عالم الموضة ينعى موت جيانفرانكو فيري المفاجئ

درس الهندسة واتجه إلى التصميم ورحل وهو في القمة

TT

في شهر يناير الماضي، وخلال عرضه الرجالي، كتب جيانفرانكو فيري على خشبة المسرح: «لن أكون أبدا مثل غيري، لكن لن يكون أحد مثلي»، قول قد يبدو للوهلة الأولى نرجسيا، لكنه، عندما يأتي من مصمم من حجمه وبشخصيته وعقليته، فهو يتضمن الكثير من الصدق. فهو كما قالت دوناتيلا فيرساشي، فارس من زمن جميل، وكما تجمع اوساط الموضة مصمم فذ، لذلك فإن رحيله المفاجئ الأسبوع الماضي، سيترك فراغا كبيرا في عالم الأزياء عموما وعلى الساحة الإيطالية خصوصا. صحيح ان فريق عمله، أوفاه حقه يوم أمس بعرض تشكيلته الرجالية التي أشرف عليها بنفسه قبل ان يدخل المستشفى، لكن من الصعب تخيل أسبوع ميلانو القادم للأزياء النسائية من دونه. فهذا المصمم الذي كان دائما يردد بأنه لا يهتم بصرعات الموضة أو تغيراتها، أصبح واحدا من أهم المؤثرين على الساحة العالمية، وتعودنا ان يتحفنا بعروضه الدرامية في مقره الرئيسي، بشارع بونتاشيو، التي يطالعنا فيها دائما بأزيائه الفخمة التي تستحضر في الكثير من تفاصيلها قصص ألف ليلة وليلة، بحسها الرومانسي والوانها وتطريزاتها الغنية، التي تذكرنا دائما بأنه درس هذه الحرفة لمدة ثلاث سنوات في الهند. ولد فيري في عام 1944 في لينانوا شمال إيطاليا، ودرس الهندسة لكنه اتجه إلى التصميم الداخلي ثم الاكسسوارات والمجوهرات في أوائل السبعينات، قبل ان يتحول إلى تصميم الأزياء ويطلق أول تشكيلة باسمه في عام 1978. ضربة الحظ واتته عندما خصصت له مجلة «فوغ» الإيطالية صفحتين، مما أثار الانتباه إلى موهبته، وبعدها بفترة وجيزة انهالت عليه العروض لتصميم إيشاربات وغيرها من الاكسسوارات لصالح مصممين عالمين من أمثال كارل لاغرفيلد. وفي منتصف السبعينات، عمل مع شركة فرانكو ماتيولي للملابس وقدم لها مجموعة مبتكرة من الفساتين المصنوعة من الحرير، نالت إعجاب ماتيولي، وشجعته على دعمه بـ 100.000 دولار، لتبدأ بينهما علاقة عمل ناجحة ومثمرة. وصف البعض تصميماته الأولية بأنها كانت «صارمة» إلى حد يصعب فهمها، لكن الكل أجمع على أن أناقتها محسوبة وناتجة عن مخيلة تتركز قواعدها على ارض الواقع بقوة، فهو لا يؤمن بشطحات الموضة أو بتفاصيلها التي تكون الغاية منها فقط المبالغة. وظل وفيا لهذا الاسلوب لم يغيره، على الأقل لم يغيره بشكل جذري، إذ إننا في الثمانينات رأينا تغيرا ملموسا في اتجاهه نحو الخطوط المنسابة باعتماده على أقمشة خفيفة. في هذه الفترة ايضا وسع امبراطوريته بإضافة خطه الرجالي وطرح عطور وساعات ونظارات ومنتجات فرو، وطبعا تشكيلة «هوت كوتير«. في عام 2000 قرر، وشريكه ماتيولي، بيع أسهم الدار لمجموعة «آي.تي.هولدينغز« لكنه بقي فيها كمصمم فني. كونه درس وتخصص في الهندسة والمعمار، على عكس العديد من اقرانه ممن درسوا الفنون الجميلة، أثر على أسلوبه، الذي غلبت عليه الخطوط الهندسية، المحسوبة والمدروسة بشكل واضح ودقيق. فبالنسبة له تبقى عملية التصميم واحدة وثابتة المراحل، سواء كان ذلك لتصميم الملابس او المنازل او الاثاث او الغرف او حتى تصميم الشوارع والمدن. وعلق مرة «تعلمت من عملي كمهندس معماري ان افكر وأعبر عن نفسي بخطوط على اوراق مسطحة». ولعل هذا التخصص هو ما شجع برنارد أرنو، الرئيس التنفيذي لمجموعة إلفي.إم.آش، المالكة لعدة دور أزياء، ان يستعين به كمصمم فني لدار «كريستيان ديور» من عامي 1989 إلى 1997، فمؤسس هذه الأخيرة، المسيو ديور، ايضا تخرج في قسم الهندسة. فيري كان دائما يردد: «سواء كان التصميم موجها للمرأة أو للرجل، على المصمم ان يفكر في الخطوط والأحجام والتناسق. إنها عملية تشبه تماما عملية تصميم مساحة فارغة، الفرق الوحيد بينهما، وهو الأهم، انه عندما يتعلق الأمر بالأزياء فإن المصمم يجب ان يضع نصب عينيه أن الجسم ليس جمادا بل يتحرك«. هذه الرؤية وهذا الأسلوب هما اللذان جعلاه يحظى باحترام اقرانه وصناع الموضة، فقد حصل على جائزة احسن مصمم ست مرات، وعلى مفتاح مدينة ميلانو الذهبي من الرئيس الإيطالي نفسه، كما حظي بزبونات مخلصات من أمثال، شارون ستون، جوليا روبرتس، صوفيا لورين، إليزابيث تايلور، وبالوما بيكاسو وغيرهن من سيدات المجتمع المخملي والأسر المالكة، من الذين يقدرون تصميماته الفخمة من دون مبالغة أو استعراض. أما هو فيقول دائما بأنه يصمم للمرأة القوية التي تتمتع برؤية واضحة «امرأة تقدر التقاليد، لكنها تعرف كيف تختار ما يناسبها«. بعبارة اخرى من الصعب تخيل واحدة مثل باريس هيلتون أو فكتوريا بيكهام في زي من أزيائه، لسبب بسيط وهو أنها تصميمات فيها الكثير من الثقافة» كما قال عنها صديقه جيورجيو أرماني، وكما تؤكد عليها لائحة زبائنه من الرجال والنساء. دخول فيري قلعة باريس للأزياء، لم يكن مفروشا بالورود، لذلك فإن قرار برنارد أرنو، بتنصيب مصمم إيطالي على دار فرنسية عريقة مثل «ديور» غير المسبوق، كان لا بد ان يثير الكثير من اللغط، بل واستنكار البعض وغضب البعض الآخر. وهذا ليس غريبا إذا أخذنا بعين الاعتبار انه كان من أوائل الأجانب الذين حطوا الرحال في باريس ونافسوا أبناءها فيما كانوا يعتبرونه حقا من حقوقهم، بدءا من إيف سان لوران، إلى إيمانويل أونغارو وبيير كاردان، خصوصا أن حضوره باريس كان في وقت بدأت أسماء إيطالية اخرى تكتسح الساحة العالمية وتسحب السجاد من تحت أرجلهم، بحصولهم على حظوة كبيرة لدى الزبائن العرب والأمريكيين. فكلنا يذكر أن أواخر السبعينات وبداية الثمانينات كان الوقت الذي سطع فيه نجم كل من أرماني وفرساتشي بشكل كاد يغطي على بعضهم. بل وصل الأمر ببيير بيرجيه، مدير أعمال ورئيس دار إيف سان لوران، حينها إلى التصريح علانية بأنه لا يعتقد «ان في فتح الأبواب لأجنبي، وإيطالي بالذات، أي احترام لروح الإبداع في فرنسا»، وهو ما رد عليه صديق فيري، جيورجيو أرماني بالقول بأن «الفرنسيين ليس لديهم ما يكفي من المبدعين لرفع راية الاكتفاء». أما فيري، فطبق من جهته مقولة «القافلة تسير والكلاب تنبح»، إذ استطاع في وقت قصير، بحماسه الإيطالي وأسلوبه المتميز بالسخاء في استعمال الأقمشة المترفة، وخطوطه الهندسية، أن يعطي دار ديور نفسا إيطاليا متأججا، ويجدد ما ابتكره كريستيان ديور، فيما أصبح يعرف في اوساط الموضة بـ «نيو لوك» وهو المظهر الذي ابتكر في أواخر الأربعينات، بعد الحرب العالمية الثانية، ويتميز بالخصر المشدود والأكتاف المحددة والتنورة المستقيمة. غير ان تنقله الدائم بين باريس وميلانو أصابه بالتعب، فاختار ان يترك باريس عائدا إلى ميلانو ليركز على خطه الخاص وعلى توسيع امبراطوريته التي عانقت كل ما يتعلق بالمرأة والرجل من ازياء واكسسوارات وعطور وديكورات منزلية. وربما اكثر ما ستتذكره اية انيقة من زبوناته، أو ممن حلمن بالحصول على قطعة من إبداعاته، القميص الأبيض الذي نقله من قطعة للنهار إلى قطعة فخمة تناسب المساء والسهرة، والأحزمة المبتكرة، وتركيزه على الوان الفضي اللؤلؤي والبيج والبني بدرجاته كأساس يبني عليه فساتينه الرائعة. قبل ان توافيه المنية، كان جينا فرانكو فيري يضع اللمسات الأخيرة على تشكيلته الرجالية لربيع وصيف 2008، وهي التشكيلة التي عرضت أمس في أجواء يغلب عليها الحزن على رجل «هندس» كل ما يتعلق بأسلوب حياتنا بدءا من الأزياء إلى الاكسسوارات مرورا بالديكور الداخلي، وترك إرثا لن ينسى سريعا. المؤثر يوم أمس خلال العرض، معاينة الحضور، من زبائنه المخلصين أو الذين عملوا معه أو تعاملوا معه في فترة من الفترات، وهم يمسحون أعينهم في عرض كان مصممه هو الذي تدمع عيناه كلما حيى جمهوره. فقد كان عمله هو حياته وحبه الأول، لذلك ظل في القمة حتى النهاية. فمبيعات الدار زادت هذا العام بنسبة 19% في الربع الأول من السنة وحدها، بفضل الحملات الترويجية التي قامت بها النجمة جوليا روبرتس للدار، وافتتح مؤخرا محلا جديدا في هونغ كونغ وكان مقررا ان يعيد ترتيب محله في لوس انجليس فضلا عن افتتاح محلات جديدة في كل من اليابان وروما. من أقواله: عندما سألته دايانا فريلاند، رئيسة تحرير مجلة «فوغ« سابقا عن اللون الوردي بقولها انه بمثابة الأزرق النيلي في الهند، رد قائلا: «بالطبع الوردي هو الأزرق النيلي في الهند لأنه أرخص انواع الصبغات». - الأناقة لها شخصية قوية مثلها مثل الجاذبية«. - قالوا عنه المصمم جيورجيو ارماني: «لقد تابعت دائما أعماله، وأعجبت على وجه الخصوص بوضوحه وثقافته وفنيته، وهي عناصر بنى عليها فلسفته من البداية إلى النهاية».

- المصممة دوناتيلا فيرساشي: «بعد عشر سنوات على موت أخي، ها أنا أفقد صديقا عزيزا. لقد كان «جنتلمان» من زمن آخر. كمصمم كان عظيما ويعرف تماما كيف يبدع تصميمات في غاية الأناقة والدقة، بحيث لا يمل الواحد من مشاهدتها، وستظل جزءا من تاريخ الموضة». ـ المصمم فالنتينو: «كمصمم كان من أكبر المبدعين في الساحة الإيطالية، وكإنسان كان من أكثر الناس رقة وتحفظا».