أسبوع باريس.. مصنع الإبهار

بين سيرك «فيكتور أند رولف» وإثنية جون بول غوتييه تعيش العاصمة أجمل أيامها

TT

لم تشكل مغادرة أنا وينتور، رئيسة تحرير مجلة «فوغ» الأميركية مساء يوم الجمعة متوجهة إلى لوس أنجليس لحضور حفل توزيع جوائز الأوسكار، أي مشكلة بالنسبة إلى أسبوع باريس لموضة الخريف والشتاء المقبلين. فالعروض الباهرة مستمرة والمفاجآت كثيرة، وليس ببعيد أنها تتحسر أن فوّتت على نفسها فرصة البقاء، على الأقل لمتابعة عرض فيكتور هورستينغ ورولف سنورن، الاسمين اللذين يتلخصان في «فيكتور أند رولف»، الدار التي أصبحت تضفي على أسبوع باريس مرحا وفنية مثقفة، نظرا إلى شطحاتها الغريبة وفلسفتها المدروسة في الوقت ذاته. يوم السبت كان يومهما بلا منازع حيث خرج الحضور ولسان حالهم يقول إنهم ربما أتوا على مشاهدة أجمل عرض تم تقديمه حتى الآن، ليس في باريس وحدها بل في كل عواصم الموضة العالمية على الإطلاق ولسنوات. ففي حدائق التويلريز قدم الثنائي تشكيلة بإخراج مسرحي تثقيفي شرحا فيه معنى الموضة والتصميم والتنسيق والتنوع رغم أنهما اقتصرا على اللونين الأبيض والأسود فقط. تشكيلة استلهماها من الثورة الصناعة، كما شرحا، حيث وضعا وسط المنصة دوائر متحركة، لم تكن للتأرجح عليها كما تبادر إلى الذهن في البداية، بل كانت لهدف أهم تم الكشف عنه سريعا. فحين ظهرت العارضة الأولى كريستين ماكمينامي، كان من الصعب تعرُّفها تحت كل الأثقال التي كانت تلبسها، والتي تبين في ما بعد أنها 23 قطعة. فقد اختفى مقاسها الصفر وبدت كأنها مربع مغطى بطبقات متعددة من الأزياء أخفت ملامحها وأثقلت خطاها. بعدها وقفت وسط الدائرة المتحركة ليظهر المصممان المتشابهان وراءها وبدآ في التخفيف من حملها بخلع قطعة واحدة كل مرة وإلباسها عارضة أخرى تظهر على المنصة دون أي شيء سوى ما يشبه ملابس داخلية. ثاني عارضة كان من نصيبها المعطف الضخم، وأخرى جاكيت مفصل وأخرى فستان... وهكذا توالى دخول العارضات وإلباس كل واحدة منهن قطعة مما كانت تلبسه كريستين ماكمينامي، والمنصة تدور. بعد انتهاء فيكتور ورولف من العملية التي انتهت ببقاء ماكمينامي بكورسيه شفاف في النهاية، بدأ الفصل الثاني والأخير من المسرحية، حيث كان لزاما أن تسترجع ماكمينامي الـ23 قطعة التي دخلت بها، ليعود المصممان لإلباسها القطعة تلو الأخرى في استعراض رائع للأوجه المختلفة للقطعة الواحدة، حيث تحولت تنورة إلى ياقة بتصميم إليزابيثي، وفستان إلى كاب، وهكذا. عملية كانت مدهشة بكل المقاييس ويصعب تصديقها في بعض الحالات، فمثلا، وبعد أن ألبساها معطفا ضخما بياقة عالية وأكمام منفوخة، لم يتصور أحد أنه بالإمكان وضع قطعة أخرى مهما كان شكلها فوقه. لكن هذا ما حصل بالضبط، حيث أضاف المصممان جاكيتا بسهولة ليبدو المظهر سهلا كأن الجاكيت جزء لا يتجزأ من المعطف، ثم أضافا معطفا من الفرو فوقهما، وهنا أيضا تحول المستحيل إلى ممكن. ففي كل مرة كانا يعطيان الشعور بأنهما ساحران يقدمان درسا في الأوجه المتعددة للأزياء وبأن لا شيء مستحيل أو كثير. فحتى بعد أن أضافا كل المعاطف والجاكيتات بعضها فوق بعض نجحا في إضافة فستان ناعم. كان الكل متأكد أنه من المستحيل إضافته، لكن بحركة واحدة، فتحا أزرارا خلفية ليتحول إلى «كاب».

لم يكن العرض كلاسيكيا بل ساحرا أبرز فيه الثنائي الهولندي أن الموضة يمكن أن تكون لعبة وخدعة ومتعة أيضا. فالتفصيل المتقن كان واضحا على أقمشة مترفة مثل الفرو وصوف الماعز المنغولي الناعم والنقوشات الفنية الناعمة التي جاءت باللونين الأبيض والأسود فقط. العنوان الذي أطلقاه على التشكيلة كان «مصنع الإبهار» وبالفعل خرج الكل مقتنعا بأن إبهارهما فاق كل التوقعات.

كان الإيقاع في عرض «كاشاريل» مختلفا تماما، من حيث كونه أكثر هدوءا. والحقيقة أن هذا الأمر طبيعي لأن أي عرض بعد السيرك الذي قدمه «فيكتور أند رولف» كان سيبدو هادئا بالمقارنة. هذه ثاني تشكيلة يقدمها الشاب البلجيكي، سيدريك شارلييه، الذي سبق له العمل مع ألبير إلبيز، مصمم دار «لانفان» قبل أن يتسلم زمام الأمور الفنية في «كاشاريل» التي أسسها جون بوسكيه عام 1962. ويبدو واضحا أن سيدريك لا يزال يتلمس طريقه في الدار، ولا يريد التغيير الجذري أو الخروج عن إرث المؤسس، بل يحاول فقط تطوير جيناتها الموروثة، المتمثلة في النقوشات والمطبوعات الوردية. فقد صاغها للموسمين المقبلين من خلال نقوشات عصرية وألوان مشعة مستوحاة من التنجيد الفرنسي في القرن السادس عشر، وترجمها في ألوان الأحمر والذهبي والبرتقالي سواء على الحرير أو القطن أو الصوف. الفساتين تميزت بالطيات والكشاكش، فيما اعتمدت التنورات على التصميمات الرشيقة والفساتين الطويلة على الأكمام الطويلة. والنتيجة كانت لوحات من الفن المعاصر أنتجتها تقنيات حديثة بواسطة الكومبيوتر.

في نفس اليوم قدم شقي الموضة الفرنسية، جون بول غوتييه، تشكيلة مستوحاة من ثقافة الشارع وموجهة للشارع على خلفية موسيقى حية جمع فيها أنواعا مختلفة من الآلات الموسيقية وعازفين من أصول متنوعة، إيذانا بعرض غني ببهارات إثنية عالمية، رغم أن الأغنية الأولى كانت الشعار الوطني الفرنسي، لامارسياز. والحقيقة أن الحضور كوّن فكرة مسبقة عما سيكون عليه العرض حتى قبل أن يرى هذه التوليفة العجيبة من الموسيقيين والأزياء في ما بعد. فإذا كان المثل يقول إن الكتاب يُقرأ من عنوانه، فإن عرض غوتييه قرأ من بطاقة الدعوة التي كانت عبارة عن خريطة لعدة بلدان فرق بينها، أو بالأحرى وضع حدودها بنفسه وكما سولت له نفسه، بألوان النيون. فقد أصبح المغرب متاخما للهند، والمكسيك للطوغو، وروسيا لليونان وهلم جرا.

وعلى ما بيدو، فإن غوتييه أصبح مسكونا بالسفر والترحال، بدليل أن تشكيلته الراقية التي قدمها في شهر يناير (كانون الثاني) ذهب فيها أيضا إلى المكسيك وأميركا الجنوبية بمدنها وأدغالها وصحاراها. هذه المرة انتقل من جنوب أفريقيا إلى المغرب ثم إلى منغوليا ومينامار والمكسيك وأوكرانيا والصين مرورا بعدة بلدان أخرى.

المصمم قال إنه استقى من كل بلد من هذه البلدان شيئا، الأمر الذي يفسر الحرير الصيني، والأحذية مغربية الشكل، والإيشاربات الملفوفة على شكل عمامات أفريقية، وأخرى منغولية، وتطريزات من أوروبا الشمالية أو من التيبت. إيحاءات ترجمها في أزياء من الشارع وإلى الشارع، بمعنى أنها عملية تليق بكل الأيام والمناسبات العادية. سر عصريتها أنه نسقها مع قطع «سبور»، مثل فستان بإيحاءات صينية ناعم جدا مع قميص عريض بقلنسوة، كما برز جاكيت من الجلد بتطريزات إثنية قد تكون من التيبت أو منغوليا مع بنطلون من الصوف عريض يمكن أن يليق بممارسة رياضة الهرولة في شوارع لندن أو باريس وغيرها من العواصم العالمية. عارضة أخرى ظهرت بصندل «بابوشكا» قد يكون من المغرب أو من تركيا، وقلادة ضخمة من أفريقيا الجنوبية، تحديدا من قبائل الماساي، وجاكيت من الجلد وبنطلون «حريم» الواسع. إضافة إلى كَمّ لا يستهان به من الإكسسوارات الفارسية والعمامات المصنوعة من اللاميه، وغيرها. كل هذا الكَمّ من الإيحاءات ولم يقع غوتييه في مطب الإغراق في الإثنية، بل العكس أضفى عليها عصرية وحداثة، لأنه غرف منها جرعات خفيفة اقتصرت أحيانا على التطريز في حواشي الأكمام أو جانبي الخصر. بعدها قدم مجموعة من المعاطف قصيرة من الأمام، طويلة من الخلف وكأنها ذيل لفستان عروس، كل ما فيها درامي وتجاري في الوقت ذاته، إذ إن تسويقها سيكون سهلا. ولا يمكن هنا أيضا عدم التطرق إلى فستان واحد جمع فيه ثلاث مدن، فتطريزات أكتافه وياقته من منغوليا، ومنطقة الصدر جاءت على شكل كورسيه من المخمل قد يكون من فرنسا والتنورة باللون الرمادي مقلمه بخطوط تستحضر بذلات رجال الأعمال في وول ستريت وغيرها. الفكرة - كما قال - غوتييه كانت هي التنوع والمزج، وكانت الإطلالة تبدو أقوى كلما كان المزج أكثر وأغرب.

آخر عرض يوم السبت مساء كان لدار «لويفي» الإسبانية، المشهورة بالجلود، وبالتالي ركزت في السابق على هذا الخامة حتى في موسمي الربيع والصيف. لكن هذه المرة لم تكن هذه الخامة هي الغالبة، بل كانت تتنافس مع الفرو والصوف والحرير وأقمشة أخرى في تصميمات تستحضر حقبة الأربعينات والخمسينات من القرن الماضي. مصمم دار ستيوارت فيفيرز اعترف أن الفكرة خطرت له عندما وقع بين يديه كتاب خاص بالدار كانت النجمة الراحلة أفا غاردنر قد وقّعته خلال إحدى زياراتها التسوقية. وتجدر الإشارة إلى أن غاردنر كانت قد عاشت في مدريد بعد تعرض زواجها بالمغني فرانك سيناترا للمشكلات في محاولة للهروب وإعادة ترتيب أوراقها وعواطفها. تأثيرات النجمة في العرض كانت طاغية بدءا من تسريحات الشعر إلى القبعات المصنوعة من الفرو وقليل من التول، مرورا بحقيبة اليد المسماة «أفا». بالنسبة إلى الأزياء فقد تجلت في تايورات بجاكيتات قصيرة وأخرى طويلة وتنورات مستقيمة بخصر عال ومعاطف مبطنة بصوف الخريف أو مزينة بالجلد. تشكيلة مضمونة الأجمل فيها هي الإكسسوارات، لأنها مكمن قوة المصمم فيفيرز الذي سبق له العمل مع دار «مالبوري» البريطانية، وحقق لها نجاحات تجارية كبيرة في هذا المجال سابقا.