وراء كل امرأة ناجحة.. أب عظيم

قدوة وحب التفوق أم رغبة في نيل الرضا؟

TT

لا أحد يعلم سر تلك الكيمياء التي تربط مشاعر الفتاة بأبيها، فمنذ لحظات الإدراك الأولى تبحث عيونها عنه إذا ما غاب عنها، وتنتظره خلف باب المنزل تنتظر ظهوره أمامها عقب عودته من العمل في موعد تكاد تحفظه عن ظهر قلب، لترتمي في أحضانه وتتبعه كظله من غرفة إلى أخرى. وإذا كان المثل العربي القديم عبر عن قوة العاطفة التي تربط بين الأمهات وبناتهن إلى الحد الذي تتشابه فيه البنت مع أمها، كما يقول المثل الشائع «اكفي القدر على فمها، تطلع البنت لأمها»، فإن المثل العربي أيضاً عبر عن العلاقة بين البنت وأبيها بصيغة «كل فتاة بأبيها معجبة». وإذا كان الأمر يقتصر على الإعجاب واتخاذ الأب كقدوة ومثل في الحياة العامة ولغالبية الناس، فإن الأمر يختلف لدى بعض النماذج من النساء الناجحات اللاتي غالباً ما يسلكن طريق التميز بمساعدة الأب، إلى الحد الذي دفع البعض الى القول إنه إذا كان «وراء كل رجل عظيم امرأة»، فـ «وراء كل امرأة ناجحة أب عظيم». الأمثلة في عالمنا العربي والدولي عديدة. فهناك بي نظير بوتو، ابنة الرئيس الباكستاني السابق ذو الفقار علي بوتو. فالروايات تؤكد أنها دخلت عالم السياسة للدفاع عن سمعة والدها الذي أعدم بعد عامين من انقلاب الجنرال ضياء الحق، ولتصبح أول وأصغر رئيسة وزراء لدولة إسلامية في العصر الحديث، وكان ذلك في عام 1988. وقد كتبت سيرتها الذاتية في كتاب حمل عنوان «ابنة القدر»، روت فيه الكثير عن تأثرها بوالدها.

وبالقرب من باكستان عاشت ابنة أخرى كانت علاقتها بوالدها سبباً من أسباب تسطير اسمها في كتب التاريخ. تلك هي الزعيمة الهندية أنديرا غاندي، التي خجلت جدتها من إخبار والدها جواهر لال نهرو بأنها بنت عند مولدها لمعرفتها بقيمة الذكور في المجتمع الهندي، إلا أن والدها الذي شعر بالحنان يغمره بمجرد احتضانه لها، كان يدرك في ابنته انديرا شيئاً غير عادي، وهو ما جعله يهتم بكل صغيرة وكبيرة في حياتها، بدءاً من تعليمها وتثقيفها، انتهاءً بصقل تفكيرها وتدريبها على الحياة السياسية. فقد كتب لها خطابات عديدة في فترة سجنه أصبحت في ما بعد بمثابة الدرس التاريخي لها لا مجرد خطابات من أب لابنته. من ضمنها كان هناك خطاب قال لها فيه: «في العام الذي ولدت فيه اندلعت الثورة الروسية على بعد آلاف الكيلومترات من هنا، لقد ولدت يا انديرا في عصر الأعاصير والاضطرابات». وأكدت أنديرا أنها لم تشعر بالحزن والكآبة إلا بعد وفاة والدها في عام 1964، على الرغم من مرورها بتجربة فقدها لزوجها فيروز غاندي في حياة والدها.

وبعيداً عن القارة الآسيوية الحافلة بالشخصيات النسائية التي تأثرت بآبائها، جاءت مارغريت ثاتشر كأول امرأة تشغل منصب رئيس الوزراء في بريطانيا في عام 1979، واستمرت في منصبها حتى عام 1990، وهي أطول مدة زمنية لرئيس وزراء بريطاني. وقد امتازت فترة رئاستها بالقوة والإصرار على تنفيذ ما أعلنت عنه من أهداف من دون تراجع عنها، مهما كانت المعوقات التي واجهتها، أو حجم المعارضة التي تحيط بها. وهي صفات اكتسبتها كما قالت في أكثر من مناسبة من تربيتها الصارمة على يد والدها روبرتس، صاحب محل البقالة في لينكولنشاير بإنجلترا الذي منح لابنته كل الثقة في قدراتها وإمكاناتها وضرورة تحملها المسؤولية في كل ما تؤديه من أعمال.

قدرة الآباء في دفع بناتهم إلى المقدمة لم تقتصر على عالم السياسة، لكنها امتدت إلى مجالات أخرى متعددة كالموسيقى، وما علينا إلا أن نتذكر «كوكب الشرق» أم كلثوم، التي تدين بكل ما آلت إليه حتى لحظة مماتها لوالدها الشيخ إبراهيم البلتاجي، الذي اشتهر بأدائه للتواشيح وإحياء الليالي الدينية، والذي أخذت عنه أم كلثوم حلاوة الصوت وإتقان القصائد والتواشيح، وهو ما دفعه إلى تشجيعها ودفعها للأمام على الرغم من موقف المجتمع في تلك الفترة من الفن بوجه عام وممارسة الفتيات له على وجه الخصوص، إلا أن اقتناع الأب بموهبة ابنته جعله يصر على الوصول بها إلى القمة.

وفي مجال العلوم كانت ماري كوري عالمة الفيزياء الشهيرة التي حصلت على جائزة نوبل مرتين في سابقة لم تتكرر، كانت الأولى مناصفة مع زوجها في الفيزياء في عام 1903 ، ومرة أخرى في عام 1911 في مجال الكيمياء، والسبب في ذلك كما تشير قصة حياتها، لوالدها أستاذ الرياضيات الذي ضحى بالكثير من أجل وطنه وأسرته، رافضاً التنازل عن حلمه تجاه كل منهما.

وبعيداً عن تفسير عالم النفس فرويد لعلاقة الفتاة بأبيها في ما عرف باسم «عقدة اليكترا»، فإن خبراء التربية وعلماء النفس المعاصرين، يرون في تأثير الأب في ابنته أمراً طبيعياً وذلك لطبيعة معاملة الأب لابنته منذ صغرها وتدليله لها وخوفه الشديد عليها. وكلها عناصر تجعل من الأب صديقا وحبيبا لها، وبخاصة مع تواصل تعامله معها بذات الأسلوب في فترة المراهقة وهو ما يجعلها تلجأ له دائما لما يمثله لها من رمز للرجولة والحماية والقدرة على مواجهة كافة ما يعترضها من مشكلات، فتسعى إلى إرضائه ورد الجميل له عن طريق نجاحها في كل أمور حياتها. إلا أن الإصرار على وضع الفتاة على طريق النجاح أو في قمته من قِبل أبيها ليس دائماً مرجعه علاقة المحبة التي تربط بينهما، كما يؤكد دكتور هاني السبكي، الذي يشير إلى أسباب أخرى، من بينها اكتشاف الأب لقدرات مميزة في ابنته من دون باقي إخوتها، أو رغبته في إثبات تفوق ابنته وعدم وجود فرق بينها وبين الذكور وبخاصة في المجتمعات التي تميز بين الرجل والمرأة. أما السبب الآخر، كما يقول السبكي فيعود إلى انه: «أحياناً تشعر الفتاة بالكثير من الامتنان لأبيها ولدوره في حياتها حين يكون أكثر من أب، ويتحول إلى رمز وقدوة تلتزم بالسير في نفس طريقه أو طريق مخالف، لكنها تسعى للنجاح والتميز فيه للحصول على مباركته ورضاه وإدخال السعادة على قلبه».