هايكة فيبر.. الألمانية التي وظفت الموضة لصالح التراث الشامي

محلها يعبق بالتاريخ ويعبر عن عشقها لروح الشرق

TT

هل هو سحر التراث الشامي بأزيائه وعاداته وتقاليده، أم هو بحث المبدعين ومصممي الأزياء الدائم عن اكتشاف كنوز الماضي لمزاوجته بفنون العصر، أم هو فقط رحلة الإنسان الدائمة لتقديم الجديد في مجال عمله مع مساعدة أخيه الإنسان في المشاركة بهذا الجديد لتكتمل الحالة الإنسانية الإبداعية في الوقت ذاته؟

ربما يكون الجواب لدى مصممة الأزياء الألمانية «هايكة فيبر» كل هذه الأشياء مع بعض. هايكة التي قررت ومنذ ربع قرن الاستقرار في العاصمة السورية دمشق، عملت في البداية على افتتاح مشغلها في أفقر الأحياء فيها، حي التضامن، حيث وظفت العشرات من نساء الحي وبدأت في تصميم أزياء مستلهمة من الشام بكل زخمه الفني والثقافي منذ آلاف السنين إلى الآن. بعد نجاحها، اتجهت نحو مناطق ريفية سورية جديدة في الشمال حيث يبدو المشهد هناك مزدحما بالكثير من الحالات التراثية الجميلة التي تقدمها نساء هذه المناطق في حياتهن اليومية من لباس وزينة ومستلزمات البيت وغير ذلك، بشكل عفوي وبسيط.

قبل خمس سنوات فقط، قررت هايكة أن تنتقل إلى منطقة راقية بدمشق القديمة بالقرب من واحدة من أهم بوابات دمشق القديمة السبع، وهو «باب شرقي» المتميز بأقواسه ومآذنه. هنا اشترت منزلا دمشقيا قديما حولته إلى «غاليري» ودار عرض يشاهد فيها الزائر والعابر زخما رائعا من مفردات التراث الشرقي الشامي من خلال تصاميم للنساء والأطفال وأحذية ووسائد وأغطية وحتى دمى وأعمال فنية. أطلقت المصممة على «الغاليري»، التي تديره مع ابنتها، سلافة، المتخرجة في مجال تصميم الأزياء، اسما تراثيا قديما هو، «عناة»، ربة الخصب لدى الكنعانيين.

زيارة لهذه الدار أو الغاليري، تصيب بالحيرة في كمية ما تقدمه من إبداع، فعلى الرغم من الأحداث الجارية في سوريا، فإن هايكة وابنتها سلاف لم تتوقفا عن العمل بنية تقديم الجديد لهذا العام. ولا تنكر انخفاض عدد زوارها خاصة من الشخصيات الأجنبية ومن السياح الأجانب، مما اضطرها إلى تأجيل مشاريع عروض كانت مقررة لصيف هذا العام بدمشق وفي عواصم عالمية أخرى.

خلال الحديث مع هايكة وتصاميمها تعرب عن سعادتها باشتراك ابنتها سلافة في العمل معها، وتقول: «كما هي عادتنا في البحث عن مفردات تراثية جديدة وتنفيذها يدويا بشكل معاصر، ركزنا في هذا العام على أزياء الأطفال ومفردات البيت مثل الشراشف والوسائد وغيرها. وفيما يتعلق بالأزياء النسائية، فنحن لم ننسها واعتمدنا التطريز في البداية حيث نستطلع قدرات النساء في مشغلنا ونتبع خطوط الموضة ونعود إلى النماذج التراثية لدراسة كيفية الاستفادة منها في هذه التصاميم المعاصرة. فالتطريز يبقى عنصرا مهما بالنسبة إلينا، إذ على العكس من المتعارف عليه، نبدأ في اختيار التطريز أولا، ثم نختار التصميم المناسب له ثانيا. السبب يعود إلى أن هدفنا الرئيسي هو إحياء تراث بلاد الشام، وعلى هذا الأساس نستفيد من نساء الأرياف بإعطائهن التصاميم ليعملن عليها أو نقدم لهن الأدوات لتنفيذ الرسومات بالخيط، علما بأن هؤلاء النسوة تعلمن التطريز بشكل متوارث ولديهن حس فني فطري وعال على تشكيل اللوحة وتلوينها. فنحن نحرص في تعاملنا معهن على إعطائهن مطلق الحرية في الاختيار والتنفيس عن قدراتهن الإبداعية». وتشرح هايكة أنها وابنتها سلافة لا تتوقفان عن البحث والغوص في التراث، حيث تشير إلى أن «هناك منطقة في شمال حلب تتوافر على تراث فني رائع، وبشكل خاص تطريز الملابس المسماة بـ(التحريري) وهو نسج الخيط الزخرفي على الملابس. كما يوجد بها طراز آخر يظهر فيه الزي متشابها بوجهيه الأمامي والخلفي، حيث لا توجد فروقات مطلقا بينهما، وهذا نمط لم أره إلا في سوريا».

بعض التصاميم الجديدة الخاصة بالموسم الحالي تشمل فساتين عليها تطريز تراثي مع استغلال الموضة العصرية لمصلحة التراث وإحيائه. تلتقط سلافة خيط الحديث وتقول إن «الموضة تتطور بسرعة ولكن التراث نوعا ما يجب أن يمشي مع حياتنا ويدخلها باستمرار بدون أن يبقى جامدا أو أن ينظر إليه على أنه صورة قديمة. أما أحدث التصاميم لدينا منذ بداية العام وحتى الصيف فهي عديدة ومنها نحو 30 طرازا لفساتين نسائية للسهرة وللارتداء اليومي، بالإضافة إلى أزياء خاصة بالأطفال، منها فساتين وجاكيتات شتوية استخدمنا فيها الأنسجة الطبيعية كالصوف والقطن والحرير، فنحن نصنع أقمشة خاصة بنا بمحترفنا مكونة من القطن والحرير. فمثلا نستخدم في الدانتيل الحرير والقطن، وهناك تطريز جبل الحص بريف حلب، وهذا يحتاج إلى ألوان كثيرة مثلا». ولا تنسى هايكة وسلافة أن تعطيا لتصاميمهما تسميات - تضحك سلافة قائلة: «قد لا يفهم الغربيون والزائرون لـ(الغاليري) معانيها، لكننا نصر عليها، فمثلا، لدينا (فستان فاطمة)، وهو اسم لفتاة ريفية قامت بتطريز الفستان بعد أن قدمنا لها التصميم. أحيانا أخرى تكون التسمية على اسم جدة فتاة مثلا جاءت لنا بتصميم تراثي ريفي كانت جدتها تشتغل عليه وترتديه. لدينا أيضا فساتين وقمصان، وجاكيتات نسائية طرزنا عليها قصائد لشعراء من أمثال محمود درويش أو نزار قباني وغيرهما، بينما هناك تصاميم تأخذ اسم مدن مثل (فستان حماة) حيث تطريز الفستان من التراث الحموي».

المثير لدى زيارة «غاليري» المصممة الألمانية الأصل أن معماره وديكوره يضاهي تصاميمها أناقة. فهو يقع في قلب دمشق القديمة، وأشرفت هايكة على تصميم معظم مفرداته بالتعاون مع مهندسين دمشقيين في العمارة والديكور. تشرح هايكة: «كان الغاليري في سبعينات القرن المنصرم عبارة عن منزل هدم جزء منه عند توسيع الشارع، فقام أصحابه باستثمار ما تبقى منه كمنشرة خشب، ولكنهم هجروا المكان فيما بعد، فقمنا بشرائه منذ بضعة أعوام. حينها، كان في وضع معماري يرثى له، لكننا عمدنا إلى إعادة كل ما هو تراثي وقديم له والدمج في ديكوراته بكل ما يتماشى مع العصر، وكانت النتيجة مبنى مميزا يدمج في جدرانه الحجر البازلتي الأسود مع الحجر الأبيض والأصفر. وفي رواق الدار الذي كان عبارة عن الفسحة السماوية للمنزل القديم، الباحة، جئنا ببحرة رخامية مع نافورة وضعناها مكان بحرة قديمة، كما هو حال معظم البيوت الشامية التقليدية». وتتابع: «تبلغ مساحة البيت حاليا نحو 200 متر مربع ويتألف من 3 أروقة مع غرفة علوية، ويلاحظ أن الأوسط من الأروقة هو الأكبر والمكان المخصص لاستقبال الضيوف والزوار، لذلك حرصنا على أن يكون غنيا بكل مفردات التراث من كنبات ووسائد وألوان وزخارف تشعر الزائر براحة، وتتوسطه طاولة يعتليها صدر نحاسي دائري كبير مزخرف. كل هذا بالإضافة إلى الخشبيات التراثية مثل البوابات الرئيسية والفرعية والنوافذ وخزانات العرض، والإضاءة الطبيعية التي تنبعث من زجاجيات سقف (الغاليري) الذي تعلوه قبة زجاجية كتبت عليها كلمات أغنية فلسطينية بالخط العربي، بينما يغلب على النوافذ العلوية الزجاج المعشق وزخارف العجمي».

فيما يتعلق بالرواقين الآخرين فقد عرضت بهما هايكة تصاميمها الخاصة بالأزياء، فيما عرضت في نوافذ الدار، المطلة جميعها على الشارع، نماذج جميلة لحيوانات مثل الجمل والحمار والخروف، كلها مصنوعة من الأقمشة المزخرفة، إلى جانب الشراشيب وتعاويذ ونماذج زجاجية زرقاء لرد العين الحاسدة.

ولا تنسى هايكة أخيرا أن تتحدث عن المشاهير الذين زاروا دار عرضها وارتدوا من تصاميمها، وكان منهم مؤخرا الملكة نور زوجة الملك الأردني الراحل حسين، والأميرة إنارة زوجة الأمير كريم الآغا خان، ومصممة الأزياء الألمانية جيل ساندر، وملكة إسبانيا صوفيا، التي زارت «الغاليري» مرتين، كذلك زوجة رئيس الوزراء التركي أردوغان، وهلم جرا.