صغار يتمردون على طفولتهم

القفز على المراحل.. بين حرج الآباء ونظرة المجتمع

TT

القفز فوق خطوط العمر والسن، سمة أصبحت لافتة في حياة أطفالنا، فالكل يريد أن يكبر قبل الأوان، الولد يريد أن يكون مثل أبيه أو عمه أو خاله، والبنت تريد أن تكبر مثل أمها وخالتها وعمتها. هذه القفزة أصبح يساعد عليها ويدعمها كثير من الأشياء في عالمنا؛ بداية من ملابس الأطفال التي لا يتحرج كثير من مصمميها من أن تتجاوز حواجز الطفولة الغضة وتبرز الأطفال البنات والصبيان في صورة أكبر من سنهم. بالإضافة إلى هذا، نذكر اتساع فضاء اللعب والتعلم وتغير طبيعة الحدوتة والأهزوجة بفضل الإنترنت.

كل ذلك وغيره ساهم في كسر المنظومة التقليدية لتنشئة الصغار، وأصبح التقليد والتشبه بالكبار وسيلة للقفز فوق منطق الطفولة نفسه. وبالتالي لم يعد مدهشا أن نصادف طفلا لم يتجاوز سنه خمس سنوات يرفض أن يعترف بعمره «فأنا كبير وأفهم وأعرف ألعب على الكومبيوتر زي بابا».. هكذا يصرح «حابي» موجها كلامه لأمه المحررة في إحدى الصحف وهو يحاول أن يلفت انتباهها. وبإصرار فيه ثقة وعزة نفس يشب على قدميه ويعاود النداء: «ماما أنا كبرت أعرف أطول الحاجات اللي فوق سطح الدولاب».

لا يعرف حابي الطفل المعنى المحدد للزمن، لكنه يعيشه ويقيسه أحيانا بضيق الحذاء على قدميه، أو القميص على جسده، أو رغبته في أن يشتري بنفسه الأشياء من السوبر ماركت. منى ذات الثلاثين ربيعا، من جهتها تصاب بالهلع وهي ترى ابنتها بسنت (أربعة أعوام) تضع كل ما وقعت عليه يديها من مساحيق موضوعة أمام مرآة غرف نوم والديها على وجهها، ولم تدخر جهدا في صنع طبقات من الطلاء على وجهها جعلتها أقرب إلى «بلياتشو» السيرك.

كان نصيب بسنت جرعة من التعنيف، ونوبة استحمام إجبارية. تحكي منى: «تصر بسنت على وضع المساحيق، وكلما نهرتها على ذلك، تزيد رغبتها في استعمالها وتتكرر نوبات الاستحمام والتعنيف بلا جدوى. في فترة سابقة اشتريت لها مرآة للأطفال بمساحيقها المخصصة لسنها، لكنها تمردت عليها، واكتشفت أنني أعزز هذا السلوك بنهري المتكرر لها.. ولم أعد أعرف ماذا أفعل، خاصة أن الأمر لم يعد يقتصر على المساحيق فقط، بل تصر على ارتداء أحذيتي والسير بها في المنزل، أوغيرها من الامور المشابهة. أما من وجهة نظر عزوز إبراهيم، صاحب محل ملابس شهير في وسط القاهرة، فإن رغبة الأطفال في تجاوز سنهم تعود أولا إلى طريقة تربيتهم من قبل الأسرة. فهي تتعجل نموهم بسرعة حتى يتخففوا من الأعباء. ويشير عبود إلى بعض عروض الأزياء التي تستغل الأطفال، مما ينمي إحساسا لديهم بأنهم شبوا عن الطوق وكبروا. ويلفت عزوز إلى أن كثيرا من الأسر تفضل أن تشتري ملابس بمقاسات أكبر من سن أطفالهم، ربما بحجة تخفيض النفقات المادية، ولتظل مناسبة لهم لعامين قادمين، أو ربما لدرء الحسد فالملابس المضبوطة تبرز جماليات الجسد، وتكون لافتة، خاصة، على جسد الإناث. وإلى جانب التجميل وتبني لغة وحيل تتجاوز قوس الطفولة، يتخذ تقليد الأطفال للكبار أشكالا أخرى؛ من أبرزها مثلا الإصرار على النداء على الأبوين والجدين بأسمائهم المجردة من دون ألقاب. فتقول أروى، وهي مهندسة اتصالات شابة: «يصر ابني شادي (4 سنوات) على التخلي عن لقب ماما.. كثيرا ما يناديني باسمي ونحن نتسوق.. وكذلك أباه.. كما ينادي صديقاتي بأسمائهن المجردة، مما يعرضني لمواقف محرجة إذ يفسر البعض ذلك بتقصير في تربيته. ويقول عمرو الحسيني، وهو مسؤول تسويق في إحدى شركات الاتصالات: «فوجئت بـ(عمر) ابني ذي السنوات الثلاث.. يصرخ وسط المنزل رافعا يديه (أنا مكتئب)، انفجرت ضاحكا ومذهولا، بينما لم تتمالك أمه نفسها، وعندما سألته عن معنى مكتئب ضحك من دون أن يجيب».

بحسب عمرو، فإن ابنه كثيرا ما يتبرع بإبداء الرأي في مسائل سياسية واقتصادية معقدة، مستمرا في التحليل لفترة طويلة بكلام ليس له معنى، خاصة أثناء جلسات السمر ليلة الخميس مع تجمع أقاربه. وعلى الرغم من طرافة حديث عمر، فإنه في أحيان كثيرة يكون توقيته غير ملائم كما أنه لا يقتنع بآليات أحاديث الكبار ولا يستجيب للصمت عندما يطلبون منه ذلك، مما يعرض الأسرة للحرج.

ولا يعتبر الدكتور هاشم بحري أستاذ الطب النفسي بجامعة الأزهر، في تقليد الصغار للكبار مشكلة أو أزمة، موضحا أن الطفل بحاجة إلى قدوة دائمة، ويجد والديه أمامه باستمرار فيتقمص سلوكياتهما وردود فعلهما في أحيان كثيرة. وقال: «إذا كانت استجابات الأطفال الأكبر من سنهم تعرضهم لمواقف حرجة، فالحل الطبيعي أن يجلس الطفل برفقة أقرانه بشكل أكبر من جلوسه مع الكبار، لتكون استجاباته طبيعية وملائمة».

وينفي بحري أن يكون تقليد الكبار مؤشرا على خلل أو اضطراب في التربية، مشيرا إلى أنه طور طبيعي يمر به أغلب الأطفال في فترة من الفترات. ويشير كذلك إلى أن الطفل متمرد بطبعه، يريد أن يتجاوز ويتخطى، ولا يعترف بالقيود والحواجز، وكثيرا ما يتقبل الأوامر من والديه على مضض، ويقلقه دائما إحساسه بأنه طفل. فهذا يعني أنه غير مسؤول و«مش عارف حاجة»، لذلك يؤكد كثيرا أنه كبير، ويستطيع أن يفعل كما يفعل الكبار، وليس هذا تمردا على طفولته، بقدر ما هو تمرد على السياق العام المحيط به.