تغير ثقافة التسوق لدى المستهلك ومفهوم الترف لدى المصمم

أزمة مالية أم أزمة ثقة؟

من عرض «ديور» ومن عرض أوسكار دي لارونتا
TT

«لماذا تشترين قطعة بـ546 جنيه إسترليني يا مجنونة؟ يمكنك شراؤها بـ54 جنيه إسترليني بعد أسابيع». هذا ما صرخت به شابة لصديقتها التي أبدت إعجابا ورغبة في شراء فستان من «ماكسمارا» وهما تتفرجان على المعروضات في محلات «هارفي نيكولز» اللندنية يوم السبت الماضي. لم يكن باديا على الأولى أي نية للشراء، فهي ككثيرات غيرها تتفرج وترسم خطتها القادمة بالحصول على قطع متميزة بأسعار مخفضة. أما ما كانت تقصده الشابة المستنكرة لفكرة الشراء الآن، فهو قرب حلول موسم التنزيلات، وبالذات في المحلات الكبيرة التي وصلت تخفيضات بعضها، وعلى رأسها «هارفي نيكولز»، إلى 90% في الموسمين الأخيرين، مما زاد الأطماع فيها وأدى إلى تردد الكثير منا في الشراء انتظارا لوليمة دسمة وشبه مجانية بالنظر إلى حجم التخفيضات. فالأزمة الاقتصادية وتأثر الطبقات الوسطى بالذات، غيرت الكثير من ثقافة التسوق لدينا، كما غيرت مفهوم الغالي والرخيص وشجعت على أسلوب المزج بين الاثنين. فمن كان يتصور أن محلات مثل «زارا» و«إتش أند إم» باتت تشكل منافسا مؤرقا للمصممين؟ وذلك بنجاحها في استقطاب نسبة كبيرة من زبائنهم، خصوصا فيما يتعلق بقطع موضة أو صرعات آنية لا تحتاج أن تكون بجودة عالية ما دامت موضتها ستزول بعد موسم أو اثنين فقط، عدا عن استعانة «إتش أند إم» بمصممين عالميين لطرح تشكيلات خاصة بها، تحمل توقيعاتهم لكن بأسعار مقدور عليها. أما فيما يتعلق بالقطع الراقية والغالية فإن شريحة كبيرة من النساء مستعدات لتبني سياسة النفس الطويل والصبر للحصول عليها بنصف الثمن أو أقل، رغم أنهن يدركن جيدا أن انتظار موسم التنزيلات غير مضمون النتائج، لأن القطعة قد تطير من أيديهن أو لا يجدن مقاسهن منها.

ما أشعل فتيل هذه الثقافة أن أسعار الأزياء والإكسسوارات الموقعة باسم مصمم معروف أو دار أزياء عالمية ارتفعت بشكل جنوني في السنوات الأخيرة، مخلفة وراءها الكثير من الأنيقات ممن لا تسمح لهن إمكانياتهن المادية بمسايرة السوق أو مواكبة سخاء المصممين في طرح الجديد كل موسم، إن لم نقل كل شهر تقريبا.

ألكسندرا شولمان، رئيسة تحرير مجلة «فوغ» البريطانية، قالت في إحدى المناسبات إن الكثير من المنتجات أصبحت بأثمان نارية، وإنها تعتقد بأن شهر العسل قد انتهى، مما سيفسح المجال لإعادة ترتيب أوراق صناع الموضة وإعادة بناء العلاقة بين المستهلك وبيوت الأزياء والشركات المنتجة بشكل صحي أكثر. وهي بهذا تشير إلى إعادة النظر في الأسعار، خصوصا بعد أن شهدت الكثير من المحلات الكبيرة تنزيلات لافتة وغير معهودة لمنتجاتها في الموسمين الأخيرين. فـ«هارفي نيكولز» اللندنية، مثلا، خفضتها بنسبة 90%، و«ساكس فيفث افينيو» النيويوركية بـ70%، إلى جانب محلات أخرى مثل «سيلفريدجز» التي بدأت موسم التنزيلات قبل وقتها بأسابيع، وغيرها.

والسبب واضح، وهو أن هذه المحلات لم تعد قادرة على تحمل الخسارة الناتجة عن ارتفاع مجنون يلسع بمجرد الاقتراب من معروضاتها. فمما يذكر أنه ما إن أعلنت محلات «نيمان ماركوس» عن خسارة تقدر بـ668 مليون دولار هذا العام، موضحة أن مبيعاتها في الشطر الأخير من العام انخفضت بنسبة 23% مقارنة بنفس الفترة في العام الماضي، حتى أعلنت «ساكس» بدورها انخفاض مبيعاتها بنسبة 16%، وهكذا. لهذا لن نستغرب إن بدأ المصممون في إعادة النظر في الكثير من أولوياتهم وعلى رأسها تبرير أسعارهم. حسب رأي كارمن هايد، مؤسسة موقع الإنترنت المتخصص في أزياء الفينتاج «أتولييه ماير دوت كوم»، فإن العنصر الأساسي في بقاء المصمم وحفاظه على زبوناته هو التميز وطرح الأفكار الجديدة، لأنها هي التي تضمن النجاح بغض النظر عن السعر، على العكس من التصميمات المستنسخة، مهما وصلت دقة تنفيذها وجمالها. فتصميمات المصمم الشاب ألكسندر وانغ مثلا ارتفعت بنسبة 200% في الآونة الأخيرة لهذا السبب بالذات، فقد استطاع أن يلتقط نبض الشارع ويقدم له ما يحتاجه: أزياء «سبور» أنيقة وبأسعار معقولة إلى حد ما، فهي تقدر بنحو 700 دولار للقطعة مقارنة بـ15000 من دار «بالمان» على سبيل المثال. فالأسعار إذا كانت معقولة ومقدورا عليها، إلى جانب توفرها على عنصر التميز، فإنها تقنع بسهولة المحلات بشرائها ومن ثم المستهلك، لهذا فالمشترون في هذه المحلات بدأوا منذ فترة بالمطالبة بتخفيض الأسعار رغم أن المصممين لا يزالون يقاومون تارة ويقبلون على مضض تارة أخرى.

في دردشة جانبية مع «الشرق الأوسط» اعترف المصمم تاكون بانيشغول بأن «هذه السياسة باتت تخنق، لأن السوق ترى فقط الأسعار المرتفعة للقطعة، لكنها لا تعرف ما تكلفته صناعتها من خطوات ومصاريف قبل وصولها إلى المحلات». وتابع بألم: «المصمم بطبيعته يريد أن يحافظ على اسمه وسمعته حتى يستمر في النجاح، وبالتالي فهو لا يريد أن يتنازل عن الجودة مهما كان. وهذه الجودة تبدأ من القماش الذي قد يتكلف نحو 100 دولار أو أكثر للمتر الواحد، عدا عن مصاريف الشحن وغيرها، لهذا فإنه عندما يطرح القطعة في السوق بمبلغ 2000 دولار أميركي، لا يبالغ وتكون له مبرراته، وبالتالي عندما يطلب منه تخفيض سعره بشكل كبير فهو قد يخسر الكثير أيضا». وأضاف أن محلات شعبية مثل «زارا» تمنح أزياء أنيقة بأسعار أقل لأن إمكانياتها الصناعية أعلى، فهي تصنع بكميات كبيرة جدا، عدا أن خاماتها وطريقة صنعها لا تتبع نفس المعايير التي يتبعها المصمم.

كاثي هورين، محررة الأزياء المعروفة، نشرت منذ بضعة أشهر مقالا في «نيويورك تايمز» أجرت فيه حوارا مع المصممة فيرا وانغ، صرحت فيه هذه الأخيرة أنها طوال سنواتها الـ40 في مجال الموضة «لم يصادف أن رأيت النساء يتخوفن من التسوق على كل المستويات». فيرا وانغ التي يصل سعر فستان من تصميمها إلى 1000 دولار أميركي في محلات «بيرغدوف غودمان» مطالبة بتخفيض أسعارها، كذلك المصمم أوسكار دي لارونتا، الذي تصل أسعار فساتينه ما بين 4000 و5000 دولار أميركي. وإذا كانت فيرا وانغ تجد صعوبة في ذلك لأن أسعارها معقولة جدا في قاموس الترف، وأي تخفيض قد يؤثر على مكانتها و«بريستيجها»، فإن لارونتا وعد بطرح فساتين تقدر بـ1500 دولار أميركي في تشكيلته للربيع المقبل. كما وعد الثنائي دولتشي أند غابانا بتخفيض أسعارهما من 10 إلى 20% في موسمي الربيع والصيف المقبلين، وفي شهر يونيو (حزيران) الماضي قدمت «كوم دي غارسون» مجموعة كلاسيكية بنصف السعر الذي تباع به تشكيلتها المعتادة، فضلا عن أن الكثير من بيوت الأزياء بدأت توسع نشاطات خطوطها الأرخص مثل «مارك باي مارك جايكوبس» و«فيرسيس» لفرساتشي، التي تعاونت مع البريطاني كريستوفر كاين في هذا المجال، وغيرهما.

بالنسبة لهؤلاء فإن مقاومة أحوال السوق وتنامي ثقافة المستهلك الجديدة في انتظار التخفيضات أصبحت أمرا ضروريا، لذلك عمدوا إلى خفض أسعارهم لتشجيعه على الشراء وتحريك السوق، عوض انتظار موسم التنزيلات لشراء قطعة بنفس السعر. وإلى ذلك الحين فإن الصورة الآن مشوشة وغير مبشرة بالنسبة للمصممين على الأقل، ما دامت المحلات تطالبهم بتخفيض أسعارهم باستمرار، والزبائن طامعون في المزيد من التنزيلات من المحلات، وحركة البيع والشراء بطيئة. طبعا هناك شريحة من الزبونات لم تتأثر بفضل قدراتها المادية العالية جدا، بل ربما تكون سعيدة بما هو حاصل في السوق الآن، لأنه يمنحها تميزا أكبر ومنافسة أقل، بدليل أن الكثير من المنتجات الفاخرة والباهظة لا تزال تبيع، ولم تتأثر بقدر ما تأثرت المنتجات المتوسطة، ما بين أسعار 700 إلى 2000 جنيه إسترليني. فهذه الأخيرة تخاطب شريحة العاملات والموظفات من اللواتي يكسبن رواتب لا بأس بها، لكنهن لا يتمتعن بالملايين. وهذه السوق «المتوسطة» هي المتأثرة الأكبر مقارنة بالمنتجات المترفة أو الرخيصة جدا.

وبين شد المحلات والمستهلك من جهة وجذب المصممين وبيوت الأزياء من جهة أخرى، تبقى النتيجة أن عالم الموضة سيدور حول نفسه لفترة قبل أن تنقشع الغمامة وتعود الأمور إلى نصابها لصالح المستهلك والمصمم على حد سواء، على شرط أن يتوصلا إلى حلول معقولة وأسعار منطقية تضمن حق كليهما. وإلى أن تستقر أحوال السوق وهذه العلاقة، ما على المستهلك سوى اقتناص قطع كلاسيكية لا يؤثر عليها الزمن ولا تأتي عليها تغيرات الموضة في بداية موسم التنزيلات، وتنسيقها مع قطع «على الموضة» من محلات شعبية مثل «زار» و«إتش أند إم» و«توب شوب» وغيرها.