ولائم رمضان.. زلزال يهز بيوت المصريين

مؤشراته تبدأ في اليوم الأول وتصعد على مدار الشهر

ولائم الشهر الكريم التي تعيد البركة لبيوت المصريين تكون سببا في إرهاق ذوي الدخل المحدود
TT

«مش بإيدي يا ليلى أعمل إيه، يعني يا ستي المفروض الناس تقدر» هكذا صرخ زميلنا و هو يضرب بكلتا يديه على مكتبه قبل المغرب بنصف ساعة وهو يسمع تقريعا زوجيا عنيفا بسبب عدم ذهابه للمنزل رغم اقتراب موعد الإفطار وتواجد أقاربها ملتفين حول المائدة استعدادا لوليمة رمضان السنوية التي اعتادت تنظيمها بمناسبة الشهر الكريم.

اشتد صوت الطرق على سطح المكتب و تحول الصراخ إلى ما يشبه «تشويش» الإرسال التلفزيوني قبل أن يعلن صوت سماعة الهاتف وهي تهوى بقوة لأسفل انتهاء الجولة الأولى من «الزلزال السنوي» الذي اعتاد عليه زميلنا العزيز ـ (رفضنا ذكر اسمه حفاظا على حياته) ـ بحسب تعبيره.

زلزال ولائم رمضان لا يقتصر على إحراج زميلنا لزوجته مع أهلها لتغيبه شبه الدائم عن وليمة أهلها، سواء تلك التي يدعون إليها في منزله أو يكون هو نفسه مدعوا فيها إلى بيت الأهل وهو ما تظن الزوجة انه مدبر وتتوعده دائما بمعاملة أهله بالمثل وتجاهلهم أيضا.

بحسب زميلنا المعذب، فإن أهم هزات الشهر «الكريم» تبدأ قبل حلوله بأسبوع على الأقل، وهو موعد معركة تحديد مكان الإفطار في اليوم الأول من رمضان خاصة وأن الأسر المصرية اعتادت على «اللمة» في هذا التوقيت، و«اللمة» تعني جمع الإخوة والأبناء وزوجاتهم وأزواجهم للإفطار معا. وهنا مكمن الخطورة، فإلى أي «لمة» سينضم زميلنا وزوجته، هل في بيت عائلته أم بيت عائلتها.. إلى ما قبل سحور اليوم الأول تمر المفاوضات بمحطات مختلفة وتظهر أوراق ضغط عديدة اعتاد الطرفان على استخدامها سنويا، تتنوع ما بين «العصا والجزرة»، «لو جيتي معايا أول يوم عند أهلي سنفطر الأسبوع كله عند أهلك»، هكذا يمد لها الجزرة وعندما تفطن إلى حيلته تجيبه قائلة: «طب ما تيجي انت معايا أول يوم عند أهلي وانا أفطر معاك عند أهلك الشهر كله»، ثم يحتد الجدل فتتذكر الزوجة أنها امرأة فتلجأ إلى سلاحها التاريخي «الاستضعاف» فتبادره قائلة: «دا بابا وماما بيفطروا لوحديهم ومحدش معاهم.. حرام لو سبتهم لوحدهم» عندها يكاد زميلنا يحن ثم يتذكر أن أمه مريضة وستحزن بشدة لو لم تره أول يوم.. «أحنا هنروح عند أهلى يعني هنروح» ثم يتذكر أنه ربما يصحبها إلى هناك فتبدو مظاهر الحزن على وجهها فيزيد من إحراجه أمامهم، فيهددها بعدم الذهاب لأي مكان خارج البيت طوال الشهر.. تنتهي الجولة الأولى بتنازل أحد الطرفين وغالبا ما يكون الزوجة ولكن بعد أن تكون الخسائر قد استنزفت الزوجين، ثم تشتعل نزاعات جديدة بسبب ظروف عمله وتأخره عن «الواجب» في أيام كثيرة من الشهر.

إذا كان اليوم الأول مر بخسائره وعاد الصفاء تدريجيا إلى بيت زميلنا وزوجته فإن علاء السعداوي وهو مهندس اتصالات مصري يرى أن الزلازل الحقيقية تبدأ مع مجيء الثلث الثاني من الشهر الكريم، خاصة مع مجيء موعد دخول المدارس في العشرين من الشهر الجاري والاستعداد لذلك اليوم من ملابس ومصروفات دراسية ثم الاستعداد لعيد الفطر ويتراكم كل ذلك ليرهق ميزانية الأسرة.

يقول السعداوي من الممكن أن أوفر في بيتي وأدقق في مصروفات الأكل والشهر لتمر عاصفة العيد والمدارس بسلام، ولكن مع الولائم لا تستطيع أن تفعل ذلك لأنك تريد أن تظهر بمظهر الكريم أمام الضيوف ولكن على حساب الميزانية طبعا، كما أنني لو كنت مدعوا بدوري إلى وليمة فعلى أن أذهب ومعي هدية قد يفوق ثمنها ما يمكن أتناوله أنا و زوجتي في بيتي لأسبوع كامل».

البعد الاقتصادي الذي ركز عليه السعداوي برغم أن البعض يراه حرصا زائدا إلا أن له ما يبرره في الواقع، خاصة إذا علمنا أن إنفاق الأسرة المصرية في الأيام العادية يتراوح ما بين من 60 إلى 66% ويرتفع هذا المعدل بمقدار 10% ليصل إلى 75% في رمضان بحسب دراسة للمركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية المصري.

ولائم الشهر الكريم التي تعيد البركة لبيوت المصريين تكون سببا في إرهاق هند وهي مدرسة للغة الفرنسية بإحدى المدارس الأجنبية بضاحية القاهرة الجديدة، تقول هند: «أنا أحب الناس وكذلك زوجي وانعكس هذا على عدد أصدقائنا الضخم، وتقريبا لا يخلو يوم من أيام رمضان من وليمة في بيتنا، ومن الممكن أن تتخيل حالة المنزل وأثاثه وستائره مفارشه في نهاية الشهر. فمنزلي يتحول إلى سيرك قومي لا تجدي معه أية محاولة لإعادة الترتيب».

ولكن هند ترى أن كل الخسائر تهون أمام «اللمة الحلوة» كما أن هناك سببا إضافيا لتقبلها خسائر الولائم، وهو شعورها بـ «التشفي» و«الشماتة» في زوجها وهي ترى أسلاكه ووصلاته وأجهزته الإليكترونية، يعبث بها أطفال أخته، وهي أشياء لم تقترب منها طوال العام دون أن يجرؤ على توبيخهم خوفا وحرصا على مشاعر أخته.

بقدر سعادة هند بالأصدقاء والأقارب في الولائم إلا أنها لا تخفي أن الولائم تتيح الفرصة لأشياء كثيرة ليست محببة مثل الكلام عن جودة الأكل وإتاحة الفرصة لخروج بعض أسرار المنزل، بالإضافة إلى «تأويل الكلام» وتعني (فهم الحديث على غير معناه) لغرض في نفس يعقوب، خاصة من قبل بعض قريبات زوجها. وجه آخر بلا شك لـ «اللمة» الدافئة التي يحرص كل المصريين عليها وتبادلها تجديدا للمشاعر وأواصر المحبة بين الأصدقاء والأقارب، قد يتجاهله البعض ويراه استثناء يؤكد القاعدة، لكن بالتأكيد سيدقق كل منا جيدا قبل إقدامه على تنظيم وليمة في رمضان إذا عرف أن زميلنا العزيز يفطر وحيدا خارج بيته منذ أسبوع بعيدا عن الزلازل التي تهز بيته.