وحدة وكآبة ومائدة يتيمة.. رمضان في غياب العائلة

عندما يغادر الأبناء بيت العائلة يتركون ذكريات عن المائدة العامرة وألتفاف الكل حولها بحميمية
TT

ورقة خس... ورقتان... ثلاث... حبة بندورة واحدة وخيارة واحدة وبضعة اغصان من باقة البقدونس، كذلك النعناع. والنتيجة ان الكمية المستخدمة لصنع طبق الفتوش تبقى اكثر من حاجة الزوجين اللذين يستقبلان رمضان المبارك بمفردهما. فالابناء اخذتهم ظروف الحياة الى مغترباتهم والمائدة الرمضانية فقدت دورها في جمع الشمل ليصبح مشهد الزوجين حول الاطباق القليلة، والكافية لتصيبهما بالتخمة، مشهدا كئيبا لمن تعود احياء الشهر الفضيل بـ"طنة ورنة" وسط اجواء عائلية دافئة. المشهد لا يقتصر على دولة بعينها فالظروف الحياتية الصعبة في معظم انحاء العالم العربي افرغت البيوت من شبابها لتصدرهم الى حيث ابواب الرزق مفتوحة. قد يقول قائل انها سنة الحياة ان يكبر الاولاد ويتفرقوا ليصبح لكل منهم بيته، ويعود الوالدان بمفردهما ينتظران من يزورهما ليؤنس وحدتهما. لكن هذا الواقع يبقى في سياقه الطبيعي اذا لم يكن مقترنا بارتفاع نسبة الهجرة التي اصبحت تقليدا طبيعيا في مجتمعاتنا العربية، بعد ما كان استقلال الابناء عن الاهل يبقيهم في منطقتهم واحيانا في احيائهم، حيث ولدوا وترعرعوا. وبالتالي لا تتعارض استقلاليتهم مع مفهوم لم الشمل، حيث يستدعي الشهر الفضيل عاداته اليومية المباركة والنابضة بدفء اللقاءات اليومية، فتحرص العائلات على الاجتماع حول المائدة، اذا لم يكن في منزل الابوين قد يكون اللقاء في منزل الاخ الأكبر او يتبادل افراد العائلة الدعوات لتحل البركة على الجميع.

فراغ المنازل من اولادها بسبب الغربة موضوع آخر. وغالبا ما يترك في قلوب الاهل حسرة، لا سيما عندما يحل من دون تمهيد. فالمعروف ان الحصول على فرص العمل الجيدة او حتى المقبولة في الديار، لم تعد بمتناول الشباب العربي، ما يرغمهم على البحث عن مستقبلهم في الخارج، فيبدأون توزيع الطلبات على الدول التي تستوعبهم بحثا عن وظائف خارج البلاد. وما ان يقبل الطلب حتى يحزموا الحقائب ويرحلوا.

الاختلاف يكمن ايضا في ان العائلات "المعاصرة"، اي تلك التي بلغ اولادها سن الشباب ودخلوا سوق العمل في هذه الحقبة هي عائلات لم تعد تنجب اكثر من اثنين او ثلاثة. وبالتالي وطأة الفراغ بسبب الهجرة تختلف عنها اذا كان عدد افراد العائلة يتجاوز السبعة ابناء كما كانت الحال في العائلات خلال العقود الماضية. كما ان الاهل الذين نتكلم عنهم هم في الغالب على ابواب العقد السادس من العمر واغلبيتهم لا يزالون يعملون ولم تنهكهم وطأة السنوات ليتقاعدوا ويعتبروا ان الراحة في الشيخوخة امر لا بد منه. نعود الى المشهد الكئيب للمائدة الرمضانية في غياب العائلة. تقول منى، الارملة التي لم تتجاوز الخمسين، والام لشاب وفتاتين في المهجر: "لا يمكن ان استقبل الشهر الفضيل في بيتي. فالجلوس بمفردي الى مائدة الافطار يسبب لي الجنون. منذ سنتين عندما غادرت ابنتي الصغرى لتلتحق بأخويها في باريس اعتدت تناول الافطار عند شقيقتي مع عائلتها. هي لا تتركني وانا لا احتمل ان احضر الطعام لأجلس وحيدة كل غروب".

ليلى التي تقارب منى في السن، غادر آخر اولادها الاربعة بعد حرب تموز الصيف الماضي. لكنها لا تزال عاجزة عن التأقلم مع وضعها الجديد. لم تتعود تحضير الطعام لشخصين فقط . تقول: "لااجيد الطهو في طناجر صغيرة..تربكني الكميات القليلة.. أخطئ في المقادير.. أنسى فأضيف ملحا اكثر من اللازم او اعد اربعة اكواب من الارز مع ان كوبا واحدا يكفي". لا تشعر ليلى ان بامكانها الجلوس وزوجها لتناول طعام الافطار اذا لم تملأ الطاولة بكل الاصناف التي تعودت اعدادها. الحساء وطبق الفتوش والمعجنات والبطاطا المقلية التي لا يرضى ابنها احمد غيابها عن الطاولة والعصائر، من جلاب وعرقسوس وقمر الدين والطبق اليومي مع المتبلات، واصناف الفاكهة والحلوى لتشبع مع زوجها من النظر ويعود الطعام الى الثلاجة كما هو. بانتظار من يمر ليأخذ حصته من الاقارب والجيران والبواب. تبرر ليلى عدم تأقلمها مع مائدة متواضعة بأن انهماكها في تحضير الطعام يسليها وينسيها ان الابناء في الغربة. تحلم بأنهم سيدقون الباب ويدخلون قبيل الغروب لتعم الحياة في ارجاء البيت فيحدثون ضوضاءهم ويسألون عن الاطباق التي تعدها لهم. وقد يصطحبون اصدقاءهم من دون سابق انذار او يطلبون في اللحظة الاخيرة طبقا ما فتسارع الى طهوه تحت انظار زوجها الحائر بين الغضب والحنان. لذا تحرص بعد غياب الابناء على الطبخ كأن عائلتها لا تزال على حالها وترسل الاطباق الى الجيران والاهل والسبب كما توضح:"عندما اقدم ما اطبخه الى الآخرين. اشعر كأني ادفع ليقبض ابنائي في الغربة. اتمنى في قرارة نفسي ان يجدوا من يهتم بهم في رمضان". لكن البعض لا يملك فلسفة منى لينفس احساسه بالحنين الى حيوية العائلة التي لا تحضر الاجواء الرمضانية في غيابها. ربما لأن الام تتحايل على احساسها بما يشغلها. لكن لا يغيب عن الذهن ان الاب ايضا يدفع ضريبة هجرة اولاده. بعض الآباء لا يجد الا التدخل في الشؤون التي كانت تتولاها الزوجة بمفردها عندما كانت العائلة مجتمعة والكل مشغول بالآخر. اما في غياب الابناء فبعض الرجال لا يجد الا المطبخ لتقطيع الوقت قبل الافطار فيغزوه ويصادر دور الزوجة في تحضير الاطباق...او يغرق في حالة اكتئاب حادة قد لا تحمد عواقبها.

نبيل، مثلا، لم يعد يجد في رمضان موسما خاصا يفرد له طقوسه المعهودة. يقول:"يحسب البعض ان الامهات يعانين وحدهن خلال هذا الشهر الفضيل بسبب هجرة الابناء. الاب ايضا يصعب عليه تحمل الامر. كنت انتظر حلول رمضان لأشبع من ابنائي. ففي الايام العادية يأخذنا العمل ولا نجتمع كما يحدث طوال شهر حول مائدة الافطار، ومن ثم في السهرات العائلية بعيدا عن الهموم اليومية والواجبات الاجتماعية. مذ كانوا صغارا كنت اعتبر ان زاد هذا الشهر يعم العام بكامله. اتقرب الى ابنائي ويتقربون اليّ. نتحادث وأطلع على مشاكلهم ونتشارك الرأي حول الكثير من الامور ابتداء بالمسلسلات التلفزيونية وليس انتهاء بالتطرق الى آمالهم وطموحهم ومشاريعهم المستقبلة. كنت اكتشف كم كبروا مع كل موسم رمضاني. المؤلم ان مستقبلهم لم يتوفر في بلادهم ما اضطرهم الى الرحيل باكرا عن البيت العائلي. ليخلفوا هذا الشعور الحاد بالوحدة". لا يجد نبيل العزاء في العلاقات الاسرية او الصداقات، كأنه زهد في الدنيا. يتناول افطاره من دون اقبال على الطعام، ما يفقد زوجته الرغبة في اعداد الاطباق الشهية. ويؤدي فروض الصلاة، ثم يجلس امام الشاشة الصغيرة لا يتحرك سوى الى السرير. يقول:"الاولاد هم الاهل الجدد. ومن دونهم تصبح العلاقات خارج البيت بتراء. يكفيني ان يتصلوا لأسمع صوتهم واخفي رغبتي في البكاء".

هذه الحالة تترك تداعياتها على زوجة نبيل. فهي من جهة تشعر بالحنين الى ابنائها في هذا الشهر الفضيل ومن جهة اخرى تعاني من وطأة مضاعفة للوحدة نتيجة رفض زوجها القيام بأي نشاط اجتماعي. ومن جهة ثالثة تخاف على زوجها من عوارض الكآبة التي تتملكه. لذا لا تحبذ فكرة تركه وحيدا في المنزل لزيارة الاهل والاصدقاء حتى تتسلى قليلا، فلا يعود بامكانها الا الجلوس الى جانبه ومتابعة الشاشة الصغيرة بصمت.