فخامة اللا بريق

قصات غير مكتملة تلفت النظر إلى الحرفية في تشكيلة «ديور» لربيع وصيف 2011

TT

أسبوع الموضة الرجالي في باريس كان رومانسيا إلى حد كبير، سواء من حيث الألوان أو التصميمات أو الأفكار. كان أيضا عصريا يتحلى بجرأة فنية وفخامة عالية، وكان كريس فان آش، مصمم دار «ديور أوم»، أكثر من جسد هذه العناصر كاملة في تشكيلته الموجهة لربيع وصيف 2011. كان واضحا أنه يخاطب شريحة معينة من الزبائن، مما يفسر لغته الصريحة التي لم يلجأ فيها إلى أي مراوغة، بينما يمكن إرجاع شجاعته هذه إلى أنه لم ينس حرفية الدار التي احتفل بها بشكل لا يقل وضوحا.

في قاعة «فريسيني» الواقعة في الجادة الـ13 بباريس، أقيم عرضه، وهي قاعة كانت في وقت من الأوقات نفق مترو، لكن جار عليها الزمن وتم هجرها. بمساحتها الواسعة شكلت مسرحا رائعا لتشكيلته المثيرة التي تلعب على التناقضات، حيث تدلت من أعلى السقف إلى الأرض ستائر بيضاء شفافة على شكل أنبوبي دائري يظهر خلفها العارضون بثياب داكنة، وكأنهم أشباح متحركة قبل أن يطلوا على الجمهور الذي كان يتصبب عرقا بسبب ارتفاع درجات الحرارة وعدم توفر المكان على مكيفات هوائية. على وقع نغمات موسيقية صاخبة وكأنها تعلن عن حرب قادمة أو حدث جلل قبل أن تخفت بعد فترة لتعطي الإحساس بأنها أناشيد دينية من قلب آسيا، توالت إبداعات فان آش، مثيرة الكثير من التساؤلات والإعجاب في الوقت ذاته.

البداية كانت عبارة عن مجموعة من البذلات المفصلة بتنوع شديد يتناقض مع عدد الألوان التي اعتمدها المصمم طوال العرض، والتي اقتصرت على الأسود والرمادي والبيج والأبيض. كان واضحا أنه أراد رفع شعار «القليل كثير»، ليس فقط من حيث الألوان، بل أيضا من حيث التفاصيل والزخارف التي غابت تقريبا باستثناء الحياكة التي كانت ظاهرة لتعلن عن حرفية الدار، وما تخفي كل قطعة بين ثناياها من خبرة طويلة. كل قطعة كانت تعلن أن زمن البريق والتطريزات المبالغ فيها ولى، وأن مفهوم الترف تغير. فالحرفية والجودة والفنية أصبحت هي العناصر المطلوبة من قبل الزبون العارف، الذي بات يطمح إلى قطع تجمع بين التقاليد القديمة فيما يخص التفصيل والتنفيذ، والعصرية والحداثة فيما يتعلق بالتصميم. وهذا ما لباه فان آش لدار «ديور». فقد حرص فيه أن تكون المخاطبة بلغة أكثر فخامة وترفا حتى وإن كانت النتيجة حداثية، ومن هنا كان هذا الزخم من البذلات والقمصان المصنوعة من الصوف والحرير الملفوفة على شكل «درابيه» لتبث الحركة في الكشمير. الكثير منها جاء من دون ياقات أو بياقات صغيرة جدا، بينما يظهر بعضها جزءا من الصدر من خلال فتحة طويلة، وبعضها الآخر من دون أكمام أو بكم واحد وهكذا.

كريس فان آش لم يتخل عن الأسلوب المريح والمنطلق الذي عودنا عليه، وكان شبه مضاد لتصميمات سلفه، هادي سليمان، الذي سوق لنا التصميمات الضيقة بشكل لافت. أسلوبه في المقابل يتمثل في الاتساع والحركة على وجه الخصوص. فبنطلوناته، مثلا، جاءت مرة أخرى مستوحاة من السروال العربي الواسع الذي يضيق عند الكاحل لتظهر من تحته صنادل صيفية أنيقة نسقها مع جوارب. مظهر مخيف في العادة، ويرتبط بالسياح الأميركيين الذي بلغوا الكهولة، إلا أنه هنا بدا جريئا وعصريا. بصمات فان آش استمرت أيضا في جانب الياقات الصغيرة، والقمصان التي تلتف على بعضها من الأمام، واكتفائه بأربعة ألوان هي الأسود، والأبيض، والرمادي والبيج، من دون أن ينسى أن يضيف إلى كل قطعة لمسة غرابة. فقد كان هناك مثلا «تي - شيرت» قصير من جانب وطويل من جانب آخر، جاكيت بكم واحد، سترات من دون أزرار، معطف أسود محاك بخيوط بيضاء وهكذا، لينتهي العرض بثلاثة معاطف طويلة بدا واحد منها وكأن الوقت داهم المصمم ولم ينته من حياكته، بينما ظهر الثاني من دون أكمام، والثالث يبدو من جانب وكأنه جزء من بذلة، ومن جانب آخر وكأنه وشاح.

ورغم أن أكثر القطع اللافتة في المجموعة هي المعاطف الطويلة، خصوصا المنسابة وكأنها قطع أقمشة لم تخيط تماما، فإن كل القطع كانت تتميز بخفة وانسيابية سهلة، لأنها كانت تتحرك بسهولة مع كل حركة. وهي انسيابية أكد من خلالها كريس فان آش، أنه مصمم عصري وجريء إلى حد ما، رغم أن جرأته تعتمد على الفني أكثر من الرغبة في الاستعراض، مما يعني أن تصميماته ستمس الوتر الحساس بداخل أي رجل يتوق لقطع متميزة ولافتة. لكن السؤال الذي يطرح نفسه: من هو هذا الرجل حقا؟ والجواب كما تبرع به كارل لاغرفيلد، مصمم دار «شانيل» لوكالة «أسوشييتد برس» بأن التشكيلة ككل رائعة وأنيقة تضج بحرفية وفنية عاليتين لكنها تحتاج إلى رجل في عنفوان الشباب. وهذا في حد ذاته اعتراف كبير لمصمم تشير كل تصرفاته وميوله إلى أنه يتحدى الزمن ولا يريد الاعتراف بأنه تعدى السبعينات.

ومعروف عن لاغرفيلد إعجابه بتصميمات «ديور أوم» ويعتبر من الزبائن المخلصين لهذه الماركة منذ زمن طويل، مما يفسر ولاءه إلى حد التعصب أحيانا لبذلات «ديور» التي قال عنها «إنها من أكثر البذلات أناقة وحرفية في العالم، وليس هناك من ينافسها في هذا المجال». وتابع أنه ربما كبر على القطع التي ظهرت على المنصة وتظهر الكثير من الجسد «يجب أن تكون صغيرا وشابا» لكي تلبسها. أما تبرير كريس فان آش فكان بسيطا وهو أنه أراد تشكيلته أن تكون بسيطة للفت الأنظار إلى الجودة والحرفية، لأن «هذا بالنسبة لي هو الفخامة بمعناها العصري وليس التطريزات والبريق». ويبدو أن المصمم يعمل على تطوير هذا الجانب منذ توليه زمام الجانب الرجالي في دار «ديور» في عام 2007، ورغم بعض المطبات التي واجهته في البداية، فإنه بقي وفيا لأسلوبه ولم يغيره، الأمر الذي أثمر على نتائج إيجابية ترجمها تقبل الزبون الشاب لهذه التصميمات وترحيبه بها، خصوصا أنه غير الكثير ليفرض نفسه وبصمته، كونه حاد عن أسلوب سلفه بشكل لافت، إلى حد أنه بدا وكأنه يخاصم التصميمات الضيقة لحساب المتسعة والفضفاضة. أسلوب كان جديدا على الدار، لكنه سرعان ما حقق له التفرد والتميز الذي كان يطمح إليه.

تجدر الإشارة إلى أن البذلة المفصلة والمحددة على الجسم، لا تزال ماركة «ديور أوم» المسجلة. فالدار تشتهر بها وبالتالي لا يمكن التخلي عنها، الأمر الذي لم يتجاهله فان آش، بطرحه مجموعة أنيقة حقق فيها المعادلة بين تاريخ الدار وكلاسيكيتها ورغبته في القفز بها إلى الأمام بخطوات واسعة. فالموضة كانت دائما ولا تزال تحافظ على المسجل وتغازل الجديد، حتى وإن كان الأمر مجرد جس نبض رجل الشارع لمعرفة إلى أي مدى يمكن مغازلته.