«شيزوفرينيا» الموضة والواقع

مقاس 14 وما فوق.. جذابات في عيون الرجل ومنبوذات من الموضة

TT

خلال أسبوع لندن للموضة الأخير أثار المصمم مارك فاست الكثير من الانتباه، ليس فقط لما قدمه من أزياء رائعة، بل لاستعانته بثلاث عارضات مقاسهن 14. وهذا في عُرف الموضة حجم كبير يميل إلى البدانة. الاستنكار بدأ حتى قبل بداية العرض بترك منسقة أزياء العرض مهمتها، غاضبة من قرار المصمم هذا، مما اضطره إلى الاستعانة بمنسقة أخرى في آخر لحظة. هذه الحادثة تجرنا إلى النقاش الأزلي في أوساط الموضة وغيرها عن مقاس الصفر والنحافة الزائدة، الذي أججته موجة الاستنكار التي تعالت مؤخرا بسبب استعانة المصمم رالف لوران بعارضة في إحدى حملاته الترويجية، لم يكتفِ بمقاييسها الرشيقة، فعمل على تنحيفها أكثر من اللازم بواسطة الكومبيوتر، لتظهر وكأنها مريضة بالانوركسيا وليست عارضة بمقاييس تستدعي الحلم. كل هذه النقاشات والحالات تشير إلى أن هناك شبه انفصام بين الموضة والواقع.

فقد أفاد استطلاع للرأي أجري مؤخرا في بريطانيا، أن شكل الساعة الرملية هي النموذج الذي تريد العديد من البريطانيات الاحتذاء به، موضحات أنهن يفضلن جسم واحدة مثل المغنية بيونسي على العارضة كايت موس النحيلة. وأظهر الاستطلاع أيضا أن 75% منهن صرحن أنهن يرغبن في امتلاك جسم مثل جسم كاثرين زيتا جونز أو مارلين مونرو، في مقابل 10% أعربن عن رغبتهن في الحصول على جسم نحيل إلى حد الانوركسيا. ولا شك أن هذه النتائج تعكس تغيرا مهما في المفاهيم الجمالية لدى نساء بريطانيا، على الأقل، حيث بدأ الملل يتنامى من ظاهرة مقاس صفر الذي تشجعه الإعلانات وصناعة الموضة. تقول لورا براينت من شركة الغذاء، التي أجرت الاستطلاع على ألفي امرأة، أن هذا «التقرير يظهر أن مواقف النساء من الرشاقة قد تغيرت خلال الأعوام الخمسين الماضية، وان النساء بدأن المطالبة بخصورهن التي فقدنها للسمنة المفرطة أو للانوركسيا التي أكسبت بعضهن مقاسات صبيانية تفتقد إلى أي تضاريس. ومن هنا نشأت رغبتهن الجديدة في اكتساب شكل ساعة الرمل الممتلئة والضيقة الخصر مثل جداتهن بدلا من تخفيض أوزانهن إلى القياس 10». والطريف أن دراسة أخرى أجريت في استراليا، أفادت بأن الرجل هناك يفضل بدوره المرأة الممتلئة نوعا ما، وأنه ضاق ذرعا من النحيفة في مسح شمل أسئلة وجهها باحثون في جامعة «نيو ساوث ويلز» في سيدني لنحو 100 رجل للحكم على جاذبية 201 رسم لأشكال نسائية. وحظي الحجم المتوسط العادي، الذي يكون فيه مقاس الفستان 14 ، قبولا كبيرا، وهو الأمر الذي قد يثير بعض الجدل، ذلك أن المرأة، كما تعرف معظمنا، تريد أن تكتسب جاذبية في عيون الرجل، لكنها أيضا تريد أن تثير غيرة وإعجاب مثيلاتها من الجنس اللطيف. وهذا ما يفسر الرغبة المحمومة في الحصول على جسم رشيق عدا أن الموضة لا تخاطب البدينات بقدر ما تدلل وتغازل الرشيقات. وحتى إذا كان هناك تغير ملحوظ في ثقافة الجسم الممتلئ، وهو الأمر الذي بدأت تباشيره تطفو على السطح على دفعات، أكثرها قوة القرصة التي وجهتها رئيسة تحرير مجلة «فوغ» النسخة البريطانية، ألكسندرا شولمان، للمصممين عندما أعلنت منذ أشهر أنها باتت تضيق ذرعا من الملابس التي يرسلونها لها للتصوير، والتي تتطلب عارضات نحيفات للغاية، أحيانا إلى حد غير معقول، مما يستدعي إجراء تغييرات على الفستان من أجل التصوير. شولمان ذهبت إلى أبعد من ذلك بالتهديد بأنها لن تتعامل مع أي مصمم لا يطرح تصميمات بمقاس رشيق، لكن معقول وإنساني. وحتى يحين ذلك الوقت، فإن الواقع يقول إن خطوط الموضة لا تزال تخاصم مقاس 16 وما فوق إلى حد لافت. فباستثناء المصممة فيفيان ويستوود، التي تحاول ألا تنسى هذه الشريحة، إلى جانب كل من إلينا ميرو، مارينا رينالدي، تشيسكا، أنا شولتز ونانيت لوبور، فإن معظم المصممين يتوقفون عند مقاس 12. وهذا أمر يدعو للاستغراب ما دام هناك طلب على أساس أن شريحة الممتلئات لا بأس فيها في العالم، وأيضا للتساؤل بأن هناك مؤامرة تستهدف بيع حقائب اليد والأحذية والمجوهرات والعطور وغيرها من الإكسسوارات، كونها ملاذ هذه الشريحة، عندما تقفل أبواب الموضة المفصلة في وجهها، وتبقى هي التي تغذي رغبتها في مواكبتها. صحيح أن العديد من محلات الموضة تحاول جهدها أن تملأ هذه الثغرة مثل محلات «مونسون» و«ديبنهامز»، التي تخصص ركنا خاصا يغطي مقاس 16 وما فوق، كذلك الأمر بالنسبة لمحلات «هاروزدز» و«سيلفريدجز» وإن كانت تبدو الأزياء هنا في بعض الأحيان، وكأنها موجهة لامرأة ناضجة وليست لشابة تتوخى مواكبة خطوط الموضة، إلا أنها لا تزال تفتقد لتلك الشعلة التي تتألق بها أزياء الرشيقات. لكن ما يحسب لها أنها جد متنوعة، خصوصا في القسم المعروف بـ«ديزاينر بلاس» في محلات هارودز، الذي يضم 11 ماركة بما فيها «بازلر»، «إيلينا ميرو»، «بيرسونا» «مارينا رينالدي» وغيرها. لكن هل هذا يكفي؟ ليس حسب رأي ديبرا وايلز، المديرة الفنية لماركة «لونغ تول سالي» وهي الماركة الموجهة إلى نساء طويلات من مقاس 10 إلى مقاس 20، التي تشتكي أنها تفهم الموضة، وتعرف كيف تنسق القطع المنفصلة، لكنها ولأنها تتمتع بمقاس 14، فإنها غالبا ما تعود من السوق خالية الوفاض، لأنها لا تجد ما يناسبها أو يروق لها. وتضيف: «لا شك أن الأمر سيختلف فيما لو وجدت هناك ماركات يقتدي بها في عالم التصميم. فليست كل المصممات بمقاس 10، ولهذا من الجميل أن نرى مثلا مصممتي ماركة «رودارت» الأميركية، يطرحان تصميمات تعكس مقاسهن (هما ممتلئتان) فهذا من شأنه أن يساعد على تغيير النظرة إلى المقاسات الكبيرة». قبل أن تلتحق ديبرا بـ «لونغ تول سالي» عملت مع محلات «مونسون» التي تخاطب المرأة البدينة إلى مقاس 22 لأكثر من 17 عاما، وبنت قاعدة مهمة لها في السوق. ومن الماركات العالمية الأخرى، الرائدة في هذا المجال منذ تأسيسها في عام 1980، مارينا رينالدي، الإيطالية، التي يمكن القول إنها الأخت «البدينة» لماركة ماكسمارا. مصممتها الفنية مونيكا دي بيليس تشرح سياسة الدار بقولها: «كنا في الماضي نخاطب شريحة من الزبونات تريد تايورات كلاسيكية وقمصانا من الحرير أو كنزات من الكشمير، أما اليوم، فإن هذه الشريحة أصبحت تضم شابات في مقتبل العمر يردن قطعا على الموضة، بل حتى المرأة الناضجة أصبحت تريد تصميمات شابة وحيوية وليست كلاسيكية». وتشاركها الرأي المصممة الألمانية المقيمة في لندن، أنا شولتز التي تصل مقاسات تصميماتها إلى 26، مشيرة إلى أنها تستمد خطوطها من تجربتها الشخصية «عندما بلغت الـ13 من عمري، وصل طولي إلى ستة أقدام، ومقاسي إلى 16، كان والداي مستعدين لتدليلي بشراء أي شيء على الموضة لي، فوالدي كان يعمل في مجال الدعايات وعمل مع المصممة جيل ساندر، ووالدتي كانت تدير غاليري للفن، لكنهما لم يتمكنا من ذلك بسبب عدم توفر أي شيء أنيق على مقاسي رغم توفرهما على الإمكانات المادية». أثرت هذه التجربة على شولتز إلى درجة أنها درست الموضة في «سانت مارتنز» بلندن حتى تتمكن من الانتقام لنفسها ولكل امرأة تعاني من نفس المشكلة، وهو ما نجحت فيه، وإن كانت تصميماتها ليست في متناول الجميع، حيث تبدأ من 250 جنيها استرلينيا. بعد أن تخرجت أنا شولتز في عام 1990 افتتحت محلا صغيرا في شارع بورتوبيلو، سرعان ما توسع إلى 65 محلا في العالم نظرا لحجم الإقبال على تصميماتها الأنيقة، كما أن موقعها التسوقي على الانترنت يزدحم بالطلبات ورسائل الإعجاب والامتنان من زبونات حققت لهن ما كن يتقن لها طويلا. في الجهة الثانية، هناك من المصممين من يقول إن التصميم لكبيرات الحجم عملية مكلفة وصعبة. فما يمكن تنفيذه بمقاس صغير قد يستحيل تنفيذه بنفس الشكل والتأثير بمقاس كبير، وهذا ليس تحاملا على البدينات، بل مجرد حقيقة يصعب حلها بشكل أنيق. من هذه التصميمات مثلا التنورة المستقيمة وأي تصميم بألوان معدنية، لأن لمعانها يعطي الانطباع بالبدانة أكثر. بيل روبنسون، من محلات «جيغسو»، واحدة من المتفهمين لهذا الرأي، منطلقة من أن دراسة السوق تشير إلى أن شرائح النحيفات والرشيقات هي التي تشتري أكثر من محلاتها، وبالتالي فإنها في حال طرحها مقاسات كبيرة قد لا تستقطب زبونات ممتلئات أو بدينات مما يجعلها معاملة فاشلة. وتوافقها سارة كوهن، وهي مشترية في قسم «ديزاينر بلاس» بمحلات هارودز، رأيها إلى حد ما، بقولها إنها تجد صعوبة كبيرة عند البحث عن تشكيلات لمصممين للمرأة الممتلئة: «المصممون يعرفون أن المقاسات الكبيرة مهمة، لكن المشكلة أن صنع أزياء خاصة بهن عملية مكلفة بسبب الكميات المطلوبة، وهي قليلة بالمقارنة بالمقاسات الرشيقة، هذا عدا أنهم يشعرون بأن زبوناتهم قد يبتعدون عنهم لأنهن لا يردن أن يرتبط اسم ماركتهن المفضلة بنساء بدينات». وتثير روبنسون نقطة أخرى مهمة وهي تأثير الإعلام على هذا الجانب. فرغم أن الكل يعرف أن المرأة والرجل على حد سواء، بل وحتى الأطفال، يزيدون وزنا بسبب تغيرات الحياة وإيقاعها، إلا أن المجلات لا تزال تحتفل بالمقاسات النحيفة، أحيانا بإجراء تغييرات بالكمبيوتر على صور نجمات لسن نحيفات، وأحيانا بنعت نجمات بمقاس 10 بالبدينات وما شابه ذلك. وتضيف: «لا أطالب باستعمال عارضات بمقاس 16 في عروض الأزياء، لكن أطالب بعدم التعامل مع البدينات كمنبوذات في عالم الموضة، فضلا عن أن استعمال مقاس صفر وعارضات انوركسيات على منصات العرض يعطي إشارات غير صحية».

المثلج للصدر أن أصوات البدينات بدأت تتعالى والفضل يعود أيضا إلى الإعلام والجدل المثار دائما حول العارضات الأنوركسيات وتأثيرهن السلبي على مفهوم الجمال الصحي. كما يعود الفضل فيها إلى نجمات مثل المغنيتين بيث ديتو وأديل وغيرهما.

* المثير للانتباه أنه في اليوم الذي أعلن فيه البنك الأيسلندي عن تجميد أصوله، لاحظت عدة شركات متخصصة في أزياء المقاسات الكبيرة زيادة في مبيعاتها. «إن براون» مثلا حققت أرباحا تقدر بـ 20% من الأرباح، بينما حققت أنا شولتز ارتفاعا يقدر بـ 30%. فعلى ما يبدو أن الأزمات تجعل المرأة تلجأ إلى الموضة عوض الأكل، الأمر الجيد على المستوى الصحي، لكن ليس على صحة الجيب.