حلقات للضحك «الهستيري».. طريقة هندية تعرف طريقها إلى نساء تونس

علاج يشفي من الكثير من الأمراض ويبعد الكآبة والضغط النفسي

TT

لم يكن الوصول إلى المعطيات المؤدية إلى السيدة دليلة الغرياني، صاحبة أول ناد لـ«يوغا» الضحك في العالم العربي وفي أفريقيا سهلا، بل تطلب البحث من هاتف إلى آخر للوصول في النهاية إلى صاحبة هذه الفكرة الطريفة والغريبة في نفس الوقت. فهل أن الزمن الذي نعيشه ـ نحن العرب ـ يدعو إلى الضحك أم بالأحرى إلى الرثاء؟ وما الذي يجعل الناس يضحكون هكذا بدون موجب حقيقي؟ وهل تناسى هؤلاء ارثنا الحضاري الذي يؤكد أن الضحك بدون سبب، لا يعني سوى قلة الأدب؟

اليوم كان يوم أحد وهو يوم راحة أسبوعية للتونسيين، كان المطر يتهيأ للهطول وأنا مدفوع بفضول طفولي للوصول إلى مقر جمعية «يوغا» الضحك الواقع في الضاحية الجنوبية للعاصمة وبالتحديد في «المدينة الجديدة» بولاية (محافظة) بن عروس. لم تكن الفكرة مغرية بالنسبة لي، ولكنني واصلت البحث حتى عثرت على المقر الذي كان عبارة عن فيلا فخمة واقعة وسط منطقة سكنية راقية تظهر عليها علامات الثراء، دلني أحدهم على الطريق ووجدت صاحبة الفكرة في انتظاري... امرأة في منتصف العمر ملامحها ولباسها غربي محلى بالكثير من الاحتشام. في مبنى واقع تحت المبنى الأصلي قاعة متوسطة المساحة تزينها أنوار متلألئة وتنبعث من أركانها نغمات موسيقية من الشرق الأدنى (من الهند أو من اليابان في أغلب الظن) نساء متحلقات فرادى وجماعات يتبادلن أطراف الحديث، الذي أظنه قد انتهى بدخولي فقد كنت الرجل الوحيد بينهن. ظننت أنني ضللت الطريق من جديد وخطر لي أكثر من مرة أن أترك النسوة وشأنهن، فالموضوع الذي جئت من أجله يبدو أنه أفرغ من فؤاد أم موسى وهذا مجلس نساء لا مكان فيه للرجال، لكن بماذا سأبرر خروجي ففي ذلك أذى لامرأة ربما عانت الكثير من أجل أن تجد هذه الفكرة طريقها إلى النور؟

تطلعت في الوجوه مرة ثانية: نساء من مختلف الأعمار(25-35-45 وأكثر من 60 سنة) ربما جمعتهن الصدفة، اتخذت لي مقعدا بين الحاضرات وبدأت السيدة دليلة الغرياني باستعراض الأهمية الكبرى للضحك وتأثيراته النفسية والاجتماعية الكثيرة على العقل والجسد معا، ولم تنس بأن تذكر باسم صاحب هذه الفكرة المستنبطة: الهندي كاتاريا، الذي أطلقها لأول مرة سنة 1995. فالضحك علاج يشفي من الكثير من الأمراض، حسب قولها، فهو ينشط الدورة الدموية وينظم دقات القلب ويبعد الكآبة والضغط النفسي ويفرز مادة الأندروفين المساعدة على استرخاء الأعصاب وتحسين المزاج وتنشيط العضلات. بعد مقدمة تكاد تكون أكاديمية حول الضحك، انطلقت الحصة التطبيقية الأولى خلال الموسم الجديد ورسمنا ـ الحاضرات التسع زائدا الرجل الوحيد بينهن ـ دائرة صغيرة. والحقيقة أنني كنت أنتظر إشارة الانطلاق للضحك: كيف ستكون؟ ومن سيطلق الضحكة الأولى وهل ستتواصل أم أنها ستنتهي بمجرد خروجها، إذ لا داعي أصلا للضحك؟ وجاءت الضحكة الأولى مدوية أطلقتها صاحبة الفكرة سرعان ما تلتها ضحكات وضحكات لا تختلف كثيرا عن الضحك الهستيري، ولأنني لم أجد داعيا مقنعا للضحك فقد ظللت لمدة غير مدرك لما يقع أمامي، والواضح أن الاقتناع منذ البداية بأهمية هذه الفكرة له أكثر من وقع على المقبلات على هذه التجربة، ولعل للفضول والخروج من النمطية الحياتية وظاهرة الروتين المصاحبة للحياة العصرية، أكثر من تفسير لهذه الظاهرة. فالإطار النفسي مريح للغاية، بل انك لا تسمع أي صوت، فالمكان معزول تماما عن العالم الخارجي وبإمكان الحاضرات الصياح ملء القريحة والضحك بأي الأساليب بدون رقيب أو حسيب، وهو ما لا يمكن أن تفعله في مجتمع ما زال لم يقتنع بالكامل بخروج المرأة إلى الشارع ومزاحمته الحياة بكامل أعبائها. لم يكن وجودي قد استفزهن، بل إنهن واصلن القيام بأدوارهن كأحسن ما يكون، ووجدت نفسي مضطرا أن أركب معهن نفس القاطرة فإذا بي أنخرط معهن في سلسلة من الضحك المتواصل: هن كن يضحكن من هموم الدنيا المتراكمة، وعليهن أن يتغلبن على أعبائها بكل الطرق، حتى ان تم ذلك بحصص جماعية منظمة من الضحك، وأنا أضحك على جنوني ودخولي عالما لم أكن أتصور للحظة أنني سأنتمي إليه ولو على سبيل المجاز. وجدتني أصفق وأصيح مع الصائحات: «هاهاها... هو هوهو» مرة إلى اليمين ومرة إلى اليسار، ولعلني كدت أسأم في البداية ولكن فترة الاسترخاء التي انتهت عليها الحصة جعلتني أشعر براحة نفسية قلما تتوفر في عالم اليوم. حالة من الاسترخاء التام. تنتهي الحصة ولكن ذاك الخدر اللطيف يرافقك لأيام متتالية. هل تغيرت نظرتي إلى هذه التجربة؟ وهل أن النظر للممارسات عن بعد لا يكفي للحكم عليها بشكل جازم؟ كلها أسئلة رافقتني ولم أجد لها صراحة أجوبة شافية. لكن الفضول دفعني الى ان اسأل الحاضرات عن سبب حماسهن لهذه الرياضة أو الهواية الجديدة. تقول السيدة عائشة عبد الجواد (أستاذة جامعية متزوجة وأم لثلاثة أبناء): «أنا مهتمة منذ زمن بعيد بالمواضيع الروحية وأعتبر مشاركتي تكملة لعديد من الممارسات النفسية الأخرى. وأعتبر أن الضحك وسيلة مهمة للتنفيس عن النفس وتجاوز الكرب». أما السيدة فائزة بوزويتة (مسيرة لمؤسسة كبرى وأم لثلاثة أبناء) فتقول عن تجربتها: «أصبت باكتئاب حاد وأصبحت أدخن أكثر من ثلاث علب سجائر في اليوم الواحد. ولم تنفع معي الأدوية المهدئة بكل انواعها، وزرت إبان مرضي أربعة أساتذة نفسانيين من الأسماء الكبرى المعروفة في تونس بدون فائدة، لكني تمكنت، وخلال مدة وجيزة لم تتجاوز حدود السبع حصص مع «يوغا» الضحك، أن أتماثل للشفاء التام وقد أقلعت تماما عن التدخين بعد أكثر من 22 سنة، وأنا الآن في حالة نفسية جيدة بشهادة كل المحيطين بي والذين لهم علم بحالتي النفيسة خلال الأزمة». أما صاحبة الفكرة السيدة دليلة الغرياني، فتقول أنها عملت لمدة تراوحت بين 1973 و2005 مسؤولة عن المكتبة بالمركز الثقافي البريطاني. ومنذ سنة 2004 قررت الدخول إلى عالم الضحك ودرست هذا الاختصاص في لندن، على يد الدكتور الهندي كاتاريا وحصلت إلى حد الآن على خمسة دبلومات. كما درست هذا الاختصاص في سويسرا كذلك وأصبحت تبعا لذلك أستاذة في «يوغا» الضحك. ويرى الدكتور الحبيب الوحيشي الاختصاصي في العلاج النفساني، أن الانسان يضحك، عندما يخرج تفكيره وسياق مفاهيمه للأشياء عما هو معهود عنده. فالضحك أوله فكرة وأوسطه انفعال وآخره تعبير لفظي وحركي. وهو ايضا يخفف عن الإنسان تأثير الانفعالات المتكررة في تعايشه اليومي مع الأحداث ونظرتنا للأشياء، التي تغير مجرى الأحداث إلى ضغط نفسي، ويبقى الضغط من صنع الإنسان فهو من تصوراته وفهمه وتأويله وتهويله للأحداث». ويضيف أن «الضحك المستعمل في بعض المناهج ما هو إلا طريقة تحد من وقع الأثقال على الجسد والنفس ولا تعالج الأسباب، والضحك أسلوب علاج مثل الكثير من الأساليب العلاجية للضغوطات النفسية كالطاقة والماء والرياضة والترفيه الشخصي. وعمليا لا يمكن للبشر أن يكون دائما في حالة ضحك، وحتى يكون الضحك ممزوجا بسلوك لفظي أو حركي، وجب تعديل أفكارنا، نحو الشعور براحة البال والطمأنينة والإحساس الدائم بالأمان، وعمليا لا يمثل الضحك لوحده أسلوب علاج، بل علينا أن نردفه بوسائل علاجية أخرى تذهب مباشرة إلى الأسباب وهذا ما نعمل على تنفيذه في عياداتنا النفسية.