا في السبعينات على وجه الخصوص تثير بعض الشغب والمناوشات بين الفريقين، لأن كل واحد منهما كان يلبس معتقداته وتوجهاته في بنطلون إما يكون ضيقا أو فضفاضا. ومن الأقوال الطريفة التي أطلقها فريق الهيبيز، من ذوي البنطلونات الفضفاضة، نكاية بغرمائهم البانكس، من ذوي البنطلونات الضيقة جدا، آنذاك أن «حجم البنطلون يعكس حجم العقل».

الآن في ظل الثقافة السائدة التي تسمح بكل شيء وتنظر إلى كل الأساليب بنظرة متفهمة على اساس ان كل شيء جائز، ما دام هناك ذوق خاص، فقد تخلص كل من الواسع والضيق من إيحاءاتهما المتحدية، وأصبحا مجرد تصميمين مختلفين يعكسان شخصية من يلبسهما واسلوبه في الحياة بغض النظر عن توجهاته السياسية أو حتى الموسيقية، لا سيما أن بعض نجوم الروك اند رول أنفسهم من الذين كانوا يلبسون بنطلونات واسعة في السبعينات، ونذكر منهم على سبيل المثال ديفيد بوي، اصبحوا يقبلون على الضيقة، تقديرا وإعجابا بالمصمم الشاب، هادي سليمان، المصمم الفني في دار كريستيان ديور للازياء الرجالية. لكن على ما يبدو فإن الإخلاص سمة أكل الدهر عليها وشرب، فكما هم غيروا جلدهم، كذلك الأمر بالنسبة لأسلوب هادي سليمان، وإن كان الأمر مفروضا على هذا الأخير باسم الموضة والإبداع، وبالتالي فقد شهد اسلوبه تغييرات واضحة في تشكيلته الموجهة لموسمي الخريف والشتاء لهذا العام، فهي اكثر سخاء من حيث استعمال الاقمشة وبالتالي اكثر اتساعا وراحة. ولم يختلف عنه كثيرا كل من الثنائي فيكتور اند رولف وجون بول غوتييه و«كوم دي غارسون» وألكسندر ماكوين. باستثناء هذا الأخير، الذي كسر هذه القاعدة بطرحه بنطلونات واسعة بخصر عال جدا مع حزام، فإن الباقين اقترحوا ان نعانق الواسع والفضفاض لكن فقط إذا كان الخصر غير عال على طريقة الأربعينات، فهي برأيهم لم تكن انيقة أبدا، أو منخفضا بشكل مبالغا فيه بالطريقة التي رأيناه بها في المواسم الاخيرة. بعبارة اخرى الحل الوسط هو الأمثل عندما يتعلق الأمر بالخصر، والبنطلون الفضفاض بالذات. يقول أدريان كلارك، وهو محرر ازياء في مجلة «فاشن إنك» إن المصمم هادي سليمان اكثر من نجح في ترجمة هذا التوجه «فقد أعطى التصميم الفضفاض دما جديدا» مفسرا قوله بأن هادي جعلها تجلس على منطقة الخصر، الأمر الذي منحها التوازن المطلوب بالرغم من اتساعها الشديد ورغم طولها المبالغ فيه الذي يصل إلى الأرض، حتى تكاد تغطي الحذاء. فالوصفة التي أتقنها هادي وغيره من المصممين المتخصصين في أزياء الرجال، هي ان الطول المبالغ فيه هو الأنسب للتصميم العريض وإلا بدا المظهر غير منسجم ونشاز، وما علينا إلا ان نتصور بنطلونا عريضا بطول قصير أو يتوقف فوق الحذاء لنعرف السبب. هادي ايضا نجح في إضفاء الكثير من تقنيات الهوت كوتير التي تتميز بها دار كريستيان عموما على هذا التصميم، وهذا ايضا عنصر يحسب له.

الخطأ أو المأخذ الوحيد على بعض هذه التصميمات انها جاءت بطيات وثنيات عند الحزام، وهو ما يمكن ان يزيد من عرض منطقة الورك بالنسبة للعديد من الرجال، هذا عدا انه من السهل أن يعطي مظهرا «ريترو» قديما للبعض. لكن اتجاه هادي سليمان الجديد نحو الاتساع، وهو الأمر الذي فاجأ العديد من المعجبين بتصميماته الرشيقة التي تخصص وتألق فيها، إلى حد ان مصمم دار شانيل، كارل لاغرفيلد، اعترف ان من أهم الاسباب التي دفعته إلى إنقاص وزنه بشكل جذري هي رغبته في ارتداء تصميمات هذا المصمم الشاب، لا يعني موت التصميم الضيق والرشيق. فالعديد من المصممين ما زالوا متشبثين به ومخلصين له، رغم مظهره المثير للألم والشفقة لدى الآخر، ونذكر منهم جون غاليانو، درايز فان نوتن، بيربيري، بالنسياجا، راف سيمونز، غوتشي، دولتشي اند غابانا وروبرتو كافالي. كما ان بنطلونات الجينز ذات التصميم الأنبوبي ما زالت هي السائدة في شوارع الموضة العالمية. وهنا يتبادر إلى الذهن سؤال مهم يحير الرجل الذي لم يتعود بعد على تقلبات الموضة غير العقلانية والمنتظرة: هل يتبع الموضة بحذافيرها ويكون مثل باقي الرجال، أم يكون سباقا لمعانقة موضة جديدة حتى لو لم تعط الإحساس بالارتياح في البداية؟ والجواب بدون تردد يتوقف على العمر والمقاييس الجسدية. الرجل الذي لا يتمتع بمقاييس رياضية أو رشاقة الغزلان، أو الذي من المفترض ان يكون قد وصل مرحلة من العمر اكتسب خلالها الحكمة والدراية، عليه ان يعانق الموجة الجديدة ويتجنب البنطلونات الرشيقة إلى حد الالتصاق، فهي لا تناسب سوى ذوي المقاييس الرشيقة وشريحة الشباب أو المراهقين الذين يتبعون حمية غذائية قاسية، وليس لهم خصر أو أوراك أو أرداف، وبالتالي فإن أي شخص لا ينتمي إلى هذه الشريحة وتسول له نفسه الاقتراب من هذا التصميم يكون كمن يلعب بالنار. في المقابل تتميز البنطلونات الواسعة بتصميمها الحالي بكونها اكثر عصرية وديموقراطية. فهي تخاطب كل الشرائح بغض النظر عن العمر والمواصفات الجسدية، لكن إذا كنت قصيرا فإن الحل الوسط افضل > تجدر الإشارة إلى أن «المدرسة الكلاسيكية في تصميم الملابس الرجالية في شارع «سافيل رو» بلندن، كانت تتبع مبدأ اساسيا قبل التفصيل تعتمد على النظر إلى كعب الزبون لمعرفة ما إذا كان أسفل البنطلون يغطي ثلثي الحذاء على الاقل».

لكن المصممين الشباب وخبراء الأناقة من أمثال برنارد رويتزل وهو خبير أناقة بمدينة كولونيا الألمانية فإن «القاعدة الذهبية هي أنه كلما زاد عرض الرجلين أمكن زيادة طولهما. والعكس صحيح، فرجلا البنطلون يتعين أن تكونا أقصر إذا كانتا بتصميم ضيق» حسب ما قاله لوكالة د.ب.أ.

ويضيف رويتزل: «بمجرد أن ينثني أسفل البنطلون من الامام فإن ذلك يكون الإشارة إلى الطول الصحيح من الخلف، وهو ما يطلق عليه الايطاليون «تقبيل الحذاء». ومعنى هذا أن يغطي البنطلون رباط الحذاء، وهو الأمر شبه المستحيل في حالة البنطلونات الضيقة».

* البنطلون.. عبر السنين والثقافات

* لندن: وحدة أبحاث «الشرق الأوسط»

* «البنطلون» كلمة مشتقة من الإسبانية (بنتالونيس)، والفرنسية (بنتالون)، واصبح كلمة شائعة في البلدان العربية وبديلا لكلمة سروال، كما أصبح قطعة أساسية في خزانة الرجل، وبالذات في مجتمعات المال والأعمال الدولية، مع أنه ليس بالضرورة الزي الشعبي لغالبية شعوب العالم. تاريخياً تشير المراجع التي يعتد بها إلى أن السكيثيين والأخمينيين الإيرانيين ربما أول الشعوب التي عرفت السروال، ويرجح أن هذا الزي نقل إلى أوروبا عن طريق المجريين أو الأتراك العثمانيين. في حين يشار إلى أن الشعب الكلتي (أو السلتي)، في الجزر البريطانية بما فيها ايرلندا ومناطق من غرب أوروبا، عرف هذا الزي أيضاً. في المقابل من المقدر أن السروال كان يرتديه فقط الخيالة في الصين القديمة، ويقال إن أول من أدخل السروال إلى الصين إمبراطور من سلالة جاو ـ إحدى أقدم السلالات الصينية المالكة ـ قرابة عام 375 ق. م، مقتبساً من ملابس الخيالة المغول والطورانيين على الحدود الشمالية للبلاد.

في القرن الميلادي السادس عشر صار للسروال الرجالي حضور فعلي في أوروبا، التي منها انتقل لاحقاً إلى الأميركتين وأستراليا.

تطور التصميم

* لعل بدايات السروال تتمثل بقماش يخاط على شكل أنبوبين يغطيان الساقين ويربطان بما كان يسمى الـ «دوبليه» فوقهما، لكن في ما بعد تطور التصميم وباتا موصولين كقطعة واحدة تعددت طرق التعامل معها تصميمياً، إلى أن باتت تشمل فتحة أمامية تسد إما بأزرار أو بسحابات، وبات طول السروال إلى حد الركبتين.

وفي ما بعد حملت الثورة نقلة تصميمية كبيرة في هذا المجال، إذ اعتمدت السراويل الطويلة «البنطلون» إلى حدود الكاحل التي كانت مألوفة فقط في أوساط الطبقة العاملة، بدلاً من السروال القصير إلى حدود الركبة المفضل عند الطبقة الارستقراطية. ولاحقاً انتقل السروال الطويل إلى باقي أجزاء أوروبا وفي ما بعد باقي أنحاء العالم مع التوسع الغربي الاستعماري والتنصيري والثقافي في أرجائه.

من ناحية ثانية، يقال إن البحارة أسهموا في نشر البنطلونات الطويلة الفضفاضة كما كان لهم الفضل في نشر بنطلون الـ «جينز» المصنوع من قماش «الدينيم». وتجدر الإشارة إلى ان كلمتي «جينز» و«دينيم» مأخوذتان من اسمي مدينتين أوروبيتين أسهمتا في صنعهما أو صنع مكوناتهما هما مدينة جنوى الإيطالية ومدينة نيم الفرنسية، مع أن الانتشار الأوسع والشعبية الأكبر لهذه البنطلونات كان في مناطق الغرب الأميركي، وبالذات مع رعاة البقر، الذين جعلوا اسم «كاوبوي» مرادفاً للـ «جينز»، في وصف العامة لهذا النوع من السراويل العملية في الاستعمال والمتينة في النسج التي لا تحتاج إلى كي أو اعتناء دائم.