الحب.. على طاولة التشريح

تحيروا في فك طلاسمه وفسروه بومضة في القلب ورنّة في المخ

TT

رحلة شاقة وشيقة يقطعها الحب يوميا في حياة البشر والكائنات، فيتناثر أحيانا في حنايا الأغاني العاطفية وفي قصائد الشعراء، وأحيانا أخرى في قصص وروايات الكتاب وأعمال الفنانين التشكيليين. وأيضا لم يفقد الحب بريقه على طاولات العلماء والأطباء، فلا يزال يحلق كطائر الفينيق ويثير شهيتهم كلغز يجتهدون كل يوم في فك شفراته وأسراره. ومع ذلك لا أحد يعرف من السبب في لسعة الحب: هل هو القلب أم العين أم المخ، أم أشياء أخرى؟

من بين الذين حاولوا الإجابة عن السؤال الأزلي، ستيفاني أورتيغ، من جامعة سيراكوز، التي قالت إن: «هذا سؤال دقيق، أعتقد أنه المخ، لكن القلب له صلة بالأمر أيضا، لأن فكرة الحب معقدة وتتضمن عمليات من أسفل لأعلى ومن أعلى لأسفل ما بين المخ والقلب».

إلا أن البعض أخرج الحب الرومانسي من دائرة المشاعر، مثل آرثر آرون، أستاذ علم النفس الاجتماعي في جامعة ستوني بروك، الذي يرى أن الحب ليس عاطفة، وإنما هو حافز أساسي مثل العطش والجوع. ومن بين الأدلة الداعمة لنظريته أن التصوير بالرنين المغناطيسي كشف أن المناطق الغنية بـ«الدوبامين» في المخ تضيء عندما يفكر المرء في محبوبه، وهي مناطق تعرف بنظام الحافز والمكافأة.

بينما يعتقد بعض العلماء أن الحب يحدث نتيجة إفراز المخ لمزيج من المواد الكيميائية يتعذر على المرء مقاومته، وعبر هذا المزيج يحفزنا المخ على الحب. ورغم أننا نعتقد بأننا نختار بمحض إرادتنا حبيبا ما، يبدو في الحقيقة أننا لسنا سوى ضحايا لخطة «سرية» محكمة.

هذه النتيجة ربما حلت لغزا محيرا للشاب أحمد عمر (28 عاما)، الذي اشتكى قائلا: «تزوجت بعد قصة حب دامت 8 سنوات، وفي غضون 6 شهور من الزواج، وجدت نفسي أطيل النظر إلى زوجتي وأسأل نفسي هل حقا أحببت هذه المرأة 8 أعوام.. لماذا؟».

تحدد هيلي فيشر، من جامعة روتغرز، 3 مراحل للحب، هي: الرغبة والانجذاب والتعلق، ويتحرك المرء في كل مرحلة انطلاقا من هرمونات وإفرازات كيميائية مختلفة.

وتصديقا للمقولة الشهيرة «الحب أعمى» خلصت إلين بيرشيد، الباحثة البارزة في مجال سيكولوجية الحب، إلى أن المحبين حديثا غالبا ما يضفون طابعا مثاليا على أحبائهم، حيث يضخمون مزاياهم ويعمدون للتقليل من عيوبهم. ومن المعتقد أن هذه النظرة الوردية ضرورية كي يبقى الحبيبان معا وكي يدخلا إلى المرحلة الثالثة ترتبط بالتعلق، وهو مصطلح يشير إلى الرابطة التي تجمع بين الزوجين لفترة كافية حتى ينجبا ويتوليا رعاية الأطفال.

وأولى العلماء اهتماما كبيرا بتحديد العناصر التي تجذب النوعين لبعضهما على نحو يمهد لتولد الحب. وينبغي التنويه هنا بأن الانجذاب الأول لا يعني بالضرورة نمو المشاعر لترقى إلى الحب، بل اكتشف العلماء وجود تباين في المعايير التي ينتهجها الرجال والنساء في تحديد من ينجذبون إليهم على نحو عابر ومن يختارونهم للعلاقات طويلة الأمد.

في هذا الصدد، اتفقت دراسات عدة حول أن الوجه أهم ما يجذب انتباه الرجال عند النظر إلى المرأة، كما تلعب الألوان دورا أيضا، وخلص علماء بجامعة روتشستر إلى أن الرجال ينجذبون إلى من ترتدي اللون الأحمر. كما ينجذبون إلى من تبدي اهتماما بهم، حيث أفادت دراسة أجرتها جامعة دارتماوث أن الرجل يعتبر المرأة أكثر جاذبية إذا حدقت فيه واهتمت به، عما إذا تجنبت النظر إليه وتجاهلته بسرعة. وبطبيعة الحال، يمثل شكل الجسد أهمية كبيرة في الانجذاب بين الرجل والمرأة، فمثلا، أشار عالم النفس ديفيندرا سنغ، من جامعة تكساس، إلى أن النساء اللائي يتمتعن بمعدل خصر بالنسبة للفخذ يبلع 0.7 - مما يعني أن الخصر أضيق كثيرا من عرض الفخذين - يعتبرن الأكثر جاذبية في أعين الرجال، وتعرف أجسادهن بنمط الساعة الرملية.

بالنسبة للمرأة، فإن من بين العناصر الجاذبة لها التماثل الجيد بين شقي الجسد، الذي يكشف أن الفرد يتمتع بمزايا جينية وأنه بحالة صحية وخصوبة جيدة. ويعتقد علماء أن التماثل أحد العوامل التي تدخل في اختيار المرأة لشريكها، وإن كانت هذه العملية تتم من دون وعي.

أيضا يكشف وجه الفرد عن مستوى الخصوبة، فقد أوضح راندي ثورنهيل، عالم الأحياء في جامعة نيو مكسيكو، أن الأستروجين يؤثر على نمو العظام في الجزء الأدنى من وجه المرأة وذقنها، ليجعلها صغيرة نسبيا وقصيرة، ومن ثم تبدو العيون بارزة. في المقابل، تتحدد ملامح وجوه الرجال اعتمادا على مادة التتستيرون التي تساعد في نمو الجزء الأدنى من الوجه والفك فتجعله أكثر اتساعا وتجعل الحواجب بارزة. وأشار ثورنهيل إلى أن النساء والرجال الذين يملكون هذه السمات يعتبرون جذابين، لأن هذه السمات توحي بصحة إنجابية جيدة لديهم. وتوصلت دراسات إلى أن المرأة تنجذب لرائحة جسد الرجل صاحب التركيب الجيني المشابه لها أكثر من الآخرين أصحاب التركيب الجيني شبه المطابق أو شديد الاختلاف.

وأشارت دراسة أصدرتها جامعة ويسترن أونتاريو عام 2005، إلى أن التميز بجينات متشابهة يسهم بدور يعادل نحو 34% في قرارات الدخول في علاقات صداقة واختيار الأزواج.

إلا أن جميع العوامل السابقة تتعلق بالانجذاب الأولي، لكن العلاقات طويلة الأمد فيضطلع فيها السلوك بالدور الأكبر، بينما لا تقوم البيولوجيا سوى بعامل مساعد. وأفاد الباحثون أن الإعجاب بالشخصية يكتسب أهمية كبرى بالنسبة للعلاقات طويلة الأمد.

وعلى الرغم من أن العلماء لا يزالون عاجزين عن تحديد قواعد الحب بين النوعين وترتيب الأولويات بينها، فإنهم خلصوا إلى أن الرجال والنساء يولون أهمية كبرى لصفة الإخلاص. من ناحية أخرى، كشفت دراسة لجامعة كاليفورنيا عام 2006 إنه بخصوص العلاقات طويلة الأمد تتطلع المرأة نحو الرجل الذي يحب الأطفال، وبمقدورها من مجرد النظر إلى الوجه التعرف على مؤشرات ترتبط بالخصائص الأبوية. ويبدو أن المرأة بإمكانها التعرف على نسبة التتستيرون من خلال وجه الرجل، وعادة بالنسبة للعلاقات قصيرة الأجل تختار المرأة أكثر الرجال من حيث هذا الهرمون. وأوضحت دراسة أخرى صدرت عن الجامعة ذاتها عام 2008 أن الإنسان بلغ مرحلة من التطور جعلت الإناث تتطلع نحو الذكاء في الرجال لضمان إنجاب أطفال أفضل بدنيا، وبالتالي فإنهن يعتمدن من دون وعي على الذكاء كعنصر لتقييم المستوى العام للشريك.

من جانب آخر، أيد العلم الأشعار التي شبهت تأثير الحب بالمخدر، حيث أفادت دراسة بأن الحب الرومانسي بإمكانه منع الشعور بالألم البدني على نحو شبيه بالمورفين. وكشفت صور لمخ عدد من المحبين حديثا وجود كميات كبيرة من الدوبامين الذي له نفس تأثير الكوكايين على المخ. وخلصت دراسة أخرى إلى أن الحب لا يثير شعورا بالنشوة شبيها بما يحدثه الكوكايين فحسب، وإنما يؤثر أيضا على مناطق معقدة خاصة بوظائف الإدراك، مثل التمثيلات العقلية والاستعارات ولغة الجسد.

شكوى أحمد من الحب الكاذب كان لها أصداؤها لدى وسام صلاح (30 عاما)، التي قالت: «عشت قصة حب جميلة مع زميلي في الجامعة وتزوجنا. لكن بعد شهور قليلة تأكدت أن الحب ليس سوى كلام أغان». بطبيعة الحال، يقف الزواج في قفص الاتهام باعتباره المتهم الأول في وأد الحب بدعوى أنه يولد الملل والسأم، لكن العلم أثبت براءته، وأن الحب الدائم مدى الحياة أمر قابل للتحقق. فمن خلال تصوير مخ أزواج قضوا معا 20 عاما، وجد علماء في جامعة ستوني بروك أن زوجين من بين كل 10 لا تزال صورة المخ لديهما تكشف عن «الولع»، وهو مصطلح يستخدمه أخصائيو الأعصاب لوصف نمط السلوك الاستحواذي الذي يظهر لدى المحبين حديثا.

المثير أن العلم أثبت أيضا أن لقب «المجنون» الذي يطلق على المحبين مثل «مجنون ليلى» لم يكن بعيدا عن الواقع، حيث أفادت دراسة في دورية «سيكولوجيكال ميديسين جورنال» عام 1999 أن المواد الكيميائية التي يفرزها المخ لدى الأفراد الذين دخلوا حديثا في قصة حب هي ذاتها الموجودة لدى من يعانون اضطرابات الوسواس القهري.