موسم «الخياطة الرفيعة».. أحلام من ذهب وأزياء لا تقدر بثمن

TT

موسم جديد بدأ اليوم في عاصمة السحر والجمال باريس، في ما يعرف بـ «الهوت كوتير»، أو الخياطة الرفيعة، التي تتميز بها هذه العاصمة عن باقي عواصم الموضة العالمية الأخرى، وتكاد تحتكر صناعتها. لأول مرة سيستهل الأسبوع اللبناني إيلي صعب، الذي يعرض عادة في اليوم الأخير، إلى جانب دار «كريستيان ديور»، «دومينيك سيرو»، «أدلين أندريه»، «كريستوف جوس»، و«فالنتينو»، في أجواء تترقب الجديد والمثير والفني حتى وإن لم يكن يخضع لمعايير العملية، بل هو في الحقيقة ابعد ما يكون عنها لما بينهما، من تناقض أزلي. فعندما تذكر الـ «هوت كوتير»، تتراءى للعين الفساتين الباهظة الثمن التي تبقى بالنسبة للغالبية من النساء في خانة الحلم والفانتازيا، ولوسائل الإعلام صور رائعة ستتصدر صفحات المجلات أكثر مما ستحلي قدود النساء الجميلات، لسبب وجيه أن اسعارها تجعلها في متناول فئة قليلة تتمتع بالثروة والصبر. نعم الصبر لأن الحصول على فستان لا يتكرر، وعلى المقاس، يحتاج إلى عدة «بروفات» لإجراء تغييرات لا تنتهي إلا عندما ترضى الزبونة تماما عليه: فهي التي ستدفع الآلاف من الدولارات لقاءه، وبالتالي يجب ان يبرز جمالها في أقصى حالاته ويميزها عن باقي نساء العالم.

وفي عالم الموضة المتغير والمتجدد باستمرار، فإن الأمر المضمون الذي لم يتغير لحد الآن، الأثمنة الصاروخية، التي لا تتوقف على الارتفاع، بدءا من الازياء إلى الاكسسوارات، وإن كانت في حال الـ «هوت كوتير»، تجد دائما من يبررها ويجد لها الأعذار، لأن ما تثيره بداخلنا من حلم ورومانسية وجمال يشفع لها كل شيء في عالم قاتم لا نسمع فيه إلا المآسي والأحداث التي تدعو إلى الحزن وتصيب بالإحباط. كما سنجد من يحاول «فلسفة» كل ما يطرحه المصممون حتى وإن كان غريبا و«شطحات» جنون، أولم يقولوا بأن الناقد يرى ما قد لا يراه المبدع في عمله اصلا ولم يفكر به؟. أطرف دليل على هذا، أن البعض فسر أحجام حقائب اليد الكبيرة في الآونة الأخيرة، بأنها انعكاس للحالة الاجتماعية التي تعيشها المرأة، وإلى تزايد المسؤوليات التي تثقل كاهلها (تماما مثل الحقيبة). أما في عرض الهوت كوتير الماضي، وخلال عرض دار «كريستيان ديور»، حيث ارسل جون غاليانو عارضاته وكأنهن جون دارك القرن الحادي والعشرين أو أمازونيات، بدروع وأحذية عالية الساق، فسر البعض ذلك بأن المرأة العصرية باتت تحتاج إلى قوة جسدية للدفاع عن نفسها وحقوقها، خصوصا أن كفاءتها وقدراتها الفكرية غير كافية، بدليل انها ما زالت تتقاضى راتبا أقل من زميلها الرجل، وغيره من التفسيرات والتأويلات. لكن ما ينساه البعض او يتناساه، أن الأزياء الراقية، أو موسم الـ «هوت كوتير»، لا يهتم بالموضة وتوجهاتها أو صرعاتها وفلسفاتها، ولا حتى بالأزياء نفسها التي عليها يقوم اساسا، لأنه، ببساطة، يتمحور حول نقطة اقتصادية مهمة، وهي «بريستيج» الماركة، وترسيخ اسم الدار في السوق وفي الذهن ليفسح المجال لمنتجات الدار الأخرى بالقيام بالمهمة التجارية وتحقيق الأرباح.

فالـ «هوت كوتير»، قد لا تهتم بالسعر أو بالعملية ولا تضعهما ضمن اولوياتها، لكنها تهتم، اولا واخيرا، بترسيخ اسم المصمم وفنيته، سواء كان الأمر كلاسيكية «شانيل»، أو فانتازية غاليانو لدار «ديور»، أو توليفة «جيورجيو ارماني» المشكلة لمخاطبة كل نساء العالم.. وهلم جرا. لأن هذه الفساتين، التي لا تباع منها إلا قلة تعد على الأصابع وصورها الفنية، هي التي تبيع الملابس الجاهزة والاكسسوارات والعطور ومستحضرات التجميل، بما فيها طلاء الأظافر واحمر الشفاه، بالملايين. فمما لا شك فيه الآن، هو أن الاكسسوارات ومستحضرات التجميل هي الأوكسجين الذي تتنفسه بيوت الأزياء. وتبقى الأزياء الراقية، في أكثر حالاتها جنونا وخيالا، هي «الفلتر» الذي ينقي هذا الأوكسجين ويقويه.

الشيء الآخر الذي يلفت خلال كل اسابيع الموضة، بما فيها الـ «هوت كوتير»، تحول عروض الأزياء إلى مسارح تكتظ بالنجوم. وإذا كانت نيويورك هي الأكثر حظا في هذا الجانب، بحكم جغرافيتها، إلا ان الإحساس العام هنا في باريس أن هناك منافسة خفية وقوية، تجري بين كبريات البيوت لاستقطاب الأسماء الكبيرة والأكثر بريقا (مهما كلف الثمن)، وهذا ليس اعتباطا لأن اسم النجم وصورته يؤثران بشكل غير مباشر في المبيعات أيضا. فعندما تحضر باقة مثل ميشا بارتون، ليف تايلور وديمي مور، عرض «غاليانو» مثلا، فهذا يقول: ان «ديور» مثيرة، شابة وأنيقة إلى جانب انها عريقة. وعندما تحضر مجموعة تضم أمثال النجمة كايلي مينوغ، أو كايتي هولمز، أو فيكتوريا بيكهام، إلى جانب السيدة برناديت شيراك، عرض «شانيل»، فهذا يترجم على ان الدار تحترم تاريخها، لكنها حيوية وشابة وتعرف كيف تواكب الزمن، ونفس الأمر يسري على باقي المصممين وبيوتهم. الإحساس الثاني الذي يشعر به المرء خلال هذه العروض، ان باريس منقسمة إلى مدرستين: مدرسة تقوم على القلب والعاطفة، إن صح القول، تتوجه إلى المرأة الجريئة والواثقة، التي لا تتهيب بعض الاستعراض، وتمثل هذه المدرسة دار «كريستيان ديور»، منذ ان تسلمها العبقري جون غاليانو، وأصبغ عليها الكثير من شخصيته حتى يجذب شريحة جديدة من الزبونات الشابات اللواتي أصبحن يتمتعن بقدرة شرائية لا يستهان بها. ومدرسة تقوم على القلب والعقل معا، وتتوجه إلى المرأة الكلاسيكية الواثقة، التي تميل إلى السهل الممتنع، وتمثلها دار «شانيل»، التي أرست قواعدها اصلا على مخاطبة هذه الشريحة منذ البداية، أي منذ تأسيسها على يد الآنسة كوكو شانيل. فهذه الاخيرة كانت، وما زالت تخاطب من خلال كارل لاغرفيلد، امرأة مستقلة وواثقة، لكن من دون رغبة في الاستعراض، لذلك نلاحظ دوما ان ما تعرضه الدار، يميل إلى الواقع أكثر من خلال تصاميم جميلة يمكن لأي واحدة ان تتخيل نفسها تتألق بها، حتى وإن لم تتمتع أحيانا بخيال غاليانو الخصب، أو بشجاعة الدون كيشوتية، التي لا يمكن إلا ان نعجب بها وتجعلنا أحيانا لا نستطيع مقاومتها، حتى وإن كنا من المدرسة الثانية. وطبعا هناك مدارس أخرى لها اتباع وزبائن، لكنها تميل إلى المضمون، مثل جيورجيو أرماني، الذي دخل لعبة الـ «هوت كوتير» منذ بضع سنوات فقط، ونصب عينيه مغازلة هوليوود في المقام الأول. ففي هذا الوقت تكون التحضيرات لحفل توزيع جوائز «الأوسكار» تكون في أوجها، وخبيرات الأزياء حاضرات بقوة وكل واحدة تحمل لائحة طويلة وعريضة تتضمن اسماء النجمات الزبونات، وبالتالي فإن هذا الموسم فرصة لا تفوت لاختيار ذلك الفستان الذي سيلفت الانظار، ويحصل على أكبر قدر من التغطية الإعلامية للابسته ومصممه على حد سواء. لذلك فإن عروض «أرماني» تكون غالبا عبارة عن أزياء مضمونة في جمالها وأناقتها، لكن تفتقر إلى دم غاليانو الفائر، وإلى سهل لاغرفيلد الممتنع، بل وحتى إلى حس اللبناني إيلي صعب الرومانسي. فهذا الأخير يحمل العصا من الوسط، لأنه يعرف زبوناته جيدا، ويتمنى رضاهن وفاءً لهن، خصوصا أنهن وراء نجاحه بدليل عروضه التي تكتظ بسيدات المجتمع المخملي العربيات وإلى باقة من نجمات هوليوود، اللواتي تزايد إعجابهن به منذ ان ابتسم له الحظ وفازت السمراء هالي بيري بجائزة «الأوسكار»، وهي تتمختر في فستان من إبداعه. الجميل في إيلي صعب انه يفهم ويقدر ان المرأة عندما تصرف مئات الآلاف من الدولارات على فستان سهرة، فهي تريد أن تتألق فيه وأن تبدو فاتنة، بعيدة عن الاستعراض، لكن أيضا بعيدة عن البساطة. بعبارة أخرى، تريد أن تبدو وكأنها هي من تساوي مئات الآلاف من الدولارات وليس فستانها. وهذا هو الخطأ الذي يقع فيه بعض المصممين في موسم الـ «هوت كوتير»، ممن يعيشون في أبراج عالية، ويعتقدون ان الفكرة هي ان يبدو الفستان غاليا حتى يبرروا سعره، فيعمدون إلى إثقاله بالتفاصيل والتطريزات والأحجار والريش، تحت شعار الحرفية، وتكون النتيجة فستانا بعيدا كل البعد عن الرقي لا يمكن ان تقبل عليه أي امرأة وهي في كامل قواها العقلية، لكنه قد يكون من نصيب ضحية موضة، تعتقد أن كل ما هو غالي الثمن أنيق.

مشكلة الـ «هوت كوتير»، التي أسهمت صفحات الموضة المتخصصة في تحليلها ودراستها هي أنها ظلت لفترات طويلة مملة حتى في فخامتها، أي انها ظلت تخاطب شريحة المرأة الخمسينية وما فوق، بل وتضفي حتى على المرأة الثلاثينية عشر سنوات أو أكثر، وهو الأمر الذي لم تنتبه له دور الأزياء إلا أخيرا. وكان الحل استعانة دار «كريستيان ديور» بجون غاليانو، ودار «هيرميس» بجون بول غوتييه، أما دار «شانيل» فلم تر بديلا يعوضها عن كارل لاغرفيلد، الذي كلما تقدم به العمر كلما زاد شبابا وحداثة، بدليل ضربة المعلم التي قام بها في العام الماضي، واستعمل فيها لأول مرة في تاريخ الخياطة الراقية، قماش الدينم. هدفه كان واضحا: مخاطبة البنات وتحبيبهن في هذا الموسم الذي ظل طويلا حكرا على أمهاتهن وجداتهن. وهذا دليل آخر انه من الظلم أن نعمم بأن موسم الخياطة الرفيعة يعتمد فقط على الخامات المترفة مثل فرو الشينشيلا، أو أنه مغرق في التطريزات واحجار الكريستال لتبرير اسعاره الصاروخية، وأن نتجاهل الأفكار الجديدة التي تطرح فيه، سواء من حيث التفصيل الهندسي، الذي لا يعلى عليها، ويدقق فيه المصممون مثلما يدقق مهندس طائرة على كل برغي أو لولب، أو من حيث التطريز المتقن الذي قد يستغرق اياما وليالي لتنفيذه باليد. كما أنه من الظلم التركيز على الجانب المسرحي لبعض العروض فيه، لأن تحت غطاء المبالغة الفنية والماكياج الكثيف، هناك جواهر من قماش نحتها مصمم مبدع لامرأة متميزة وساحرة كما يتصورها برؤيته الفنية، وليس أدل على هذا من تصاميم جون غاليانو الجريئة، التي يريد ان يصرخ من خلالها بأن الاستعراض ثقة ولا يتعارض مع الجمال.